تقارير(البيان): الاقتصاد يقود قافلة العمل الدبلوماسي في مصر

ت + ت - الحجم الطبيعي

بدت وحدات العمل الدبلوماسي في وزارة الخارجية المصرية خلال الأيام القليلة الماضية في صورة نادرة وغير مألوفة, فقد صارت جميع المهام الدبلوماسية على أجندة عمل الوزارة ذات طبيعة اقتصادية خالصة , وتراجعت من جدول الدبلوماسيين المصريين المهام السياسية مقابل تكثيف العمل على صعيد الاتفقات التجارية والبروتوكولات الاقتصادية ومعاهدات التعاون الاقتصادي المشترك, الأمر الذي دفع بأحد كبار الدبلوماسيين في الوزارة إلى التعليق بأن التعاون الاقتصادي أصبح المفتاح السحري للعلاقات الخارجية للقاهرة. ففي الوقت الذي أنهت فيه ادارة التعاون الاقتصادي بالوزارة تقريرها حول نتائج منتدى (دافوس) الاقتصادي الشهر الماضي, الذي شارك في فعالياته الرئيس مبارك ووزير الخارجية عمرو موسى, كانت ادارة المنظمات الدولية المتعددة الأطراف بقيادة السفير سيد قاسم المصري تستعد بالمشروعات والأفكار الاقتصادية للذهاب إلى (دكا) عاصمة بنجلاديش للمشاركة في قمة الدولي الثماني الإسلامية (الجناح الاقتصادي لمنظمة المؤتمر الإسلامي) , وفور عودة موسى من بنجلاديش كان موعده مع ستيوارت ايزنستات مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون التجارية والاقتصادية لاستكمال مفاوضات المشاركة الاقتصادية المصرية الأمريكية التي تفتح الباب على مصراعيه للتعاون الاقتصادي بين القاهرة وواشنطن. وقبل ان يغادر ايزنستات القاهرة كان موسى يسبقه إلى جزيرة مالطا لحضور مؤتمر وزراء خارجية دول الشراكة الأوروبية المتوسطية التي تدشن مرحلة جديدة للتعاون الاقتصاد بين دول الاتحاد الأوروبي والدول المشاطئة للبحر الأبيض المتوسط,وبعد عودة وزير الخارجية المصري من مالطا فإن مهمة دبلوماسية اقتصادية أخرى بانتظاره تتعلق بمجموعة (الكوميسا) الاقتصادية التي تضم دول شرق وجنوب أفريقيا وتهدف إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري بين هذه البلدان الأفريقية. هذه الصورة الفريدة للعمل الدبلوماسي لم تكن مألوفة لدى وزارة الخارجية المصرية التي استغرقتها لسنوات طويلة, قبل تولي الرئيس مبارك للحكم, حالة الصراع السياسي والعسكري في منطقة الشرق الأوسط, ومناخ الاستقطاب الحاد في العلاقات العربية البينية, وتوترات العلاقات مع دول الغرب والولايات المتحدة الأمريكية, وكانت النظرة الايديولوجية للسياسة الخارجية تفرض نوعا معينا من السلوك في المجالات الأخرى للتعاون وعلى رأسها التعاون الاقتصادي الذي كان دوما رهنا بالمناخ السياسي بين مصر ودول العالم, أماالآن أصبح الاقتصاد هو الموجه للدبلوماسية المصرية, وبعد ان كان يأتي في المرتبة التالية للايديولوجية, لم تعد الخلافات الايديولوجية والسياسية تشكل عقبة حقيقة في طريق تطوير التعاون الاقتصادي بين القاهرة والمجتمع الدولي. ووفق هذه الرؤية تعاملت القاهرة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية, فرغم العلاقات الدبلوماسية المحدودة بين الجانبين والتي لم ترق بعد إلى مستوى السفراء فإن مجالات التعاون الاقتصادي والتجاري بين البلدين بلغت آفاقا رحبة وأصبحت أهم الوفود الدبلوماسية والسياسية المتبادلة بين العاصمتين هي الوفود التجارية وجماعات رجال الأعمال. وبالمنهج نفسه ورغم الانتقاد العلني الذي توجهه القاهرة لتركيا بسبب تحالفها الاستراتيجي مع اسرائيل فإن العلاقات الاقتصادية بين الجانبين شهدت تطورا كبيرا في السنوات الماضية, وتجسد ذلك في الزيارة الهامة التي قام بها الرئيس مبارك إلى أنقرة عقب نجاحه في احتواء النزاع التركي السوري, فقد كانت هذه الزيارة ذات أجندة اقتصادية وتجارية خالصة, كما نظمت القاهرة زيارة عمل لأكثر من 150 رجل أعمال تركي لاستكشاف أبرز مجالات الاستثمار والتعاون التجاري في مصر. وبالمثل ورغم الموقف الحازم الذي تتخذه القاهرة تجاه الدور الاسرائيلي المشبوه في مشروعات منابع النيل في أثيوبيا لم تتوقف عجلة التعاون الاقتصادي بين القاهرة وأديس أبابا وتأسست لجنة مشتركة بين الجانبين للبحث في تطوير سبل التعاون والتبادل التجاري, ورغم التراشق الإعلامي الحاد الذي اندلع بين مصر والعراق خلال شهر يناير الماضي لم تبادر القاهرة بوقف تعاونها التجاري والفني والاقتصادي مع العراق, ولم تقدم الهيئات المصرية الرسمية وغير الرسمية على الغاء أو تأجيل زياراتها المقررة إلى بغداد وتواصلت قنوات التعاون المتعددة بصورة طبيعية وكأن شيئا لم يكن, وفي اصرار مصري واضح على عدم خلط الأوراق بين الاقتصاد والسياسة, ويتجلى ان القاهرة ليست على استعداد لكي تتأثر طموحاتها الاقتصادية ورغبتها في تأكيد نموها المتزايد بالمزايدات أو الخلافات السياسية. أصبح الاقتصاد هو المفتاح السحري على حد قول الدبلوماسي المصري المخضرم خاصة بعد ان حددت القاهرة بدقة استراتيجيتها للتنمية والنهوض الشامل وآمنت بأن المصالح الاقتصادية تبدو أكثر قوة وصلابة (أحيانا) من الشعارات السياسية والروابط الايديولوجية, وكما يرى الخبير السياسي الدكتور حسن نافعة فإن هذه النظرة تتلاءم مع التغيرات الجذرية التي يشهدها العالم منذ مطلع التسعينات, والتي أسست مفاهيم ومعايير جديدة لقوة دول العالم وفقد قدراتها الاقتصادية وليس القوة العسكرية وحدها, كما كان الحال خلال سنوات الحرب الباردة وعصر القطبية الثنائية, ويضيف ان هذا التطور الحادث للدبلوماسية المصرية يعني ان القائمين على السياسة الخارجية في مصر درسوا خريطة العالم الجديد بعناية فائقة وقرروا التعامل مع العالم باللغة التي يفهمها وليس من خلال النظرة السياسية الضيقة التي تقطع الطريق أحيانا على تطور ونهوض الأمم. وكما يرى الخبير السياسي فإن هذا التطور لا يعني ان مصر تخلت عن مبادئها السياسية ومواقفها التي تستند إلى ثوابت فكرية راسخة لكن التغير الحقيقي يتمثل في ان الاقتصاد أصبحت له الأولوية في نسج العلاقات بين الدول وتقريب وجهات النظر الدولية وبناء منظومة التعاون الدولي. القاهرة ـ مكتب البيان

Email