وراء الاحداث: الجذور التاريخية لمشكلة الجنوب السوداني:بقلم- مصطفى كمال

ت + ت - الحجم الطبيعي

ان السودان يمثل نفيا واقعيا للاكذوبة التي تقسم افريقيا الى عرب شمال الصحراء وافريقيين جنوبها نعم, التدخلات الاجنبية المعادية مسؤولة ولكن هناك فوارق عرقية ودينية وعوامل سخط متراكمة ادت الى الانفجار المسلح هناك امل في الحل, فالنظام القائم لا يستطيع ان يتحمل استمرار القتال, وقوى المعارضة فقدت الكثير من الدعم الذي تتلقاه من الخارج الحديث عن مشكلة جنوب السودان لا يستقيم إلا اذا بدأنا بشيء من الجغرافيا وشيء من التاريخ وشيء ثالث من الظروف السياسية الذاتية والموضوعية التي احاطت بالسودان وتحيط به على الاقل منذ ظهر على الخريطة كجمهورية مستقلة. فمن ناحية الجغرافيا نجد ان السودان من حيث المساحة اكبر دولة في افريقيا, تقترب مساحته من مليون ميل مربع, ويصل عدد سكانه الى نحو 33 مليون نسمة موزعين على 15 محافظة منها ثلاث هي ما اصطلح على تسميتها محافظات الجنوب و70 بالمائة من سكانه مسلمون معظمهم ينحدرون من اصول عربية بينما هناك نحو 7 ملايين ينحدرون من قبائل وثنية تحول نحو ربعهم الى المسيحية بفضل البعثات التبشيرية الغربية والبريطانية في الاساس والتي كانت تتخذ من التبشير وسيلة لتثبيت دعائم الاستعمار وكسب العملاء. ويحيط بجنوب السودان اوغندا وكينيا واثيوبيا وجمهورية افريقيا الوسطى والكونغو وتشاد وكلها كانت مثل السودان مستعمرات بريطانية او فرنسية او بلجيكية ولم تحصل على استقلالها نظريا إلا في الستينات, وان كان النفوذ الاستعماري والمصالح الاستعمارية ما زال لهما وجود كبير او صغير, وقادر بشكل او اخر على التأثير في سياساتها وعلاقاتها بدول الجوار.. ومنها السودان. ومتوسط الدخل السنوي للفرد في السودان حسب تقديرات البنك الدولي نحو 180 دولار وهو بذلك يدرج في خانة (الدول الاكثر فقرا) مع ان اراضيه الشاسعة تحتوي على ثروات زراعية ومعدنية طائلة لم تستغل بعد. حتى ان الدوائر الاقتصادية العالمية اعتادت ان تصف السودان بأنه (سلة غذاء العرب) اي ان رصيده من الارض الصالحة للزراعة يكفي لاطعام الـ 250 مليون عربي. ومن الناحية الطوبوغرافية وهي وثيقة الصلة بالتقسيم السكاني نجد ان شمال السودان يتكون من الصحراء الليبية في الغرب وهضاب النوبة في الشرق ويفصل بينهما شريط زراعي ضيق حول نهر النيل.. ووسط السودان عبارة عن مساحات واسعة من الارض الخصبة والمراعي والغابات بينما الجنوب يتميز بكثافة غاباته ووفرة في الامطار والمياه التي تغرق الاراضي الشديدة الخصوبة طول العام, وهنا بالذات تشتد الحاجة الى المشاريع الجبارة التي تحتاج الى كثير من الجهد والمال واكثر من ذلك تحتاج الى الاستقرار. وفي غيبة هذه المشاريع الكبرى وضعف البنية الاساسية وصعوبة شق الطرق وسط الغابات والمستنقعات, بالاضافة الى الظروف المناخية غير المواتية, ظل جنوب السودان لسنوات طويلة يعاني من آفات التخلف, مما أدى الى تراكمات وجدت ارضا خصبة لكي تتضاعف في ظل الاوضاع القبلية من جهة والسياسية الاستعمارية من جهة اخرى. وهذا ينقلنا الى الحديث عن التاريخ. فحتى ثمانينات القرن التاسع عشر كان السودان ملحقا بمصر في اطار الامبراطورية العثمانية وعندما استولى البريطانيون على مصر عمليا اثر هزيمة ثورة عرابي انتفض السودانيون بقيادة (المهدي) حتى لا يقع السودان تحت سيطرة بريطانيا واستطاع المهدي وخلفاؤه ان يحافظوا على استقلال السودان حتى عام 1898 حين استطاع الانجليز المسيطرون على مصر ان يشكلوا حملة قادتها انجليز ووقودها مصريون لاعادة فتح السودان الذي اصبح بعد ذلك اسمه السودان المصري الانجليزي.. ولكن هذه كانت مجرد تسمية لان الواقع انه كان مستعمرة انجليزية خالصة حاكمه انجليزي يتلقى اوامره من لندن وينفذ سياستها. ومنذ اللحظة الاولى قامت سياسة بريطانيا الاستعمارية في السودان على شقين. الشق الاول هو عزل السودان عن مصر, عمليا ونفسيا وسياسيا والشق الثاني هو تعميق الفوارق بين شمال السودان ـ العربي المسلم وجنوب السودان القبلي الوثني الذي تتسع فيه الفرصة امام البعثات التبشيرية لكي تواصل تنفيذ الاهداف الاستعمارية تحت ستار الدين. وقد لا يكون المجال مناسبا للحديث عن اخطاء الحكومات المصرية قبل ثورة يوليو التي ساعدت بقصد او بدون قصد على نجاح الشق الاول من السياسة الاستعمارية.. ولكن هذه الاخطاء قد توقفت على اية حال بعد الثورة.. وكانت نتيجة ذلك ان حصل السودان على استقلاله واعلن قيامه كدولة حرة مستقلة ذات سيادة في اول يناير سنة 1956. وهكذا انتهى الشق الاول من سياسة بريطانيا الاستعمارية ولكن بقي الشق الثاني الذي لم يعد مجرد (سياسة بريطانية) ) وإنما هو جزء من السياسة الغربية عموما ازاء العرب وافريقيا. وهنا ينبغي ان نتنبه الى ان السودان يمثل حساسية خاصة لدى الغرب الذي يقيم استراتيجيته في افريقيا على اساس تقسيمها الى عرب شمال الصحراء الكبرى وافريقيين جنوبها. وذلك لأن السودان بوضعه الحالي يمثل تكذيبا واقعياً لهذا الزعم الامبريالي الذي يستهدف العرب وأفريقيا معاً. وهكذا نجد أصابع الاتهام تتجه مباشرة إلى الدول الكبرى التي تسعى بكل الوسائل لفتح الجراح في جسد الأمة العربية واستنزافها حتى العدم. غير أن هذا لا يعني ان تلك القوى المعادية للأمة العربية والطامعة في ثروات افريقيا هي التي اختلقت الأزمة في جنوب السودان, فالأزمة لها جذورها الذاتية التي سبقنا الى ذكرها, ولكن الذي لا شك فيه ان الغرب ــ الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية اليوم ــ يؤجج نار القتال في الجنوب, وهو الذي يقدم السلاح للمقاتلين, وهو الذي يسعى بكافة الوسائل من أجل احباط أية محاولة لوقف النزيف. غير أن هذا لا ينفي مسؤولية الحكومات السودانية وبالذات سلسلة الانقلابات العسكرية التي استولت على السلطة في الخرطوم على تردي السخط في الجنوب حتى وصل الى حد رفع السلاح, فقد استمرت النظم العسكرية في تجاهل الأوضاع المتردية في الجنوب, وزاد من تأزم الجنوبيين اصرار النظام الحالي على فرض وجهات نظر الأصوليين المسيطرين على أداة الحكم في الخرطوم على الجنوبيين المختلفين عن الشمال سواء أكانوا وثنيين أو مسيحيين, وخاصة حول القضايا المتصلة بتطبيق الحدود الشرعية على غير المسلمين. ويضاف الى ذلك تفاقم الضائقة الاقتصادية التي ترتبت على تدفق أكثر من 700 ألف لاجئ إلى جنوب السودان من البلدان المجاورة التي ضربها الجفاف في منتصف الثمانينات. وهكذا كانت الأرض ممهدة تماما للانفجار الذي ما لبث أن اتخذ شكل حرب أهلية, طرفاها الحركة الشعبية في الجنوب, والسلطة المركزية في الخرطوم, والتي مضى عليها الآن أكثر من عشر سنوات, دون ان يستطيع أحد الطرفين حسمها لصالحه, وانما هي نزيف مستمر, وجرح غائر آخر في جسد الأمة العربية يزيدها ضعفاً على ضعف. ولعل أسوأ ما في هذا الجرح هو المأساة الانسانية الرهيبة التي يعيشها الآن أكثر من مليون نمسة من أهل المناطق الواقفة على خطوط النار بين الطرفين تحولوا إلى لاجئين مشردين بلا مأوى أو طعام, ومع أن هذه المأساة استفزت وكالات الغوث العالمية لتقديم مساعداتها الغذائية والدوائية للمواطنين المنكوبين, الا ان كلا من الطرفين المتحاربين يتهم الطرف الآخر بأنه يستولي على هذه المعونات ويستخدمها في أغراضه العسكرية. ومع ذلك ينبغي الانتباه الى ان الحركة الشعبية ــ كما يعلن قائدها العسكري جون قرنق ــ لا ترفع شعار الانفصال, وانما هي جزء من تجمع وطني يضم كل الفصائل السودانية المعارضة للنظام العسكري القائم. وفي اطار هذا المفهوم تدخلت القاهرة ــ رغم كل تحفظاتها على النظام الحاكم في السودان ــ من أجل التوصل الى صيغة توقف النزيف, وكان تدخلها لدى المعارضة من أجل تأكيد تمسكها بوحدة أراضي السودان. ومن ناحية أخرى وربما بهدف فتح ثغرة في صفوف المعارضة الموحدة, أعلن النظام السوداني موافقته من حيث المبدأ على اقتراحات القاهرة, بما في ذلك اجراء استفتاء في الجنوب, ولكنه طلب فترة انتقالية يتم خلالها اعادة توطين اللاجئين, واعمار المناطق المدمرة, وازالة الألغام الأرضية. وقد استطاعت القاهرة في أغسطس من العام الماضي ان تجمع ممثلي الطرفين حول مائدة التفاوض, بعد ان بدا أن هناك ما يشجع على التوصل لتسوية, ولكن ممثلي التجمع الوطني أبدوا تشددا مفاجئا حول حدود المناطق التي سيتناولها الاستفتاء, ومع ذلك فالجهود ما زالت مستمرة. وهنا ينبغي ملاحظة أن مصر لها مصلحة مباشرة في تسوية الأوضاع في جنوب السودان بالشكل الذي يصون وحدة التراب السوداني, ليس فقط من منطلق المبدأ الثابت الذي يرفض تقسيم أي بلد عربي, وإنما ايضا لأن استمرار القتال في هذه المنطقة قد عطل بالفعل مشروعات ترويض منابع النيل, ومنها مشروع قناة جونجلي الذي توقف منذ عشر سنوات بعد أن انتهى نصف العمل فيه, وهو المشروع الذي كان يعني بالنسبة لمصر زيادة في مواردها المائية لا تقل عن خمسة مليارات متر مكعب في السنة, هي في أمس الحاجة اليها لكي تستكمل مشاريعها الكبرى في توشكى وشرق العوينات وشبه جزيرة سيناء. والآن, ماذا عن المستقبل؟ قد لانكون مبالغين في التفاؤل اذا قلنا ان هناك مؤشرات ايجابية ترجح وصول الطرفين الى نقاط التقاء يتحقق معها وقف المأساة في الجنوب, والتغلب على العوامل الخارجية التي يهمها استمرار النزيف في جسد الأمة العربية, وتعميق أسباب التفتت والانقسام. من هذه المؤشرات ان احتدام النزاع بين اريتريا واثيوبيا سيؤدي الى (تليين) مواقف التجمع الوطني المتشددة, بعد أن وجدت نفسها فجأة محرومة من الدعم المشترك الذي كانت تلقاه من الدولتين. ولعلنا نذكر ان النظام السوداني كثيرا ما اتهم كلا من اثيوبيا واريتريا بأن لهما قوات تحارب مع جيش قرنق في الجنوب وفي الشرق. كذلك فإن الصراع المسلح في الكونغو, وتورط أوغندا فيه قد حرم قوات قرنق من دعم مهم كان يسند ظهرها ويمثل بالنسبة لها عمقاً استراتيجيا في البلدين. ولكن يبقى بعد ذلك أهم ما في الأمر, وهو أن تدرك الحكومة السودانية ضرورة احترام الخصائص العرقية للجنوب, وأن تتقدم بخطة واضحة تحقق لأهل الجنوب الذي طال اهمالهم وعدم الانتباه لمطالبهم قدراً واسعاً, يحققون معاً ذاتهم, وفي الوقت نفسه يبقي على وحدة السودان. ولنأمل خيرا .. عسى أن تخلص النوايا لا من أجل السودان فقط, ولكن من أجل العرب جميعاً.

Email