نافذة: مجلس التحديات: بقلم - رضا الأعرجي

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يكن قيام مجلس التعاون في مايو 1981 حدثا عارضا في تاريخ منطقة الخليج العربي, بقدر ما كان ايذانا ببدء تاريخ جديد انتقل بالدول الست الاعضاء, من مستوى العلاقات الثنائية التقليدية الى أرقى أشكال التعاهد والتحالف الذي لم تعرفه الا مجموعات دولية قليلة لعل ابرزها الدول الاعضاء في الاتحاد الأوروبي . والواقع, ان صيغة التعاون كما عُرفت وذاعت منذ القدم, لم تجد نموذجها المثالي كما وجدته في الدول الخليجية, حيث التاريخ المشترك والمصير المشترك, وحيث المصالح الواحدة والارادة الواحدة في تطبيق نظرية الأمن الجماعي حفاظا على استقرار المنطقة وضمان ازدهار شعوبها, وتعميق وتوثيق روابطها في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وبكل المقاييس, شكل المجلس خطوة منطقية في اتجاه رسم طريق المستقبل, ولم يكن ردة فعل, او مجرد مواجهة لأخطار آنية اخذت تلوح مع تصاعد الحرب العراقية الايرانية والغزو السوفييتي لأفغانستان, ذلك ان المشاورات حيال مسألة التعاون الخليجي بدأت في مؤتمر وزراء خارجية هذه الدول الذي عقد في مسقط عام 1976, وفي نوفمبر 1980 طرحت الفكرة مجددا خلال انعقاد القمة العربية بالعاصمة الاردنية عمان, قبل ان يجري الاعداد لورقة العمل التي طرحت في الاجتماعات التي عقدت على هامش قمة الطائف الاسلامية في الأسبوع الأخير من يناير 1981 وبالتالي اخراج فكرة مجلس التعاون الخليجي الى حيز التنفيذ في 26 مايو من ذلك العام. ان العودة الى تلك الوقائع ضرورية للتأكيد على ان مجلس التعاون لدول الخليج قد جاء كبنية متطورة قوامها الحوار والتفاهم والتنسيق بين المواقف, سياسية كانت أم اقتصادية, وهو ما تجلى واضحا في أزمة الخليج الثانية, ويتجلى الآن في تراجع الحكومات الأوروبية عن قرار فرض ضريبة الطاقة على الصادرات النفطية. وبشكل أعم تبدو هذه العودة ضرورية للتأكيد على ان قيام المجلس جاء ليعزز مكانة الدول الاعضاء ويجعلها تقف على قدم المساواة مع غيرها من الدول في عالم اليوم, وليدعم قدرتها التفاوضية ازاء التكتلات. والأهم في كل هذه الوقائع, ان الدعوة للمجلس لم تقترن بالرغبة في الهيمنة ولا بالشعارات اياها التي أساءت لهدف الوحدة النبيل وكانت وراء فشل جميع المشاريع الوحدوية. بل كانت دعوة مخلصة لاحلال قوة المنطق محل منطق القوة في العلاقات بين الدول الاعضاء, وبينها وبين الدول الاخرى, الأمر الذي جعل منه كيانا ثابتا يترسخ يوما بعد آخر, فيما انهار (مجلس التعاون العربي) بعد اقل من عامين على قيامه, ودخل (اتحاد المغرب العربي) ثلاثة الخلافات منذ ما يزيد على ثلاثة اعوام. لقد اثبت مجلس التعاون الخليجي ان ما يحتاجه العرب اليوم هو النظرة الموضوعية للواقع وبالتطلع المستقبلي المجرد عن الانانيات والحسابات السياسية الضيقة والنزعات الانتهازية, وليس شعارات تطلق في الاذاعات بمناسبة وبدونها, فمن بين الحقائق التي اعتمدها المجلس حقيقة ان توثيق عرى التعاون العربي امر محتم لأنه غدا اكثر من اي وقت مضى مرتبطا ارتباطا عضويا بالتقدم التقني الهائل والسريع الذي يجتاح الحواجز والمسافات. ولكن شريطة ان يكون ذلك عن وعي سليم حتى يكون طريقا للتكامل بين شعوبنا لا أداة للتنابذ والفتنة وزرع الشكوك. ومن هذا المنظور نرى ان مجلس التعاون الخليجي ما كان ليستمر لولا واقعيته ومسايرته التطورات في عالم متغير, فقد ادرك قادته منذ البداية اهمية تلازم الاهداف, وبالتالي فإن الأخذ بقواعد التضامن والمساندة يعني في نفس الوقت اقامة بنيان اقتصادي متين, وقد عبرت عن ذلك جداول اعمال القمم الخليجية التي تلتئم دوريا لتسد الحاجة الى العمل المشترك في محاوره الاساسية, السياسية والامنية والاقتصادية. وتعطي الاطمئنان الذي كثيرا ما غاب في العلاقات العربية بأن دول المجلس المتجاورة جغرافيا والمتشابهة من حيث الانظمة, هي اقدر على التعاون في حل مشاكلها, وانها اكثر تفهما لها واحساسا بأبعادها. لقد جددت القمم الخليجية الاهتمام بقضايا التنمية الاقتصادية, واقترحت مشاريع لتطوير التعاون التجاري على نفس المستوى الذي عالجت فيه القضايا العالقة ثنائيا او بين عدد من الدول الاعضاء, لكنها وضعت قضية التضامن في المقام الأول, فبدونه لا يمكن ان تمضي بعيدا في توطيد تجربتها الوحدوية الرائدة اوتبقى بمنأى عن تأثير القوى التي تحاول تمزيقها, كما بدا ذلك وشيكا قبل ثماني سنوات. واذا كان معيار اية منظمة اقليمية او دولية هو قدرتها على الاستمرار, فيكفي القول ان مجلس التعاون الخليجي قد تمكن من الاستمرار وسط الاعاصير, فهو لم يقم إلا ليبقى.

Email