وراء الأحداث: المصالح الاستراتيجية الأمريكية معلقة بالسلام في الشرق الأوسط:بقلم-مصطفى كمال

ت + ت - الحجم الطبيعي

أثناء جنازة رابين سأل كلينتون خليفته شيمون بيريز عما إذا كانت الاقتراحات السورية ما زالت مقبولة فأجاب بالايجاب ما ان تخطو أمريكا خطوة ايجابية في الطريق الصحيح حتى ترتد مذعورة كأنما تلاحقها اسرائيل بالسياط هناك سوابق عديدة لنجاح الضغط الأمريكي على اسرائيل.. فلماذا لا يتكرر ذلك الآن.. مع ان الحاجة شديدة إليه؟ في سنة 1967 ــ أي منذ أكثر من ثلاثين عاما ــ احتلت القوات الاسرائيلية المعتدية مرتفعات الجولان السورية. وفي نفس العام أصدر الكنيست ما يسمى (قانون الجولان) الذي ينص على ان يطبق على الأراضي المحتلة كافة التدابير والاجراءات القضائية والقانونية والإدارية المطبقة في اسرائيل. وفي عام ,1981 وبناء على اقتراح من النائب الليكودي يهودا هارئيل. وافق الكنيست الاسرائيلي على قانون يقضي باعتبار هضبة الجولان جزءا لا يتجزأ من أرض اسرائيل. كما جاء في نص مشروع القانون الذي تقدم به النائب المذكور ان الغرض منه هو أن ينطبق على الجولان المبدأ القائل بأنه (لا يجوز للحكومة أن تتنازل عن سيادة الدولة أو سيطرتها على أرض أو جزء من الأرض إلا بعد أن يتم التصديق على التنازل بأغلبية أعضاء الكنيست وبناء على استفتاء شعبي) . وبالطبع قوبل هذا الاجراء الاسرائيلي بالرفض والشجب والادانة والاستنكار من جانب سوريا والدول العربية, ومن معظم دول العالم بدرجات متفاوتة, ولكن الولايات المتحدة بالذات لم تحرك ساكنا رغم ما يمثله من انتهاك صارخ للشرعية الدولية واتفاقيات جنيف, ومع انه يغلق الطريق أمام أي جهد حقيقي من أجل التوصل إلى تسوية سلمية شاملة في الشرق الأوسط. وهكذا ظل وضع مرتفعات الجولان السورية مجمدا لا يتحرك حتى كان مؤتمر مدريد والظروف التي أحاطت به, والتي أسفرت عن تقسيم مشكلة الشرق الأوسط إلى عدة مسارات كان أحدها المسار السوري ــ اللبناني, في اطار المفاوضات الثنائية, فضلا عن فتح الطريق لما يسمى (المفاوضات متعددة الأطراف) والتي كان هدفها في النهاية تهيئة الأرض لتطبيع العلاقات العربية ــ الاسرائيلية إلى آخر مدى, وعلى النحو الذي يتيح لاسرائيل أن تصبح جزءا من النسيج العضوي للمنطقة. وبصرف النظر عن الجمود الذي لحق بعملية (المفاوضات متعددة الأطراف) بعد أن ثبت للجميع ان أي تقدم فيها سيظل مستحيلا طالما لم تسبقه تسوية شاملة مقبولة على جميع المسارات الثنائية, فإن المسار السوري بالذات ظل لا يبارح مكانه, رغم اتاحة أكثر من فرصة لاحراز تقدم فيه, حيث الفجوة بين الموقفين, السوري والاسرائيلي تبدو للوهلة الأولى مستحيلة العبور. فالسوريون غير مستعدين بالمرة للتنازل عن شبر واحد من أراضيهم من ناحية, والاسرائيليون من جانبهم متمسكون بأن الجولان جزء لا يتجزأ من أرض اسرائيل. والإدارة الأمريكية التي سلم العرب بأنها تمسك في أيديها بكل أوراق اللعبة غير مستعدة لممارسة أي ضغط على حكومة اسرائيل رغم اقتناعها بعدم شرعية استيلائها على الجولان. وبالنسبة للموقف الأمريكي فإنه يتسم بقدر كبير من التناقض يصعب تفسير أسبابه. فالذي لا نزاع فيه أن الولايات المتحدة لها مصلحة استراتيجية أكيدة في السلام الذي يعني الاستقرار في الشرق الأوسط.. ليس فقط لأن السلام وحقن الدماء مطلب إنساني يليق بالدولة التي تتصدى منفردة لزعامة العالم ان تدعيه, وإنما لان السلام في هذه المنطقة هو الضمان الوحيد لتدفق النفط من مصادره وفي طرق نقل بلا عقبات أو مخاطر, ولتوفير البيئة المناسبة للاستثمارات والتبادل التجاري وجني الأرباح.. وأخيرا وليس آخرا هو السبيل المريح لأن تكون هذه المنطقة رصيدا ثقيلا للولايات المتحدة الأمريكية في سباقها المنتظر مع التكتلات الاقتصادية المنافسة في أوروبا والشرق الأقصى. وهذه كلها مصالح استراتيجية على اعلى درجة من الأهمية, ومن ثم فان من المنطقي جدا ان يكون السعي من اجل انهاء النزاع العربي الاسرائيلي هو حجر الزاوية في السياسة الامريكية ازاء منطقة الشرق الاوسط. والادارة الامريكية تدرك ولا شك ان السلام, اي تسوية النزاع بين العرب واسرائيل سيظل امنية عزيزة المنال مالم يتحقق النجاح على المستوى السوري.. بالرغم من اتفاقيات كامب ديفيد التي حققت السلام مع مصر, والمعاهدة مع الاردن, واتفاق اوسلو ثم واي بلانتيشن مع الفلسطينيين, وحتى لو تم الانسحاب من طرف واحد من لبنان, سيظل السلام معلقا على خيط واه مالم تتم تسوية مشكلة الاحتلال الاسرائيلي لهضبة الجولان. وهذه التسوية مستحيلة الا مع انسحاب اسرائيل بالكامل من الاراضي السورية المحتلة. غير ان الملاحظ ان الولايات المتحدة الامريكية ما ان تخطو خطوة ايجابية صحيحة في هذا الاتجاه حتى ترتد عنها مذعورة كأنما تلاحقها اسرائيل بالسياط. ولقد حدث في عام 1993 بالفعل اثناء زيارة رئيس وزراء اسرائيل الاسبق اسحق رابين للولايات المتحدة, ان وافق الجانب الاسرائيلي بالفعل على بدء مفاوضات على المسار السوري على اساس الارض مقابل السلام, وانسحاب اسرائيل بالكامل من مرتفعات الجولان السورية في مقابل ضمانات امنية من جانب سوريا تشمل تجريد منطقة الجولان من السلاح, والتطبيع الكامل للعلاقات بين الطرفين. وبدأت بالفعل محادثات عن طريق طرف ثالث, هي وزارة الخارجية الامريكية حول الضمانات الامنية, حيث تمسك الطرف السوري بأن تكون المساحة المجردة من السلاح بالتساوي على جانبي الحدود.. ثم تعطلت الوساطة بسبب انتخابات الرئاسة ومجيء رئيس جديد للولايات المتحدة هو بيل كلينتون الذي كانت ادارته في حاجة الى بعض الوقت لاعادة ترتيب الاوراق. ثم حدث بعد ذلك اغتيال اسحق رابين, وعندما جاء الرئيس كلينتون لاسرائيل للتعزية وجه سؤالا مباشرا الى شيمون بيريز.. خليفة رابين ـ عما اذا كانت الاقتراحات فيما يتصل بالمسار السوري ما زالت مقبولة, فأجاب بيريز بالايجاب. وقد قام كلينتون بنقل ذلك الى السوريين في رسالة رسمية كانت هي التي اشار اليها وزير الدفاع السوري مصطفى طلاس اثناء زيارته الاخيرة لفرنسا والتي قال بشأنها ان لدى الحكومة السورية وثيقة امريكية تؤكد تعهد اسرائيل بالانسحاب من الجولان. وهذا هو الاساس الذي تستند اليه دمشق عندما تتمسك بأن تبدأ المرحلة الجديدة من المفاوضات مع الاسرائيليين من حيث توقفت في عهد بيريز. والسؤال الآن هو لماذا لا تضغط امريكا على حكومة نتانياهو الضغط الكافي لاقناعها بالتخلي عن تعنتها المتناقض لجميع الاعراف الدولية وهي تعلن انها غير ملزمة بما وافقت عليه الحكومة السابقة؟ هل لانها عاجزة فعلا عن ممارسة مثل هذا الضغط! لا يبدو هذا مبررا معقولا, ليس فقط للاسباب المنطقية البديهية التي تفترض ان دولة صغيرة جدا في حجم اسرائيل لا تقوى على مقاومة دولة كبيرة جدا في حجم امريكا, خصوصا اذا كانت الدول الصغيرة تعتمد في كل صغيرة وكبيرة في وجودها على الدولة الكبرى.. وانما ايضا لأن السوابق التاريخية تؤكد هذه الحقيقة بما لا يقبل المناقشة. واقرب هذه السوابق عندما امرتها الا تحاول الرد على الصواريخ العراقية وهي تسقط فوق اراضيها اثناء حرب تحرير الكويت فأذعنت للامر والتزمت بالصمت. وقبل ذلك اذعنت لاوامر, واشنطن فلم تتعرض لقوافل المقاومة الفلسطينية وهي تنسحب من لبنان الى تونس.. وقبل هذه الواقعة وتلك عندما انسحبت من سيناء سنة 1956 بمجرد تلقيها اشارة تليفونية من الرئيس الامريكي حينذاك دوايت ايزنهاور. امريكا ــ اذن ــ تستطيع, ولكنها لاتفعل, لماذا؟ هل لانها تتوقع ان سوريا قد يلين موقفها في النهاية او ان هذا التمسك المستميت بالحق السوري في الجلاء الكامل عن مرتفعات الجولان انما هو نوع من التشدد المنسوب للنظام القائم في دمشق, وانه لا يلبث ان يخف بعد ذلك؟ اذا كان هذا هو السبب, فإن الولايات المتحدة تكون واقعة في خطأ لعله يرقى الى مستوى الخطيئة, فالموقف السوري المستند الى الحق الشرعي ليس موقفا شخصيا او نظاما بل هو موقف كل السوريين ومعهم كل العرب, ولن يوجد في سوريا تحت اي ظرف من الظروف (انطون لحد) آخر يقبل التفريط في ذرة واحدة من ارض الوطن السوري. ام لعل الولايات المتحدة تلعب لعبة الصبر, طالما ان الوضع القائم قابل للاستمرار الى اجل غير مسمى ــ وطالما الامور مستقرة فلاداعي للعجلة عسى ان تأتي الايام بجديد هنا او هناك. ولكن هذه ايضا مخاطرة غير مأمونة العواقب, فالوضع المتوتر قد ينفجر في اية لحظة فلا يطيح فقط بأي امل في سلام قريب, بل من المؤكد انه سينسف كل ما تم حتى الآن من خطوات جادة على المسارات الاخرى. واولى بالولايات المتحدة ان تستمع جيدا لتحذيرات الرئيس حافظ الاسد من ان الاوضاع في المنطقة تسير بقوة في اتجاه العنف. واولى بها ايضا ان تعيد قرار آخر تقرير لجهاز المخابرات العسكرية الاسرائيلية (امان) حيث يقول ان الجمود المطلق بالقنوات السياسية يزيد من احتمال لجوء سوريا الى الخيار العسكري) . خلاصة القول ان الجمود الراهن على المسار السوري لا يمكن ان يستمر او بمعنى اصح لاتستطيع الولايات المتحدة ان تطمئن الى استمراره. ومن ثم فإن المتوقع ان يشهد هذا الجمود كسرا ملحوظا بمجرد انتهاء الانتخابات الاسرائيلية المقرر اجراؤها في مايو المقبل. وسواء ذهب نتانياهو, وهذا الاحتمال الاغلب حتى الآن او بقى, المرغمة على البت بسرعة في موضوع الانسحاب من لبنان والتي لاشك قد اقتنعت باستحالة فصل الانسحاب من لبنان عن المسار السوري, ستجد نفسها مضطرة الى السعي وراء المفاوضات مع سوريا. ويذكر في هذا الصدد ان نتانياهو نفسه صرح منذ ايام بقوله ان حكومته (مستعدة لان تطرح كل شيء على مائدة المفاوضات, بما في ذلك ما جرت مناقشته مع حكومة حزب العمل السابقة) . وقد سبق ان صرح اسحق موردخاي وهو الآن احد اهم منافسي نتانياهو, بقوله عندما كان وزيرا للدفاع انه مستعد (للتوجه الى دمشق على الفور) مشيرا الى ان (حجم الانسحاب من الجولان مرهون بمدى الامن الذي تستطيع اسرائيل ان تحصل عليه) . وفي نفس الوقت صرح الرئيس حافظ الأسد اكثر من مرة انه في حالة الانسحاب الكامل من مرتفعات فإن كل شيء يكون قابلا للمناقشة. ومع ان هذه التصريحات من الجانبين يمكن الالتفات حولها, او حتى تأويلها بعكس ما تعنيه لاول وهلة, الا انها بلاشك تعبر عن تقدم في طريق القفز فوق الهوة السحيقة التي تفصل بين الموقفين. وهي قفزة يبررها من ناحية ادراك الادارة الامريكية للخطر الذي يهدد مصالحها, ونحو التيارات المتكلفة الى سلام حقيقي في اسرائيل, واقتناع السوريين بان الفرصة السانحة لتحرير الارض بالوسائل السلمية لاينبغي ان تهدر. وايا كان الامر, فسوف تتضح الصورة بأكملها عقب الانتخابات الاسرائيلية.

Email