وراء الاحداث: التسامح الديني لدى المسلمين في مواجهة عنصرية الطرف الآخر:بقلم- مصطفى كمال

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما ان انتهت الحرب الباردة حتى راحوا يصرخون انهم لا يستطيعون الحياة بدون عدو, وسرعان ما استجابوا لاشارة اليهود للاسلام, ان هذا هو العدو المطلوب . سوف تثبت الايام ان حادث معبد حتشبسوت في مصر كان مدبرا من اعداء الاسلام لتشويه صورته وتبرير معاداته. ان رفع نبرة العداء ضد الاسلام ليس سوى مجرد ستار, وراءه نوايا النهب وبسط السيطرة الامريكية على بلاد المسلمين وغير المسلمين. بداية ينبغي الاشارة الى ان الغرب الذي نتحدث عنه هنا ليس بمفهومه الجغرافي, ولا حتى الايديولوجي, وانما هو كل البلدان المنتمية الى الحضارة الهيلينية بصرف النظر عن موقعها من الجهات الاربع, وايا كانت نظمها السياسية, وسواء اخذت بالنظام الرأسمالي او الاشتراكي او الفاشستي, ديمقراطية كانت او دكتاتورية, فهي كلها في نهاية الامر نتاج للحضارة التي نشأت في بلاد الاغريق ثم انتقلت الى الرومان, حيث امتدت بعد ذلك تحت غطاء المسيحية الى شرق اوروبا وغربها, ومن هناك عبرت المحيط الاطلسي الى الامريكيتين.. اما الاسلام فقد جاء بعيدا عن هذا المسار. فعندما ظهر في القرن السابع الميلادي كانت الامبراطورية الرومانية (المسيحية) تسيطر على كل المناطق الممتدة من شمال افريقيا حتى المحيط الاطلسي, ومن شرق البحر الابيض المتوسط حتى بحر قزوين, فضلا عن معظم وسط اوروبا وغربها.. وامام الزحف الاسلامي السريع تم تحرير كل الجزء غير الاوروبي من سيطرة الرومان في غضون سنوات قليلة.. ومع ان الفتوحات العربية لتلك البقاع جرت تحت راية الاسلام الا انها كانت حروب تحرير اكثر منها حروبا دينية, ولعل السبب في ذلك هو ان الدين الاسلامي نفسه نهى عن التعصب والاكراه في الدين, وكان التسامح هو السمة الاساسية للدولة الاسلامية المنتصرة ازاء المهزومين.. هذا التسامح لم يعرفه الطرف الآخر ابدا. وقد تجلى ذلك في العديد من الاحداث الدموية على مدى التاريخ, ابتداء من الحروب الصليبية في القرنين الحادي والثاني عشر على يد ملوك وأمراء غرب اوروبا الى مجازر البوسنة والهرسك والبان كوسوفو على يد الصرب في اواخر القرن العشرين مرورا بمحاكم التفتيش على انقاض الاندلس.. ويكفى مثالا على حجم الحقد الذي يزخم قلوب واذهان هؤلاء تلك الرسالة التي بعث بها قائد الحملة الصليبية الاولى الى البابا عقب الاستيلاء على القدس والتي يقول فيها بكل زهو دون اي احساس بالعار او الخجل. (... اهنئكم. لقد تم الاستيلاء على اورشليم. وطهرنا البلد المقدس منهم.. وكانت جيادنا تخوض حتى الركب في بحر من دماء البرابرة المسلمين) .. وسوف نجد هذه النعرة العنصرية القبيحة تتكرر مرة اخرى بعد ثمانمائة عام على لسان القائد الانجليزي الجنرال اللينبي وهو يدخل القدس عقب هزيمة الاتراك في الحرب العالمية الاولى عندما قال وهو يختال فوق جواده. اليوم انتهت الحروب الصليبية.. وفي نفس اللحظة تقريبا كان الجنرال الفرنسي جيرو يضع قدمه الثقيلة فوق قبر صلاح الدين بدمشق وهو يهتف كالمسعور. ها نحن قد عدنا يا صلاح الدين.. وكان الظن لدينا نحن المسلمين المتسامحين ان الحروب الصليبية قد انتهت منذ سبع قرون او تزيد.. ولكن الاحقاد ظلت كامنة لديهم لم تنطفئ ابدا طوال تلك السنين. ومع ان الايام دارت دورتها فاذا بمعظم العالم الاسلامي يتحول الى قطعان مستأنسة مقسمة بين الامبراطوريات الاستعمارية البريطانية والفرنسية والروسية والهولندية.. ولم يكن الصراع بين شعوب المستعمرات المسلمة وزبانية الاستعمار صراعا دينيا بقدر ما كان جزءا اصيلا من حركة التحرر الوطني العالمية في كفاحها العنيد, والذي شارك فيه مسيحيو المستعمرات بكل قواهم اقتناعا منهم بأنهم ضحايا للاستعمار الغربي الذي لا يفرق بين مسلم ومسيحي حينما يكون الامر متصلا بنهب ثروات الشعوب واخضاعها للذل والهوان. وعندما تتوج كفاح الشعوب بالانتصار الحاسم على قوى الغرب الاستعماري نتيجة للهزيمة المدوية للامبراطوريتين البريطانية والفرنسية اثر العدوان الثلاثي ضد مصر عام 1956, وحصلت اكثر من ثلاثين دولة اسلامية على الاستقلال, لم يقل احد ان هذا كان انتصارا للاسلام على الغرب, وانما اعترف به الجميع باعتباره انتصارا لقوى العدل والحرية على قوى البغي والطغيان.. بصرف النظر عن اية فوارق في الجنس او الدين او اللغة او الانتماء الحضاري.. بالعكس. كان هناك كثيرون في العالم العربي والاسلامي يتطلعون الى امريكا وقد ظهر لها دور ملحوظ في هزيمة العدوان الثلاثي يمكن ان تكون صديقا يعتمد عليه المسلمون. مع انها جزء لا يتجزأ من الحضارة الهيلينية المغايرة لنا في اصولها وفروعها على حد سواء.. اي ان المسلمين من ناحيتهم لم يكن لديهم عداوة جديدة او قديمة مع الولايات المتحدة الامريكية. ولم يكن لديهم سبب واضح لخلق مثل هذا العداء.. ومع ان امريكا كانت لها اليد الطولى في زرع الخنجر الصهيوني بقلب الامة العربية, وفي تزويد اسرائيل بكافة الوسائل العسكرية والاقتصادية. كما في ذلك القدرات النووية لتمكنها ليس فقط من فرض وجودها بل من اجل اذلالهم وتفكيك اوصالهم, الا ان احدا لم يتصور ان هذا كان لاسباب دينية.. وانما كان المفهوم العام ولايزال ان اليهود استطاعوا الاستيلاء على عقول الامريكيين وبالذات صناع القرار عن طريق السيطرة على وسائل الاعلام والمراكز العصبية للمال والأعمال, وان المؤسسة الامريكية الحاكمة بدورها وجدت في الكيان الصهيوني خير اداة تمكنها من بسط سلطانها على المنطقة.. اولا في مواجهة الاتحاد السوفييتي, وثانيا في مواجهة الشعوب العربية.. وطوال فترة الحرب الباردة لم يكن العداء للاسلام موضوعا للصراع.. او هكذا على الاقل كنا نتصور, وكان الامريكيون يتظاهرون.. وان المشكلة بيننا وبين الادارة الامريكية انما هي في جوهرها وتفاصيلها هي نفس المشكلة بين الفريسة التي تدافع عن وجودها بأظافرها, والوحش الذي لا حياة له الا بافتراسها.. دون ان يكون للاختلاف الديني علاقة بالموضوع.. ولكن انتهاء الحرب الباردة طرح على الغرب مقولة راح المفكرون والفلاسفة والمهرجون ايضا يروجون لها بشكل خاص, خلاصتها: ان الحياة حياة المجتمع الرأسمالي الغربي او فلنقل بصراحة اكبر حياة السلالة الاخيرة من المجتمع الهيليني مستحيلة بدون عدو.. وان اختفاء الاتحاد السوفييتي يحتم على الغرب البحث عن عدو جديد به وجوده.. ومع ان هذا القول يبدو في نظر اكثر العقلاء في العالم نوعا من الهرطقة غير المفهومة, اذ ليس من المعقول بداهة ان يسعى احد الى استنساخ عدو ليناطحه.. الا انها وجدت من يضفي عليها هالات فلسفية حتى تبدو منطقية ومقبولة. وقرأنا وسمعنا عن ذلك المنظر العظيم الذي راح يدعو لصراع الحضارات.. مدعما فكرة (ضرورة العدو) بانها التطبيق العملي لنظرية التناقض التي تقول ان الشيء لا يوجد الا مقترنا بوجود نقيضه.. ومن ثم, فلابد ان يبحث الغرب وامريكا بنوع خاص عن نقيضه حتى يظل موجودا!! وربما كان من الممكن ان يذهب هذا الحديث عن (العدو المطلوب) مذهب كثير من الصرعات المجنونة التي لا تكاد تولد حتى تموت.. لولا ان هناك قوى معينة, لها وزنها وتأثيرها في الادارة الامريكية وفي الكونجرس وفي دوائر المال والاعمال والشركات متعددة الجنسيات وبالذات العاملة في صناعة وتجارة السلاح لها مصلحة مباشرة في وجود العدو المنشود, فتلقف كل هؤلاء الفكرة بحماس شديد.. وما ان اشارت لهم اصابع اللوبي الصهيوني الى الاسلام حتى استجابوا هاتفين.. نعم نعم هذا العدو.. الذي ينبغي ان نسخر كل امكانياتنا لمحاربته والقضاء عليه!! ولكن المسألة لم تكن بمثل هذه البساطة. فالغرب الاوروبي الذي اجتازت علاقته بالعالم الاسلامي العديد من المحن ومراحل الهبوط والصعود قد استقر الان على شكل معقول من العلاقات المتوازنة, ولم يكن مستعدا للقبول بسهولة بفكرة (العدو الاسلامي) التي تعود مكاسبها على امريكا وحليفتها اللصيقة اسرائيل, دون ان تستفيد اوروبا منها شيئا يذكر.. ثم ان دافع الضرائب الامريكي كان يحتاج الى حوافز اكثر اقناعا من مجرد اثارة الغرائز العنصرية المقيتة المتخلفة منذ عشرة قرون حتى يقتنع بان العدو الاسلامي خطر على وجوده.. او على الاقل يستحق عداءه حتى يكون مستعدا لسداد فواتير محاربته.. ومن هنا نشطت عملية تشويه الانسان العربي المسلم في الاعلام الامريكي.. حتى اصبحت صورته النمطية في الرسوم الكاريكاتيرية المطلة على الجمهور يوميا بالصحف, وفي مسلسلات التلفزيون وأفلام السينما والمسرحيات الكوميدية وبرامج الاطفال وحتى اعلانات صابون الغسيل تثير المقت والكراهية والاحتقار.. وتضفى على شجرة العداء مزيدا من الغصون والاوراق والثمار والظلال.. واذا كان كل ذلك لا يكفى لتأصيل العداء للاسلام والمسلمين في المجتمع الامريكي, فان اقتران معظم الاعمال الارهابية بأسماء اسلامية على صعيد العالم يعزز نزعة النفور من المسلمين ويشجع الرأى العام على تأييد اي عمل تقوم به الادارة ضد اي بلد اسلامي.. وكلما زاد العمل الارهابي بشاعة, كلما كانت ردود الفعل اقوى واعمق اثرا. ولنتأمل معا كيف كان رد فعل الرأى العام العالمي والامريكي بنوع خاص ازاء حادث معبد حتشبسوت في صعيد مصر, والذي لم يكتف فيه الارهابيون بقتل نحو ستين سائحا اوروبيا ويابانيا معظمهم من النساء والاطفال, وانما عمدوا بعد القتل الى جز رؤوس الضحايا, بقر بطون النساء وتمزيق اوصال الاطفال, وكأنما ينفذون على ارض الواقع كل خيالات افلام الرعب الهوليودية.. فاذا لاحظنا ان المفروض في اي ارهابي ان يكون التفكير في الهرب هو اول ما يسعى اليه بمجرد تنفيذ جريمته, فان من حقنا ان نتساءل لماذا ضيع القتلة كل هذا الوقت في التمثيل بجثث قتلاهم, ولماذا ايضا كانوا حريصين جدا على ترك شعاراتهم (الاسلامية) في مسرح المذبحة؟ الاجابة واضحة ولا تحتاج الى تدليل.. فالهدف الحقيقي كان اضفاء اكبر قدر ظاهر من البشاعة على العملية الارهابية حتى ينعكس ذلك بكل سوءاته على الاسلام والمسلمين.. ولن ندهش عندما ينكشف ذات يوم قريب او بعيد ان وراء هذه العملية القذرة تكمن ايادي الموساد بالتعاون الوثيق مع الامريكان.. *** وبعد كل هذا لابد من التأكيد على حقيقة ان تغذية نزعة العداء للاسلام ليست سوى ستار لاخفاء النوايا العدوانية للتحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة واسرائيل.. وهي جزء من المسعى الامريكي لبسط الهيمنة السياسية والاقتصادية على العالم اجمع.. ولعلنا نلاحظ ان الولايات المتحدة, وقد خلا لها الجو وانفردت بزعامة العالم بعد اختفاء القطب السوفييتي تكتسب اليوم صفات واساليب الاستعمار القديم, ولكن على نحو اكثر حداثة وتطورا.. ولقد كان الظن في عهد سيادة القانون الدولي وميثاق الامم المتحدة ان سياسة البوارج قد انتهت الى غير رجعة. ولكن امريكا تستعيدها اليوم.. وبشكل اكثر خطورة وبغيا, حيث استبدلت بالبوارج حشود القاذفات والصواريخ عابرة القارات وحاملات الطائرات والقنابل الذكية لارهاب الدول المستضعفة وارغامها على الرضوخ لارادتها وتسليم مصالحها للمستعمر الامريكي.. او حليفه الاسرائيلي. وقد لا يقتصر الامر على مجرد التهديد الذي لا يمكن وصفه الا بالبلطجة المباشرة, مثلما حدث مؤخرا مع العراق, وانما حدث بالفعل ان ارتقى الى مستوى العدوان المباشر مثلما جرى في السودان وافغانستان. ومن يتابع تصريحات صانعي القرار في الولايات المتحدة لابد ان يدرك ان هذه السياسة قد اصبحت تمثل خطا استراتيجيا ثابتا للادارة الامريكية.. ازاء العالم كله. وان كان التركيز الحالي للعالم الاسلامي يرجع الى اسباب موضوعية اهمها حماية الاطماع الاسرائيلية من اية اخطار يمثلها البعد الاسلامي للعالم العربي.. ويلى هذا في الاهمية ان التفكك الراهن في بنية الامة الاسلامية يشجع الطامعين على البدء بها, قبل التعرض لمنافسة الاقطاب الدولية البازغة في اوروبا والشرق الاقصى.. خصوصا وان السيطرة على مخزون النفط العالمي في الدول الاسلامية يضمن لامريكا تفوقا هائلا في الصراع المقبل ضد التكتلات الاقتصادية عبر المحيطين الهادي والاطلسي..

Email