وراء الاحداث: اضعاف العراق هدف أصيل للتحالف الامريكي الاسرائيلي: بقلم- مصطفى كمال

ت + ت - الحجم الطبيعي

ايا كان الأمر, يجب الا ننسى أن العراق جزء لا يتجزأ من الكيان العربي, وأن أي شر يصيبه ينعكس على العرب أجمعين, بصرف النظر عن طبيعة نظام الحكم . سواء كانت نظرية المؤامرة صحيحة او غير صحيحة, فإن النتيجة واحدة, وهي تزيد من اذلال العرب وتفكيك اوصال امتهم. حتى اكثر المتفائلين تشبثا بالامل في معجزة, كانت آمالهم تتبخر بمجرد تذكرهم لحماقات النظام العراقي. الآن, وقد تراجعت غيوم ازمة العراق مع الأمم المتحدة او ان شئنا الدقة مع الولايات المتحدة, ولم يبق منها سوى بعض التوابع التي نرجو ان تنقشع بدورها عما قريب, نستطيع ان نستعرض دوافعها وتطوراتها بهدوء, بعيدا عن المخاوف التي فرضتها, والتوترات التي صعّدتها.. غير اننا قبل ان نستطرد في الحديث نود ان نؤكد على عدد من الثوابت التي لا ينبغي تجاهلها, والتي تشكل الاساس الصلب لاي تحليل موضوعي يتصل بالعراق ولا يستهدف سوى الحقيقة.. اول هذه الثوابت ان العراق, ارض الرافدين وما بين النهرين, جزء لا يتجزأ من تاريخ الكيان العربي, ومن حاضره ومستقبله ومن ثم فإن اي شر يصيبه انما هو خصم من القدرة العربية ككل, بصرف النظر عن طبيعة النظام الذي يحكمه, وسواء كان هذا (الشر) نابعا من داخله او نازلا عليه من خارجه. وانطلاقا من هذه الحقيقة فإن الشعوب العربية بأسرها كان من حقها ان تجزع وتحتدم بها المخاوف ازاء التهديدات الامريكية (بضربة عاجلة قاصمة) ضد العراق.. خصوصا وان هذه التهديدات جاءت مصحوبة بتحركات واضحة الخطر للأساطيل وحاملات الطائرات والصواريخ وحالات تأهب لدى القوات البرية الامريكية المرابطة في أكثر من مكان حول العراق, بالاضافة الى حملة تعبئة في داخل الولايات المتحدة.. ضاعف من حدتها حاجة الادارة الامريكية الراهنة الى إلهاء الرأي العام في الداخل بقضية خارجية تشغله عن فضائح البيت الأبيض ولو الى حين. ويضاف الى ذلك ان الشعوب العربية تعرف جيدا ان اية ضربة امريكية مهما كان حجمها لن تضعف النظام الحاكم, ولن تسهل الطريق الى اسقاطه. بالعكس سوف تساعده اكثر على احكام قبضة الحكم فوق رقاب المحكومين.. الذين هم جموع الشعب العراقي المطحون بين تروس السلطة الدكتاتورية من جهة, والضائقة الاقتصادية الخانقة نتيجة الحصار الدولي من الجهة الثانية.. اما ثاني الثوابت في هذه المنطقة التي ينبغي ان نتمثلها دائما في حسابنا فهو ان اتفاق التعاون الاستراتيجي بين الولايات المتحدة واسرائيل يستهدف في مقدمة اهتماماته العمل باستمرار على ابقاء العالم العربي ـ بكليته ومفرداته في حالة من الضعف والتفكك بحيث يظل عاجزا عن عرقلة مسيرة ذلك التحالف في اتجاه الهيمنة الكاملة على مقدرات هذه الامة, وثرواتها ومصائرها.. وعلى هذا الاساس, فان العمل الدؤوب من اجل استمرار ركوع العراق واستنزافه لا يعنى فقط استقطاعه من الطاقات العربية, وانما يعني ايضا تبديد ما بقي من هذه الطاقات. وتأجيج التناقضات في داخل الكيان العربي, من أجل الوصول الى هدف (مثالي) .. سبق ان تحدث عنه كبار مفكري المؤسسة الامريكية الحاكمة منذ الستينات, وهو ان يقاتل العرب بعضهم بعضا.. بدلا من ان يجتمعوا جميعا على مقاتلة اسرائيل.. وحتى يتكفلوا هم انفسهم بإزالة العائق الطبيعي الذي يحول دون قيام اسرائيل الكبرى.. كولاية وراء البحار من الولايات المتحدة. وقد يقودنا هذا الى ثالث الثوابت التي نتحدث عنها, الا وهي ان الولايات المتحدة واسرائيل بالتالي لهما مصلحة مشتركة مؤكدة في بقاء النظام الحاكم الراهن في بغداد على ما هو عليه, طالما ان مجرد وجوده كفيل بعجز العالم العربي عن لم صفوفه, وحجة كافية لمن يرون ان خطره على وجودهم اعظم وأقرب من الخطر الاسرائيلي.. كما انه ايضا مبرر شديد الاقناع لمن يلتمسون درء خطره الاستعانة بقوات من وراء البحار, يستمر وجودها ويكتسب شرعيته من مجرد وجود (الفزاعة) العراقية على الحدود.. وغني عن البيان ان النظام العراقي نفسه يسبغ على هذا المبرر مزيدا من الاقناع بتحركات مفتعلة لقواته بين الحين والحين قرب حدود الكويت وبتصريحات اكثر افتعالا تؤكد نية دفينة لديه لتكرار مهزلة العدوان. *** وعلى ضوء هذه الثوابت نعود الى تحليل الازمة الاخيرة بين النظام العراقي والولايات المتحدة, والتي تؤكد كل الظواهر, والتجربة التاريخية انها لن تكون اخر الازمات من هذا النوع.. وأول ما يلفت النظر في هذا الامر, أننا نواجه هنا نفس السيناريو الذي تكرر من قبل اكثر من مرة منذ حرب الخليج الثانية, بنفس الحوار, ونفس المشاهد والمناظر والديكورات, وتقريبا بنفس الممثلين.. او على الاقل بنفس الادوار.. والسيناريو في كل مرة يبدأ بنفس المشهد الأول على شكل خلاف بين قيادة لجان التفتيش المنتدبة من الأمم المتحدة من الناحية الرسمية على الأقل للتأكد من خلو العراق من كافة أشكال الاسلحة المدمرة غير العادية, والسلطات العراقية, ويكون من نتيجته اعلان من بغداد عن وقف التعاون مع اللجان الدولية.. ثم تتتابع المشاهد بنفس الترتيب, بداية من التهديد المقنع ثم الصريح من جانب واشنطن بضرب العراق دونما حاجة لاذن خاص من الامم المتحدة قد يعرقله فيتو روسي او صيني او فرنسي يقابله من الجانب العراقي عزم لا يلين على رفضه الخضوع للتهديد.. واستعداده لتحمل أية ضربات امريكية, او امريكية بريطانية مشتركة.. ثم ينتقل التهديد الى تحريك فعلي للقوات, وحشد للأساطيل والطائرات, واعلان واضح عن خطط جاهزة لشن ضربة او ضربات موجعة ضد العراق, وتصل الى حد نشر خرائط مفصلة تحدد مواقع القصف وأهدافه, وربما ايضا تاريخه! ويستبد القلق والجزع بالعالم العربي.. فالنظام العراقي متشبث بعناد شديد ويأبى ان يتراجع والولايات المتحدة من جانبها تضرس انيابها وتؤكد نيتها في انزال ضربة موجعة بالعراق.. بالشعب العراقي.. لان الجميع واثقون ان النظام لن يصاب بأي سوء. وان الذي سيدفع ثمن عناده هو الشعب, هم اطفال ونساء وشيوخ العراق العاجزون عن ضحايا الهول القادم من السماء! ويتحدث الجميع ببساطة شديدة عن عدد ضحايا الضربة الأولى, البعض يقولون ان الرقم قد يصل الى عشرين الف قتيل, والبعض الآخر يؤكد انه لن يقل عن مائة ألف.. وتتراقص ألسنة اللهب في الافق منذرة بمحرقة هائلة تتهدد اطفال الشعب الشقيق, وحتى الذين ظلوا متشبثين بالامل في معجزة تحدث في آخر لحظة كانوا يتذكرون حماقات النظام العراقي التي تجاوزت كل حدود المعقول فتتقطع بهم آخر حبال الأمل.. وطبقا للسيناريو المتكرر, تفشل كل محاولات الوساطة, ويتضح اكثر فأكثر مدى تهافت الموقف العربي, بينما الحشود الجاهزة للضرب تزداد كثافة, حتى اذا ما ايقن الجميع ان الكارثة تكاد تقفز من فوق قمة الجبل يعلن النظام العراقي تراجعه على طول الخط مسلما للولايات المتحدة بكل مطالبها بدون قيد او شرط, وتستأنف لجان التفتيش عملها, بشروطها.. وتهدأ العاصفة.. في انتظار مناسبة اخرى من نفس الطراز, وبنفس الايقاع. ويبقى على العرب ان يتجرعوا مرة بعد مرة كأس المهانة.. وهم يرون جزءا عزيزا منهم يذل كل هذا الاذلال على يد الولايات المتحدة.. حليف اسرائيل! هل هي مجرد مصادفة؟ ان هناك محللين في الشرق والغرب يؤكدون ان هذه (الدورات) ليست مجرد افعال حمقاء, وردود فعل مسرفة في التجبر والاستعلاء, وانما هي سيناريوهات مدبرة بعناية, بحيث يكون لكل طرف دوره المرسوم, بهدف ابقاء المنطقة في حالة التهاب وبائي متصل وحتى يظل العرب مشغولين بحرائقهم الداخلية عن الخطر الهائل الذي يتهددهم من الخارج, وحتى يظل الوجود العسكري الامريكي في المنطقة مقبولا, وله اسبابه المعقولة.. وفي مقابل ذلك يستطيع النظام القائم في بغداد ان ينعم بوجوده حتى لو كان هذا الوجود مرتبطا بشقاء الشعب العراقي.. ومهانة العرب اجمعين.. وسواء كان هذا الضرب من التحليلات صحيحا او غير صحيح, فان النتيجة واحدة.. الا وهي مزيد من الاذلال للعراق ولكل العرب, ومزيد من رسوخ القدم الامريكية ـ الاسرائيلية بين ظهرانيهم.. وفيما بين هذا وذاك ترتفع معدلات وفيات الاطفال العراقيين الى عشرات الألوف كل شهر, ويشتد ضغط الاحزمة على البطون حتى العظام. *** وفيما عدا هذا التفسير التآمري لمغامرات النظام العراقي, فان اي تحليل لهذه الازمة الأخيرة وما سبقها من ازمات مماثلة شكلا وموضوعا بين رأس النظام والمفتشين الدوليين لابد من ان يواجه هذا السؤال: ما الذي يستفيده النظام الحاكم في العراق من اثارة هذه الازمات بشكل دوري؟ ثم الدفع بالازمة كل مرة الى حافة الهاوية.. واخيرا التراجع على طول الخط ليعود الامر كما كان قبل الازمة, وقد اصيب مرماه بعدة اهداف, ودون ان يحقق اي مغنم منظور او غير منظور؟ ان الاجابة الوحيدة عن هذا السؤال هي ان النظام العراقي يتخذ من هذه الازمات ذريعة لتشديد قبضة البوليسية والدعائية بحجة تعبئة الشعب ضد الهجمات الامريكية المرتقبة, وبدعوى ان لا صوت يعلو على صوت المعركة.. والولايات المتحدة تستفيد من الازمة لتعزز وجودها في المنطقة ولتفرض على العالمين هيمنتها المستندة الى قوتها القاهرة.. وفي نفس الوقت فهى فرصة لاجراء تمرينات ومناورات عسكرية لقواتها الجوية والبحرية والبرية وراء البحار.. وربما كان ذلك بفواتير لا تدفعها وحدها بالكامل.. هذا بالطبع فضلا عن الخلخلة المستمرة في النظام العربي, لتظل اليد الطولى في المنطقة لاسرائيل.. *** خلاصة القول.. ان امريكا ليس لها مصلحة عاجلة في اسقاط النظام العراقي القائم.. بالعكس هي مستفيدة من بقائه على عدة مستويات. ولكن بشرط, ان يظل العراق اضعف من ان يشكل اي تهديد او المشاركة في اي تهديد لاسرائيل, او للمصالح الامريكية المباشرة في المنطقة. وانطلاقا من هذا المفهوم فان واشنطن ليست متحمسة ايضا لتقسيم العراق, او فصل المنطقة الكردية عنه.. وذلك لانها تريد ان يظل العراق ـ الضعيف ـ قوة موازنة للجار الايراني.. وواضح ان النظام العراقي يدرك هذا البعد الاستراتيجي للسياسة الامريكية.. ولذلك فهو قد يتمادى احيانا في تصعيد الأزمة, مطمئنا الى ان واشنطن في النهاية لازالت راغبة في الحفاظ عليه.. ولكنها للاسف, لعبة خطرة, بل شديدة الخطورة على الشعب العراقي وعلى الامة العربية بأسرها التي تدفع الثمن من اصولها ومن كرامتها ولكن الواضح حتى الان ان هذا الخطر الذي لا يتهدد النظام العراقي ذاته بعيد عن اهتمامات النظام القائم في بغداد.. وسوف يظل الوضع في المنطقة قابلا للاشتعال.. وسوف تظل مصالح الامة العربية ككل مهددة في صميمها, ما لم نفق جميعا الى حقيقة ان كل الانتصارات التي تحققها السياسات المعادية لمصالحنا ومستقبلنا ووجودنا انما ترجع الى سلاح واحد في يد العدو.. هو تفتت صفوفنا, وعجزنا عن دفع اية تناقضات ثانوية فيما بيننا الى الخلف, كي نستطيع النهوض على اقدامنا, ومقاومة المخططات المرسومة لازالة الوجود العربي من خريطة العالم.

Email