تقارير وتحقيقات: أرض العذاب والفقر والحنين والشجن: معسكر (مايو) بالخرطوم تلخيص لمأساة الحرب بجنوب السودان

ت + ت - الحجم الطبيعي

معسكر (مايو) لنازحي الحرب الاهلية بجنوب السودان, الذي يقع الى الجنوب الشرقي من العاصمة السودانية الخرطوم, والذي يشكل محطة اساسية في برامج زيارات ضيوف السودان الرسميين من اوروبا وامريكا والمنظمات الدولية والاقليمية يلخص مأساة الحرب في جنوب السودان كما يلخص تاريخ المعسكرات النظيرة التي تسيج الخرطوم . و (مايو) الذي يفتقر الى ابسط الخدمات يماثل اسمه تماما فمايو اقسى شهور السنة في الخرطوم حيث تصل معدلات الحرارة الى اعلى درجاتها .. حتى يئن الحجر ويستغيث الحديد. وصراع خفي بين المنظمات الدعوية الاسلامية ومؤسسات التبشير المسيحية الى ذلك فـ (مايو) ارض الحنين, يحدثك ساكنوه بشجن واسى عن الديار التي خلفوها وراءهم بعد ان حرقتها نيران الحرب. (مايو) يقطنه عشرات الآلاف من النازحين, جميعهم تقريبا من جنوب السودان, يعيشون حياة على هامش الحياة, يتناسلون ويحلمون ويعملون وينالون ما تجود به منظمات الاغاثة. (البيان) جالت في معسكر (مايو) وخرجت بما يلي: مأساة (ملوال) ملول مكوى مكواج صبي يبلغ الحادية عشرة من العمر, طويل القامة, ثيابه رثة, ورجلاه مغبرتان وبهما شقوق, قسوة الحياة غطت يفاعته بغبار البؤس ماسحا للاحذية في سوق (مايو) , الصبيان في عمره داخل اسوار المدارس ينعمون بدفء الحياة وسط الاسرة, اما هو فلا يذكر الا اسم ابيه, وبعض ملامح امه, التي فارقها منذ اكثر من 9 سنوات وقبل ان يكمل الرضاعة, لكنه لم يكن حزينا ولا غاضبا بقدر ما كان بائسا. قال ملوال لـ (البيان) لي اقربائي ان امي كانت مريضة, شارفت على الهلاك عندما قرروا النزوح الى الشمال اصرت على ان يأخذونني معهم, كانت طيبة وجميلة وحنونة, اما ابي فلا اتذكر ملامحه ولم اره في حياتي لانني عندما ولدت, كان بعيدا عن القرية التي نقطنها قيل انه فرح بميلادي ووعد بالحضور لرؤيتي لكنني لم احظ بتنفيذ هذا الوعد الى اليوم. واضاف ملوال اعمل الآن ماسح احذية وهي عموما افضل مليون مرة من ان اكون (شماشيا) اي متشردا تعلمت هذه الصنعة بمشقة, كنت اشتغل دون اجر لكنني استطعت تدبير ثمن (اللماع) و (الفرشاة) وحملتهما في (كيس) ودخلت السوق, اكسب يوميا مابين (5) الى 10) الاف جنيه, واتمنى ان ارى امي وان اعرف اين ابي. حال هذا الصبي يماثل الاف الحالات , لآلاف من ابناء جنوب السودان احالتهم حرب الجنوب الى نازحين داخل وطنهم, مأساة في عمق المأساة السودانية النازفة, نار موقدة تحرق البشر والشجر والثروات, ما لايقل عن مليون ونصف المليون ضحية, ومئات الملايين من الدولارات اهدرت وآلاف المعاقين, وعشرات الآلاف من النازحين والمشردين والضائعين والجياع, وجراحات نازفات في كل بيت, واحساس عميق, ومقيم, بالفقد الجلل لدى غالبية الاسر السودانية وآلاف الاسرى والمفقودين, و .. القائمة تطول ولايجدي النحيب, ان حالة ملوال تختصر المأساة وتفتح الجرح على مداه ليتسع ويحوي البلاد كلها. حياة على هامش الحياة معسكر (مايو) للنازحين الى الجنوب الشرقي من الخرطوم يقطنه مئات الالاف من نازحي حرب الجنوب, سمي بـ (مايو) اقسى شهور الخرطوم, تصل فيه درجات الحرارة الى اعلى معدلاتها حتى يئن الحجر ويستغيث الحديد كما قال اديب السودان الكبير الروائى الطيب صالح في رائعته (موسم الهجرة الى الشمال) و (مايو) اسم على مسمى خدمات قليلة الى معدومة, ارتفاع ملحوظ في معدلات الجريمة, عشرات الحانات البلدية, سوق بلا ضوابط, حياة على هامش الحياة, وغبار على مدار العام. و (مايو) ايضا ارض الحنين, ساكينوها , عندما يطمئنون اليك, يندلع الشجن من احاديثهم, ماريا فتاة في عقدها الثالث جميلة وطويلة وممشوقة وانيقة, قالت انها غيرت اسمها في (مايو) لانها دخلت المسيحية, وتزوجت من احد العاملين في المنظمات المسيحية الاغاثية لكنه هجرها وسافر الى مصر ولم يتصل بها منذ عامين ولا تدري اين هو الآن. قالت لـ (البيان) انها تركب المواصلات ايام الخميس والسبت من كل اسبوع لتذهب الى (الكلاكلة) لتستمتع بروعة النيل الابيض حين يحملها موجه الى شواطىء نهر السوباط (جنوب) حيث كانت قرية اهلها هناك قبل ان تحرقها نيران الحرب تحدثت بنشوة عن المطر المنهمر, والندى الذي تبعثره وهي طفلة, بقدميها, والمتعة البالغة التي تحسها عندما تمشي تحت الشكشاكة (المطر الخفيف) , وكيف ان الحرب بددت ثروة اهلها عندما سرقت الابقار بليل قبل اندلاع الحريق. ماريا قالت انها تعمل ممرضة في مستوصف بـ (مايو) وانها تحن الى الرجوع لديار اهلها: هناك لايوجد حر مثل هذا الحر الذي يحرق المخ واضافت ان لم اجد سبيلا الى الرجوع سأهاجر الى اوروبا, الجو هناك احسن مليون مرة من هذا الحر. معارك بلا أسلحة ثمة معارك اخرى في (مايو) معركة بلا اسلحة او ضحايا تدور رحاها بين الجماعات التبشيرية المسيحية وبعض المنظمات الاسلامية, وفي طليعتها منظمة الدعوة الاسلامية حيث تعمل المنظمة على اقامة آبار للمياه ومدارس ومراكز صحية, ومشروعات دعوية, وتنشط في مجال الاغاثة وذلك في مواجهة جماعات مسيحية عديدة تعمل اساسا في مجال الاغاثة وان كانت تتخذه ستارا لاعمال تبشيرية سيما وان اعدادا كبيرة من ابناء جنوب السودان يعتنقون المسيحية. قيادي جنوبي بارز, ووزير اسبق قال لـ (البيان) ما الاحظه من صراع خفي بين جماعات التبشير المسيحية والمنظمات الاسلامية شيء مقزز. ان هذا الصراع الذي يدور تحت ستار الاغاثة يوحي بان الجنوبيين في (مايو) كأنهم في سوق, من يدفع اكثر ينال اكثر, وهذا هو المناخ المناسب الذي يمكن لبعض المنظمات العالمية من اتهام السودان بممارسة الرق. وزاد الوزير الاسبق: ان مسؤولية رعاية النازحين هي مسؤولية الحكومة السودانية بالدرجة الاولى , ثم بعد ذلك منظمات الامم المتحدة المعنية بالامر, صحيح ان الحكومة تقوم ببعض المجهودات, وبعض منظمات الامم المتحدة تنشط بكثافة الا ان ما انجز الى الآن غير كاف, اذ لابد من ان تضطلع الحكومة ومنظمات الامم المتحدة بدورهما كاملا حتى لايحدث مثل هذا الصراع المقزز. والراهبات في (مايو) يرفلن عند المساء في ثيابهن البيض, وهن خارجات من او داخلات الى المراكز الصحية او الكنائس اياديهن مليئة بالنقود (الفكة) وحقائبهن محشوة بالحلوى والخبائز يوزعن على الاطفال المتحلقين في مشهد بقدر ما يثير الاعجاب بهذا السلوك الذي يتسم بالرحمة, يثير ايضا البكاء على وطن عامر بالخيرات والمياه والثمار والعقول وبعض من ابنائه يمدون الايادي بمذلة الى مانحين لايدري الا الله نواياهم. أسواق كيفما اتفق واسواق .. (مايو) بلا ضوابط, تقام هكذا .. كيفما اتفق, بائعة شاي جلسنا اليها للاستجمام والاستمتاع بشاي المساء, سألناها عن موطنها الاصلي, تجهمت وقالت كل السودان هو موطني, واضافت انا من قبيلة الدينكا كبرى قبائل الجنوب, ومن ابرز ابنائها د. جون قرنق زعيم حركة متمردي الجيش الشعبي لتحرير السودان. ود. فرانسيس دينج مساعد الامين العام للامم المتحدة لشؤون النازحين وقالت انها لن تعطي اسمها, ربما ارتابت من السؤال, لكنها اضافت: هنا كلنا جنوبيون, يمكنك ان تجد افرادا من كل القبائل سيما القبائل الكبيرة الدينكا, الشلك, النوير, الزاندي, وغيرهم. واوضحت انها تعول (7) اطفال بعد ان مات والدهم في الحرب, حيث كان يعمل جنديا بقوات الشرطة بواو, وزادت: من دخل بيع الشاي توفر الاكل والشرب اما الملابس فنأخذها من (ناس الاغاثة) احيانا من منظمات اسلامية واحيانا مسيحية وعن دخول ابنائها المدارس قالت: ربيكا تدرس في السنة الرابعة واخوها دينج يعمل فراشا بالمركز الصحي بعد ان ترك المدرسة في السنة السابعة واضافت الخرطوم (كويسة) جدا ولا ارغب في العودة الى الجنوب حتى لو انتهت الحرب. يبدو انها اطمأنت الى الحياة في الخرطوم. و (مايو) الذي يفتقر الى ابسط الخدمات هو المحطة الاساسية في زيارات كبار المسؤولين الاوروبيين وممثلي منظمات الامم المتحدة ومنظمات الاغاثة الدولية والاقليمية, الشوارع ترابية, ورغم محاولات تخطيط المعسكر الا انه مازال عشوائيا, اذ يمكن ان يفضي بك شارع جانبي الى منزل يكون اهله على مائدة الغداء مثلا, هذا فضلا عن انعدام التيار الكهربائي, وعدم انتظام محطات المياه, وتشتت المراكز الصحية, وارتفاع معدلات الجريمة كما اسلفنا, ورغم ذلك يزوره غالبية ضيوف البلاد الاوروبيين ويلتقون اهله. كرستينا فتاة نرويجية بشرتها بلون الحليب شابتها سمرة خفيفة بفعل حر الخرطوم تعمل في منظمة اغاثة تطوعية, قالت لـ (البيان) لن استطيع ان اعطى اسمى كاملا, ولا معلومات كثيرة لاننا ممنوعون من الحديث للصحافة ودافعت عن منظمتها التي قالت انها تعمل في مجال الاغاثة الدوائية فقط, واعتبرت ان مايقال عن نشاطات تجسسية او تبشيرية مبالغ فيه. واضافت كرستينا هذا لايعني عدم وجود اعمال تجسس او تبشير في المنظمات التطوعية لكن قطعا ليس كل المنظمات تعمل في مثل هذه المجالات, نحن نسعى الى توفير الرعاية الطبيعية والدواء ومهمتنا انسانية, وانا سعيدة بوجودي في السودان. ودهشت كرستينا من ان منطقة على بعد دقائق من مركز العاصمة السودانية تفتقر, الى الخدمات الهامة, وتساءلت عن جدوى المؤسسات الخدمية ان هي لم توفر الخدمات في منطقة لاتبعد بالسيارة عن قلب العاصمة اكثر من 25 دقيقة وعبرت عن سعادتها بعملها في السودان, وقالت انني في غاية السعادة لما اقوم به من اعمال انسانية, اصحو من النوم واظل اعمل في اكثر من معسكر طوال النهار ولا ينتابني اي تعب او ضجر مما اعمل. ولعنت الحرب وقالت: لماذا هذا الموت المجاني الذي يباشره السودانيون رغم انني اشعر انهم محبون للحياة وصخبها, وتمنت ان تتوقف الحرب حتى يتفرغ السودانيون لبناء بلدهم التي اعتبرتها في حاجة الى عمل كثير ان قام به السودانيون فإن هذه البلاد ستكون من اجمل بلدان العالم وختمت : النيلان الازرق والابيض وملتقى النيلين, والشواطىء الساحرة, تجعل من الخرطوم واحة للبهاء والخضرة والجمال ان عمل اهل هذه البلاد من اجل ذلك. جولة واحدة, في (مايو) لاتكفي للالمام بحياة ساكني هذا المعسكر الذين اضطرتهم الحرب الى هجر بلادهم واشجارهم وثرواتهم وجاءوا الى (مايو) للاقامة على قلق الانتظار, انتظار توقف الحرب للعودة الى جنوب السودان حيث الذكريات العامرة التي طبعت في الذاكرة الى الابد. ان معسكر (مايو) يلخص مأساة الحرب في جنوب السودان كما يلخص معسكرات النزوح التي سيجت الخرطوم من الاتجاهات جميعها, وتعددت اسماؤها تأكيدا لعظمتها من نحو (العشوائيات, الحزام الاسود, دار السلام, الوحدة, زائير, .. الخ الاسماء) انها ارض العذاب والفقر والحنين والشجن. الخرطوم - محمد الاسباط

Email