تصفية الحسابات السياسية الاوروبية، غموض الموقف الفرنسي من اللاجئين ومناهضة الهيمنة الامريكية

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم تكن فرنسا تعتقد بأن مجريات حرب البلقان ستسير بهذا الشكل المأساوي حتى أن كبار الأستراتيجيين كانوا منآى عن هذه التصورات . أرض المعركة , بلغراد التي تبعد عن باريس فقط بثلاث ساعات طيران , أشعلت حربا آخرى في دوائر صنع القرار السياسي . بل أن حرب البلقان هذه وضعت فرنسا في موقف محرج للغاية ذلك لأن فرنسا , رغم ترددها المعروف في إتخاذ القرارات الحاسمة , لا تستطيع أن تقف مكتوفة الأيدي لم يحدث بجوارها القريب . باريس قلقة من حملة التطهير العرقي بالرغم من أن مشاركتها في إطار الحلف الأطلسي ما زال ضعيفا . ومن المعروف جيدا أن تسارع أحداث حرب البلقان أصاب دوائر القرار الفرنسي بالصدمة . وبدلا من أن يخفف القصف الأطلسي على بلغراد من حدة حملة التطهير العرقي فأنه ساهم في تفعيله وتنشيطه تحت قناع المواجهة الحربية . ولا يمكن أن يغفل أي مراقب حقيقة أن القصف الأطلسي كان الدافع الرئيسي للهجرة الجماعية لسكان أقليم كوسوفو التي كان يخطط لها ميلوسوفيتش منذ وقت طويل والتي فاجأ بها الحلف الأطلسي . وقد كان الصربيون يخططون لذلك أكثر مما كان يتصوره إستراتيجيو الحلف الأطلسي الذين أخطأوا في تقدير حجمها وأبعادها , وهي من أخطر وأكبر الهجرات الجماعية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية . وكان منظرو الأستراتيجية الفرنسية يتصورون بأن هذه الهجرة الجماعية ستتم داخل إطار الأقليم ذاته , وهذا ما لم يحصل بطبيعة الحال . وكذلك إستراتيجيو الحلف الأطلسي أنفسهم لم يتوقعوا أبعاد الهجرة الجماعية هذه . والسؤآل المطروح الآن هو : كيف يتصرف الحلف الأطلسي ب [ 400 ] ألف نازح ومهجر من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ والعجائز المندفعين نحو جبال ووديان ألبانيا وماسيدونيا ومونتنيغرو والباحثين عن ملاذ آمن ؟ وهل أن الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي مستعدة لأستقبال هذه الموجات البشرية الزاحفة كما إقترح الألمان هذه الخطة , ووافق عليها الأميكيون , فيما رفضتها كل من إيطاليا وفرنسا . من الواضح أن أوروبا تصفي حساباتها السياسية على حساب ألبان كوسوفو الذين تحولوا الى مجرد ضحية . إن شأنها شأن كل الحروب التي خاضتها أمريكا وحليفاتها من الدول الأوروبية قد هيأت لهذه الحرب بدعاية مسبقة , وعملت على ترويجها , وكشفت عن ممارسات ميلوسوفيتش في التطهير العرقي وقلع جذور كل ماهو غير صربي .وبعد مضي قرابة إثنى عشر يوما على بدء عمليات قصف الحلف الأطلسي أظهرت الأحصائيات بأن 67 بالمائة من الفرنسيين يقفون وراء قرار الحكومة الفرنسية بمواصلة عمليات القصف الجوي لبلغراد . ولعل أكثر ما يخيف الدول الأوروبية , ومن ضمنها فرنسا على وجه التحديد , هو تنامي الهيمنة الأمريكية على القرار الأوروبي . وتبقى أوروبا مسؤولة عما يحدث في كوسوفو وذلك نتيجة لتسامحها مع بلغراد في سياستها أزاء المسلمين في البوسنة والهرسك قبل أعوام . كما أن أوروبا لم تعمل على محاكمة مرتكبي جرائم التطهير العرقي السابقة والتي يسجل فيها سياسة ميلوسوفيتش سابقة خطيرة . المحللون الأستراتيجيون يعتبرون أن مايقوم به الحلف الأطلسي وحلفاؤه من الأوروبيين ناتج عن تذبذب هذه السياسة . وهل يعني ذلك أن ضرورات السياسة الغربية تسبق ضرورات الدفاع عن مسلمي ألبان كوسوفو رغم أن أوروبا ستتحمل مسؤولية هذه المشكلة الأكثر سخونة في قلب أوروبا . إن الموقف الفرنسي مازال يؤكد على عدم تحمسه بأستقبال لاجئين من ألبان كوسوفو في داخل الأراضي الفرنسية لأن ذلك كما يعتقد الفرنسيون سيعطي دعما لسياسة التطهير العرقي والتهجير الجماعي التي ينتهجها ميلوسوفيتش . فالأشتراكيون متذبذبون بين إيمانهم بأن فرنسا هي أرض اللجوء الأنساني وقضية المقيمين غير الشرعيين [ مما لا يتوفرون على أوراق الأقامة الرسمية ] وكذلك بين المبادىء العالمية الكبرى وضرورات السياسة الداخلية وبين الحملة العسكرية والحملة الأنتخابية . مازال الموقف الفرنسي غامضا أزاء تدفق الموجات البشرية من ألبان الكوسوفو نحو حدود ألبانيا وماسيدونيا ومونتنغرو وخصوصا أن أوضاعهم الصحية والمعيشية تزداد سوءا يوما بعد آخر . ليونيل جوسبان , رئيس الحكومة الأشتراكية , تدخل منذ إندلاع حرب كوسوفو لأول مرة من على شاشة التلفزيون في 8 نيسان / أبريل الجاري حيث ركز على ضرورة البحث عن حل دبلوماسي . وإذا كان موقف جاك شيراك حازما , فأن موقف رئيس الوزراء تميز بالحيطة والحذر . وقد ناقش الأزمة مع هوبير فيردان [ وزير الخارجية ] وألن ريشار [ وزير الدفاع ] وشارل جوسلين [ وزير التعاون ] ودانييل فاليان [ وزيز العلاقات مع البرلمان ] والجنرال جان ــ بيير كيليش [ رئيس أركان الجيش الفرنسي ] . لقد تحدث لويونيل جوسبان مع وزرائه ومسؤوليه عن الوضع العسكري مركزا على البحث عن الدور الدبلوماسي . كما بحث ضرورة مشاورة الروس في معالجة هذه الحرب . ويعتقد كثير من المسؤولين الفرنسيين في أوساط اليسار بأن فرنسا إصطفت مع قرارات لم تشارك في إتخاذها أو صياغتها . وكثير أيضا يؤمن بأن عمليات قصف الحلف الأطلسي ستبوء بالفشل . وقد ذهب البعض الى القول بأن هذه ليست حربنا كما قالها جان ـ بيير شوفنمان , وزير الداخلية الفرنسي , غداة حرب الخليج الثانية . ومنهم من بالغ في تصوير الموقف الفرنسي الى حد القول بأن فرنسا فقدت فاعليتها الدبلوماسية وقيادتها لجنودها .إن الشروط الخمسة التي حددتها الأمم المتحدة الى ميلوسوفيتش غداة إعلانه عن قرار وقف إطلاق النار من طرف واحد إعتمد على قاعدة الأقتراحات الفرنسية . وبأستثناء بريطانيا , فأن دول الأتحاد الأوروبي تريد الحفاظ على إستقلالية قراراتها عن الولايات المتحدة التي تهيمن وتقود العمليات العسكرية . إن المعاداة الفرنسية للهيمنة الأمريكية تجسدها الحكومة الفرنسية والحزب الأشتراكي وهو أكثر بروزا من المواقف الأوروبية الآخرى . ولذلك فأن موقف الحزب الشيوعي الفرنسي المعادي لقصف الحلف الأطلسي , والمتآلف مع الحكومة الفرنسية حاليا, إنما يصب في تيار ليونيل جوسبان ويساعدهم على تجاوزهم للخلافات الموجودة داخل الأئتلاف الحاكم . وقد إتهم ألن بوكيه , رئيس الكتلة الشيوعية في الجمعية الوطنية الحلفاء بأنهم إقترفوا خطأ فادحا عندما أغلقوا أبواب السلام المفتوح من الصربيين . كما أشار ليونيل جوسبان الى معارضته لأي إستقبال جماعي للمهجرين من ألبان كوسوفو في الأراضي الفرنسية مما جرح مشاعر المأتلفين معه في الحكومة . وقررت الحكومة الفرنسية تخصيص 225 مليون فرنك كمساعدة للآجئين ومنح مساعدة إقتصادية أولية الى كل من ألبانيا ومقدونيا . أما من جهة ليمين فقد أكد ألن مادلان , رئيس تيار اليمقراطيين الليبراليين على خطأ [ إستباق ] الحلف الأطلسي للأحداث . فيما أشار جيسكار ديستان , الى أن قيادة الأمريكيين للعمليات العسكرية أمر طبيعي لكن عودة المهجرين من ألبان كوسو مسؤولية يتحملها الأوروبيون . وأكد الخضر ــ من أنصار البيئة ـ اليساريين على أن الأوروبيين إذا لم يسارعوا في إنقاذ ألبان كوسوفو فأنهم سيتحولون الى ما يشبه حالة الفلسطينيين في أوروبا . أما حركة المواطنين التي يترأسها جان بيير ــ شوفنمان , وزير الداخلية الحالي , فقد دعت جاك شيراك الى التخلي عن خطاب الحرب والسير في طريق التوصل الى إتفاق سياسي الذي الضمانة الوحيدة للمصلحة الوطنية الفرنسية وإستقلال البلاد . على أية حال , أن حرب كوسوفو وحدت موقفي الرئاسة والحكومة في فرنسا , وتحولا الى صوت واحد . والأثنان ذكرا ميلوسوفيتش بأن الجرائم المقترفة ضد الأنسانية لا يمكن أن تذهب دون حساب . وقد أكد جاك شيراك في خطابه : إن ألبان كوسوفو لم يهربوا من جراء قصف الحلف الأطلسي كما تدعي الأجهزه الدعائية للديكتاتور بل هربوا من هجوم الجنود والمليشيا الصربيين . فيما ذهب ليونيل جوسبان الى القول بأن إنخراط فرنسا في الحلف الأطلسي يهدف فيمل يهدف الى تكسير الآلة العسكرية الصربية المعتدية وذلك من أجل فرض الحل الدبلوماسي فيما بعد . وفي رأي الدوائر الفرنسية الحاكمة أن ميلوسوفيتش لم يعد رجل التفاوض . والسؤآل المطروح حاليا هو : ما هو مسار الاستراتيجية الغربية في هذا الأطار ؟ ما يتعلق بالأهداف السياسية ما زال الفرنسيون , والأوروبيون , يتعلقون بخطة رامبوييه بأعتبارها مرجعا أساسيا ولكنها لا تتحدد بأطار معين بعد بدء الحرب . كما أن فكرة الحكم الذاتي لوحدها لا تفيد ألبان كوسوفو في الوقت الحاضر . ولذلك يلجأ الفرنسيون الى ضرورة اللجوء الى الأمم المتحدة من أجل أيجاد حل سياسي . وطالما لا يستسلم ميلوسوفيتش الى الأرادة الدولية فأن ــ تحطيم ـ على حد قول جاك شيراك وليس ــ تحجيم ـ آلته العسكرية هوالهدف . وقد جدد الأوروبيون عزمهم على مواصلة دعم الحل العسكري في الوقت الحاضر . ومن أجل خطة إعادة المهجرين من ألبان كوسوفو فأن الخطة الغربية تستوجب تهيأة الأرض أي ضرورة تدخل القوات الغربية . وهذه مسألة لها نتائجها الآخرى . بقلم: شاكر نوري باريس: البيان

Email