قضية عربية: شباب مصر إلى أين: الحقبة الناصرية شهدت العصر الذهبي للشباب

ت + ت - الحجم الطبيعي

ظاهرة شباب عبد الناصر لم تقف عنده كشخص بل امتدت إلى كل الميادين حتى ان البعض اعتبر ان مرحلة الخمسينات والستينات هي بجدارة مرحلة الشباب في مصر, فالثورة تفجرت على أيدي ضباط صغار السن , كما جاء في المناصب الوزارية شباب في عمر الثلاثين, وكذلك رؤساء نقابات ولم يقف الأمر عند ذلك بل امتد إلى ميادين الابداع في الفن والأدب, فما هي موقع هذه الحقبة في مجمل قضية الشباب في مصر, أو بمعنى آخر, هل لقضية الشباب الآن جذور بدأت في هذه الحقبة التي يحلو للبعض ان يعتبرها نقطة بداية مشاكل مصر, فيما يعتبرها البعض الآخر العصر الذهبي لشباب مصر. يحمل تاريخ الثورة وقائدها قصصا عديدة في هذا المجال تعطى دلالات على مفهوم (الثورة للشباب) بمعنى وضعه على رأس الهرم السياسي والاقتصادي والاجتماعي, وكان عبد الناصر يضع في ذهنه هذه القاعدة أو هذا المعيار عملا بما يقوله علماء الاجتماع السياسي (حين تكون الثورة يكون الشباب) , وقبل الابحار في هذه القصص نرصد من خلال الاطلالة على هذه المرحلة ما يلي: كان معدل السن للضباط الأحرار الذين فجروا ثورة يوليو يتراوح بين 25 عاما, و 34 عاما (عمر جمال عبد الناصر). وكان اختيار جمال عبد الناصر للنماذج القيادية من الشباب منهجا أصيلا في توجهاته حتى أصبح معدل السن للوزراء والمسؤولين في المواقع القيادية الأخرى يسير في الشريحة العمرية التي تبدأ من الثلاثينات حتى الأربعينات, ضياء الدين داود كان وزيرا للشؤون الاجتماعية قبل أن يبلغ الأربعين, ومحمد فائق وزيرا للارشاد القومي في العمر نفسه, وفي مطلع الثورة أسند إليه مسؤولية حركة التحرر الأفريقي وعمره 26 عاما, ثم وزير دولة للشؤون الخارجية وعمره 35 عاما. على نفس النمط كان شعراوي جمعة وزيرا للداخلية وصلاح هدايت وزيرا للبحث العلمي, وقبل الوزارة كان مسؤولا عن برنامج الطاقة النووية وهو في الخامسة والثلاثين. وكان فتحي الديب وزيرا للخارجية في العمر نفسه, ولبيب شقير نائبا لوزير التخطيط وعمره 36 عاما ثم وزيرا للتخطيط وعمره 38 عاما فوزيرا للتربية والتعليم وعمره 40 عاما, وقبل ان يصل إلى عمر الـ 43 تولى رئاسة مجلس الأمة عام 69, كما تولى صفي الدين أبو العز وزارة الشباب وهو في نهاية الثلاثينات من عمره, وأنور سلامة وزارة العمل وعمره 33 عاما. وكلاء ومحافظون ومن الوزراء إلى فئة وكلاء الوزراء ورؤساء النقابات تظهر الدراسات ان وكلاء الوزارات بلغ عددهم مثلاً في عام 1964, 137 وكيلا يمثل الشباب, فهم ما يزيد على النصف لو اعتبرنا نهاية الأربعينات من العمر تدخل ضمن حقبة الشباب, أما عن أول تطبيق لنظام الادارة المحلية وتعيين المحافظين في سبتمبر 1961 فقد شمل القرار 21 محافظا منهم سبعة من الضباط الأحرار هم وجيه أباظة وحمدي عبيد, اسماعيل فريد, محمد البلتاجي, محيي الدين أبو العز, حمدي عاشور, صلاح الدين الدسوقي, وتمثلت الشريحة السنية لأكثر من نصف عدد المحافظين ما بين 35 إلى 45 عاما. وعلى صعيد النقابات ترأس محمود يونس نقابة المهندسين في مطلع الثورة, وفي الستينات ترأس أحمد الخواجة نقابة المحامين, وهو في مطلع الأربعينات من عمره, وفي نقابة الصحفيين شهدت قيادة لنموذجين كل منهما في الأربعين من عمره, وهما أحمد بهاء الدين وكامل زهيري, وفي اتحاد العمال تولى رئاسته عبد اللطيف بلطية وهو في نهاية الثلاثينات. ويبلغ عدد من تولوا المناصب الوزارية منذ تشكيل وزارة محمد نجيب في سبتمبر 1952 وحتى آخر تعديل وزاري أجراه عبد الناصر في 28 أكتوبر عام 1968, 131 شخصية بينهم 44 من العسكريين بنسبة 33%, والباقي 87 مدنيا بنسبة 66%, أم رؤساء الوزراء جمال عبد الناصر, علي صبري, زكريا محيي الدين, صديق سليمان, دار عمرهم بين معدل 36 عاما, و 52 عاما (عمر عبد الناصر عند رحيله). الاستقلال الاقتصادي ومن هذه التقديرات للشرائح العمرية للوزراء إلى تناول بعض القصص التي تدل على أصالة هذا التوجه تأتي قصة اختيار د.عزيز صدقي وزيرا للصناعة وهو بعد لا يزال في الـ30 من عمره. يقول الدكتور عزيز صدقي: قامت الثورة على أكتاف الشباب في المجالات, ومن جانبي انخرط في صفوف الثورة منذ بدايتها حين قررت انشاء مجلس الانتاج عام 1953 برئاسة جمال سالم (35 سنة) واشراف محمود يونس (36 عاما) وتم اختياري عضوا في هذا المجلس وعمري (28 عاما) وقام المجلس بدراسة احتياجات البلاد من الناحية الاقتصادية والانتاجية وذلك في كلا المجالين, وأعطى هذا المجلس فهما مبكرا لمدى رغبة الثورة في الاتجاه ناحية التنمية وزيادة الانتاج, وان الاستقلال الاقتصادي هو المكمل للاستقلال السياسي, كان انضمام عزيز لمجلس الانتاج بداية الانطلاق, وفتح الآفاق لشاب قام بتشييد صرح الصناعة في مصر, رغم أنه أخذ نصيبا غير قليل من الكلام لم يكن في صفه في اجتماع لمجلس الوزراء عام 1953, حيث وجد أعضاء المجلس أمامهم مذكرة موقعا عليها من (الدكتور عزيز صدقي) مع اقتران امضائه بلقب (المستشار الفني لرئيس الوزراء) فلما وقع نظر (جمال سالم) على الوصف, صرخ بأعلى صوته: (ابن الـ... مين اللي عينه مستشارا فنيا لرئيس مجلس الوزراء؟) وكان اللواء محمد نجيب هو رئيس المجلس الذي أعلن أمام الجميع انه لم يعينه, ولم يستعن به في شيء, ولم يعرض عليه أي عمل, وأي تقرير من تقاريره, وان أقصى ما سمعه عنه ان الصاغ مجدي حسين ــ مدير مكتبه ـ قد ألحقه بمكتبه كمعاون له, أي لمجدي لا الرئيس, وانه لم ير التدخل فيمن يختارهم مدير مكتبه لمعاونته في عمله. ناصر وصدقي شهور قليلة مرت على هذه الحكاية, وكان عبد الناصر في زيارة لأحد مصانع السويس, واستمع لشرح جيد من عزيز صدقي واجابة على كل الأسئلة بعقلية واضحة ومرتبة. واستمع جمال إلى الشرح, وأعجب في صمت بالشاب فائق الحيوية, حتى قال له عبد الناصر بعد ذلك: (أنا عايزك تمسك الصناعة) ولفظ تمسك من الألفاظ (الميري) التي يتعود على اطلاقها العسكريون, بدأ عزيز عمله في حجرة لا تتجاوز 60 مترا تابعة لوزارة التجارة, فلم يكن بين الحقائب الوزارية للصناعة حتى يوليو عام 1956 وبحيوية الشباب بدأ عزيز عمله ليرفع الدخل القومي لمصر من الصناعة من 11% في مطلع الخمسينات إلى 50% بعد الخطة الخمسية ويرحل عبد الناصر عام 1970 وفي مصر 900 مصنع لكل واحد منها مثال للعجب, فشركة المراجل التجارية التي تم تشييدها تمهيدا لأن تساهم في صناعة الطاقة النووية في مصر, سافر لأجلها كفاءات شبابية صغيرة إلى الخارج في مهام سرية لمعرفة أسرار هذه الصناعة, ومنهم المهندس محمد عبد الوهاب وزير الصناعة في الثمانينات, والذي سافر إلى ألمانيا في الستينات وهو شاب لا يتجاوز عمره الـ 28 عاما.. وكان سفره في مهمة سرية لالتقاط كيفية تركيب نوع من الآلات الدقيقة ولم يكن عبد الوهاب وحده بل سافر آخرون في سرية لدول مختلفة والهدف واحد هو انشاء شركة المراجل الأولى من نوعها وضخامتها وكفاءتها في منطقة الشرق الأوسط ولم يعد سرا ان هذه الشركة التي قامت على أكتاف الشباب جاءت في مقدمة المشروعات التي صمم صندوق النقد الدولي على بيعها في ظل سياسة الخصخصة واشترتها شركة هولندية, وأول ما حرصت عليه هو نزع صورة جمال عبد الناصر, وتمثال صغير له في الواجهة. وفي سياق المقارنة لابد من الاشارة إلى ان الشاب عزيز صدقي قاد النهضة الصناعية في مصر, وعكس هذه الروح على هيكل القيادات في الشركات, أما الآن فلا يوجد رئيس مجلس ادارة لشركة من شركات قطاع الأعمال العام الـ 350 شركة من هو في الأربعينات من عمره, ويتراوح أعمار رؤساء مجالس الادارات ما بين الـ 55 عاما و الـ 65 عاما. وعلق على ذلك في احدى جلسات مجلس الشعب الدكتور زكريا عزمي رئيس ديوان رئيس الجمهورية بقوله: ( نقيم الاحتفالات لتسليم كؤوس الانتاج لرؤساء شركات خاسرة تصل أعمارهم إلى الـ 70عاما.. وأضاف متسائلا, أين الشباب؟ وبقدر ما كان الصعود الهائل في الصناعات المدنية.. كان الشباب بين الصناعات الحربية تحت قيادة شاب واعد هو عبدالوهاب البشري الذي تولى فيما بعد وزارة الانتاج الحربي وكان ضمن فيلق الشباب المشارك في هذه الصناعة السفير السابق بالخارجية المصرية بهي الدين الرشيدي, يقول: كنا في مطلع الخمسينات مجموعة من الشباب الطموح من الضباط والمهندسين وفنيين واداريين نعمل تحت قيادة شابة في ادارة المصانع الحربية, وكانت ادارة وليدة أنشأتها الثورة وأسندتها الى الشباب. ويضيف: تكاتفت ادارة المجموعة لتضع أول نواة للصناعات الحربية التي امتدت وتشعبت بعد ذلك الى كل جوانب الصناعات الثقيلة في مصر. البترول والشباب ومن مجال الصناعة الى مجال صناعة البترول, يروي عبدالحميد أبوبكر أحد خبراء البترول الآن في مصر, والرجل الذي عاش قصة البداية, وكيف لفت عبدالناصر النظر الى هذا المجال وضرورة اقتحامه بطاقات شبابية. يقول: كنت في المكتب الفني لمجلس قيادة الثورة الذي عرف بمجلس الانتاج.. استدعى جمال عبدالناصر المهندس محمود يونس مدير المكتب الفني.. وأخبره بأنه تقرر تعيينه عضوا لمجلس الادارة والعضو المنتدب لمعمل تكرير البترول الحكومي بالسويس, وعاد يونس الى مكتبه الذي كان قريبا من مكتب عبدالناصر في مجلس قيادة الثورة, وأخبرني بالقرار وكنا مندهشين لضآلة حجم المسؤولية اذا قورنت بالمسؤولية الكبيرة التي كان يقوم بها في ذلك الوقت, وفجأة دخل الرئيس جمال عبدالناصر الحجرة, ووقف قريبا من الباب واضعا احدى قدميه على كرسي من الخيزران, وكانت فرصة لأن أسأله عن حكاية معامل بترول السويس. وأجاب عبدالناصر: اذا مثلنا استقلال مصر بكرسي له أربع أرجل فإن احدى هذه الارجل هي البترول, ونحن لا نملك الا معمل تكرير البترول بالسويس, وتطلب شركة شل الانجليزية شراءه خردة بمبلغ 27 ألف جنيه, كذلك توجد جمعية مصرية تسمى (الجمعية التعاونية للبترول) لها شقتان في ميدان الفلكي, وبقية بترول مصر وحقولها في أيدي الاجانب. وقال عبدالناصر: علشان كدة أنا عايزكم تتعلموا وتهتموا بالبترول وتستعينوا بالمصريين العاملين في الشركات الاجنبية لانشاء البترول الوطني. ويضيف عبدالحميد أبوبكر: منذ ذلك الوقت بدأنا حشد طاقات الشباب للعمل في البترول وأنشأنا شركات تكرير في السويس والاسكندرية والقاهرة, وشركة خط أنابيب البترول, وشركة الجمعية التعاونية للبترول, وأول شركة مشتركة مع ايطاليا لانتاجه واشترينا بعض ناقلات البترول ووضعنا برنامجا كبيرا لتعيين الكوادر اللازمة من الشباب لتشغيل وقيادة هذا القطاع. ويضيف: أرسلنا العديد من الشباب في بعثات للخارج في مدد تتراوح بين سنة وستة أشهر, وكنت على رأس أول بعثة من المهندسين للتدريب في شركات شل في الخارج, والمهندس عزت عادل (رئيس هيئة قناة السويس سابقا) على رأس البعثة الثانية, وهكذا تم وضع أساس البترول الوطني, وانشاء أول هيئة وطنية في العالم العربي في ذلك الوقت تتولى شؤون البترول في مصر وهي (الهيئة المصرية العامة للبترول) وعين محمود يونس ابن الــ 40 عاما رئيسا لها وأنا ابن التاسعة والعشرين سكرتيرا عاما. شباب الاخوان هذه الاختيارات تمت حين آل لعبدالناصر القيادة الحقيقية لمصر, غير ان هذا النهج كان أصيلا في تفكيره منذ قيام الثورة, ولعل قصة التشكيل الوزاري بعد الثورة بعام واحد يكشف ذلك. يحكي الراحل فتحي رضوان عن قصة التشكيل الوزاري بعد الثورة بعام واحد.. يقول: كنت واقفا مع جمال عبدالناصر وهو يروي حيرته بين معسكرات الاخوان المسلمين, فالشباب لهم مرشحان.. والشيوخ لهم مشرحان اخوان, فقلت له (حبذا لو أخذت الشيخ احمد حسن الباقوري) . وكان (جمال) متلهفا على حل فسألنا وهو شارد الذهن (من؟) فأعدت عليه الاسم, فعاد يسأل (من؟) , فلما أعدته عليه للمرة الثانية بدت عليه خيبة الأمل, فقلت له: (الحقيقة أنا بودي ان يكون من بين الوزراء أزهري صاحب عمامة, فللأزهر ولأصحاب العمائم فضل على نهضة مصر الحديثة, فكان منها الخطباء والشعراء والصحفيون والمفكرون, ولكننا درجنا على اهمالهم بلا مبرر و(الباقوري) ازهري مشتغل بالسياسة, وقد جره هذا الاشتغال الى المعتقل فقضى به وقتا غير قصير, وهو خطيب ومتحدث ومتطور وسيرى فيه الناس صورة جيدة للأزهر, فأجابني: (ان أردت الحقيقة أنا أفضل ان يكون ممثل الاخوان هو (حسن العشماوي) فهل تعرفه؟.. قلت له: أعرفه جيدا.. فقد تردد على مكتبي.. ووكلني في قضايا الاخوان, واعطاني في يدي هذه مئات الجنيهات, وهو شاب ذكي وسيكون له بلاشك مستقبل سياسي, ولا اعتراض على ترشيحه للوزارة وان كان لايزال صغير السن جدا) . فقال لي عبدالناصر على الفور: اذن نأخذه ودعك من الباقوري) فقلت له: افعل ماتشاء.. فأنتم اصحاب الامر.. وانا لا أقول ما اقول الا على سبيل الاقتراح) . العشماوي والباقوري فتحي رضوان في روايته: العجيب انني سمعت عبدالناصر يقول لي: (ولكنني اريد ان توافق على دخول حسن العشماوي الوزارة) فأدهشنى اصراره على طلب موافقتي, فقلت له (موافق) فسألني (وسحبت ترشيحك للباقوري؟ فزادت دهشتي.. وقلت له: ان ترشيحي للباقوري او لغيره, هو مجرد اقتراح تأخذون به او تدعونه كما يحلو لكم, ولست ارى تعارضا في ان تأخذهما معا.. فهما مرشحان جيدان) فقال في اسف (بل لابد من اخذ احدهما فقط لاني لا استطيع ان اخذ من الاخوان المسلمين اكثر من واحد, واريد ان يكون هذا الواحد هو العشماوي ولكنك مصمم على ترشيح الباقوري) فقلت له: وماذا يقدم تصميمي او يؤخر.. فأنت الذي تختار الوزراء لا أنا فهز رأسه وقال: ليكن ماتريد, سنأخذ الباقوري. كان معيار السن هو الذي انحاز اليه عبدالناصر لدى عرض اسم حسن العشماوي عليه من الاخوان على الراغم انه لايزال (صغير السن جدا) كما ابدى في اسف وحسرة انه لايستطيع ان يأخذ من الشباب الاخواني من الوزارة غير واحد فقط.. وعلى العموم فقد كان الباقوري آنذاك في نهاية الثلاثينات من عمره وبنفس المعيار اختار الدكتور صطفى خليل وزيرا للمواصلات رغم تحفظ البعض عليه من زاوية انه (صغير السن) وصغير في درجته الجامعية (مدرس) كما انه يحمل اقتراحا خاصا بالتحكم المركزي للسكة الحديد, ورفضه جميع مهندسي السكة, وربما يدفعه ذلك الى اساءة معاملتهم, كما ان صغر سنه قد يحمله الى اقالة الموظفين الكبار فيها, وكان تعليق عبد الناصر (خليه يديلهم على رؤوسهم) يستاهلوا وكان عبدالناصر دائم الشكوى من مرفق السكك الحديدية, ومن كبار موظفينا ويتمنى ان يتخلص منهم, او يضع لهم من يتولى قيادتهم, كان مصطفى خليل قد نال درجة الدكتوراة من الجامعات الانجليزية وكان عبدالناصر ينظرالى المسألة باعتبار, ويبحث في كل مستودع عن الكفاءات التي تحمل درجات علمية رفيعة وتحمل في نفس الوقت طاقة العمل, وارادة الشباب وكانت قدرته العظيمة في صهر يد هؤلاء في بوتقة واحدة على الرغم من مشاربهم الفكرية المختلفة وعلى ذكر البحث عن الكفاءات الشبابية من كل المستودعات تأتي قصة اختيار الدكتور عبدالمنعم القيسوني كنائب لوزير المالية ثم وزيرا لها لتحمل ايضا دلالات. الحضور الاجتماعي كان الدكتور عبدالجليل العمري وزير المالية قد شكا من كثرة عمله بوزارة المالية, وطلب الاستعانة بنائب وزير يحيل اليه بعض اعماله, وكان محمود فهمي رزق زوج شقيق حرم جمال عبدالناصر موظفا كبيرا وقديما من موظفي البنك الاهلي, وكان البنك مستودعا للكفاءات الاقتصادية.. وكان اكثر موظفيه من الشباب المصري الذين حصلوا على الدكتوراه في الاقتصاد من انجلترا وامريكا ورأى ان يستعين بزوج شقيقة حرمه في اختيار واحد من شباب البنك للمنصب الجديد, وعرض الرجل اسم عبدالمنعم القيسوني وعلي الجريتلي كنموذجين للشباب متقاربين ولكن الجريتلي اوسع علما واكثر شجاعة اما القسيوني فأكثر اختلاطا بغيره من موظفي البنك, واقل انطواء على نفسه وبعدا عن الناس واختيار عبدالناصر للقيسوني تم حسمه من زاوية حضوره الاجتماعي, وكان هذا المعيار واحدا من المسائل التي حرص عليها عبدالناصر.. او كان نقطة ترجيح عنده حين يتساوى المرشحون في مجمل المعايير التي يضعها.. واذا كانت الاختيارات السابقة قد تمت بواسطة المشاورات الشخصية مع بعض الرموز السياسية التي كان لها باع في العمل السياسي قبل الثورة, ثم عملت بجوار عبدالناصر, كفتحي رضوان , فأن طريقة الاختيار انتقلت بعد ذلك الى اساليب اخرى, وكما يقول محمد محمود الجبار احد الضباط الاحرار, وسكرتير عبدالناصر والمسؤول بدرجة وزير في رئاسة الجمهورية حين كان الرئيس يشغله اختيار شخص لمنصب ما ويرى امامه اكثر من شخص ملائم للمنصب يطلب معلومات وافية عنه مثل, كم يبلغ من العمر ومدى حضوره الاجتماعي, وكفاءته العلمية, واشياء اخرى, وكان يضع علامات او دوائر حول كل اسم بعد قراءة ماطلب.. وهذا الاسلوب لم يتم اتباعه الا بعد عبور الازمات الاولى للثورة ورغم كل ذلك كان كل مايشغل عبدالناصر منذ قيام الثورة هو البحث عن الكفاءات في كل مكان. شباب الابداع كان ميدان الابداع هو الاخر اكثر فيضانا في افراز الشباب في مجال الشعر تولدت مواهب احمد عبدالمعطي حجازي, صلاح عبدالصبور, صلاح جاهين, وفي مجال الرواية والمسرح انطلق يوسف ادريس, وفي مجال الغناء جاءت اسماء عبدالحليم ومحمد رشدي, ومحرم فؤاد, ونجاة وفايزة احمد, وشادية يقف من ورائهم كوكبة موسيقية بازغة, كمال الطويل, الموجي, بليغ حمدي, وبكلمات لشعراء شباب جدد تفتحت مواهبهم مع الثورة مثل احمد شفيق كامل ــ صلاح جاهين. والمعروف ان مؤسسة الثقافة التي قامت برعاية الابداع كان على رأسها د.ثروت عكاشة مؤسس نهضة مصر الثقافية الحديثة وكان عمره 37 عاما حين اسند اليه عبدالناصر الوزارة في عام 57, وكانت على غير رغبته كما يقول: قال لي عبدالناصر نحن نستطيع ان نبني المصانع بسهولة لكن من الصعب ان نبني الانسان المصري, واحتاج لهذه المهمة من يؤمن بي ويحرث الارض في سبيلها وانت مؤهل لذلك (فسحب ثروت عكاشة اعتذاره وبدأ في مشروعه الثقافي الضارب بجذوره في المجتمع المصري حتى اليوم, وتزامن مع هذا انطلاقات في مجال الفن وعلى رأسها الحالة الغنائية لعبد الحليم حافظ وجيله, كمال الطويل والموجي, وبليغ حمدي ومحمد رشدي, كلهم قادوا ثورة في الغناء العربي وعمرهم يتخطى الــ 27 عاما. يعلق على هذه الظاهرة المفكر المصري والاستاذ بالجامعة الامريكية الدكتور جلال امين قائلا ان هذه المسألة لها علاقة بالسياسة المتبعة ثورية ام محافظة.. فحين تكون الثورة, تكون الانماط الجديدة في كل شيء في الشعر, والادب والغناء والسياسة وكانت ظاهرة عبدالحليم حافظ, وجيله الشباب الواعد هي ظاهرة غناء لشعب مبتهج يحب الحياة, ويعيش التفاؤل فكما ان عبدالناصر كان يشق طريقا جديدا اخر في السياسة الخارجية والاقتصادية, ويزيح طبقة ليحل محلها طبقة اخرى, كان شباب الكتاب والمثقفين والفنانين يقلبون الارض بحثا عن الجديد كان عبد الحليم حافظ والطويل والموجي ومرسى جميل عزيز يزيحون الاغنية الرتيبة البطيئة التي تقطر تشاؤما وانكسارا امام القدر, وذلا امام الحبيب, ليحل محلها اغنية سريعة, قصيرة فرحة ومتفائلة بالحياة كلماتها اقرب بكثير الى الواقع وتعكس ثقة اكبر بالنفس. ويضيف الدكتور جلال كان حجازي وعبدالصبور يكسران قواعد الشعر عن مواطن الجمال في لغة العامة وتعبيراتهم واسلوب حياتهم, كان يوسف ادريس يفعل نفس الشيء في القصة والمسرح واحمد بهاء الدين يرسي اسس مدرسة جديدة في الصحافة كل هذه التحولات ترتبط بقيمة عبدالناصر كقائد وطني شاب والدليل على ذلك ان كل هؤلاء توقفوا بعد رحيله وتدشين السادات لسياسة جديدة.. وينبه الدكتور جلال امين الى ضرورة عدم التوقف امام الظاهرة بمعيار السن فقط وانما يجب ان تتسع لتقول في نهايتها ان المجتمع كان في مجمله شابا.. يبني.. ينتج.. يغني.. حتى الشيخ في عمره كان شابا في مسلكه. مجتمع شاب الكاتب الصحفي كامل زهير له توصيف وتفسير لهذه الظاهرة, وكان عمره 40 عاما وهو نقيب للصحفيين ومدير للتحرير وعمره 28 عاما فرئيس لمجلة الهلال وعمره 35 عاما يقول: كان احمد بهاء الدين رئيسا لتحرير صباح الخير وهو في التاسعة والعشرين, والاخبار وهو في الثلاثينات واغلب من شغلوا مناصب رؤساء التحرير وفازوا بعضوية مجلس نقابة الصحفيين في دورات متتالية كانوا في الثلاثينات مثل سعيد سنبل او يوسف ادريس وصلاح الدين حافظ وغيرهم, وعلى صعيد السينما ولدت اجيال استفادت من مجانية التعليم والتحقت بمعهد السينما لتكون من نجوم المجتمع وهي صغيرة السن مثل جيل حمدي احمد. ويضيف زهيري: جاءت هذه الظاهرة مع الثورة نتيجة ما خلفته من حراك اجتماعي تم من خلال تكسير القيود سواء في الالقاب او الملكية وأتاحت الثورة لابن الفلاح والعامل التعليم بالمجان, واحدث هذا حراك اجتماعي واسع ساهم فيه تدخل الدولة في مسألة الكتاب, وعمل حركة ثقافية واسعة ونشيطة, واحدثت هذه التحولات نوعا من التقارب الاقتصادي والاجتماعي سهل معه البحث عن قيادات جديدة سواء في العمل الصحفي او السياسي او غيره ومادامت الاوضاع الطبيعية تسمح بالتغيير فمن الطبيعي ان يكون الطريق مفتوحا لاي موهبة جديدة شابة مثلما حدث مع احمد بهاء الدين وغيره فقد كان معدل سنهم مابين 28 و 35 عاما وهي السن التي تحمل رغبة في التجديد والابداع. هل يمكن اعتبار هذه الظاهرة استثنائية في تاريخ مصرالحديث؟ في دراسة للدكتور رفعت لقوشة الاستاذ بجامعة الاسكندرية عن (مجتمع شاب وسياسة عجوز) يذكر انه حين يفقد المجتمع الوعي, يفقد الذاكرة وحين يفقد الذاكرة يدخل مرحلة الشيخوخة.. هذه القاعدة العامة في تطبيقها على الدولة المصرية الحديثة سوف نجد معناها الايجابي يتمثل فقط في فترتين هما, فترة جمال عبدالناصر ويضيف في فترة الخمسينات والستنيات كان ايقاع المجتمع شابا خاصة وان سن العطاء الحقيقي في مصر يبدأ من الثلاثين حتى سن الخامسة والخمسين, في الثلاثي تتبلور التجربة وحتى الخامسة والخمسين يكون العطاء متجددا, وهذا القانون فهمه جمال عبدالناصر جيدا بقيادته الفذة, ونظرته المستقبلية ولهذا كان ايقاع المجتمع شابا وحمل تفاعلات شابة في الحدث السياسي والاجتماعي فكان هناك توسيع لرقعة الطبقة المتوسطة وبالتالي دفع عناصر صغيرة السن الى مواقع المسؤولية ساعد على هذا كاريزما عبدالناصر التي فجرت الاحلام بمحاربة الاحلاف العسكرية ورفع شعارات الوحدة العربية,. وتأكيد العدالة الاجتماعية, وتعاطي الشعب كل ماهو جدير بالاحترام على المستوى السياسي, وفجر كل هذا مايسمى بحلم الملاحظات على المستوى (السيكو اجتماعي) ولايتم ذلك الا في مجتمع شاب يطرح احلاما قومية هائلة وتأسيسا على ذلك يقول الدكتور لقوشة (بلا مواربة ان اهم محاولة لتجديد شباب مصر كانت مع عبدالناصر) . القاهرة ــ ماجدة السيد

Email