هنري مونيدييه أستاذ العلوم السياسية بجامعة السربون لـ(الملف): لا غرابة ان تنتقل أوروبا الى القرن المقبل في ثوب الاشتراكية الجديدة

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد نهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين برزت في اوروبا وخاصة تلك المنضوية تحت لواء الاتحاد الاوروبي, توجهات نحو تعزيز دور الطبقة الوسطى على الصعيد الاجتماعي ومواقف الوسط على الصعيد السياسي . وجاءت نتيجة لذلك حركات اجتماعية سريعا ما انعكست على صناديق الاقتراع لتحمل الى الحكم تحالفات حزبية يطلق عليها تحالف اليسار وحماة البيئة, وما يجمع بين هذه التحالفات هو تخليها عن المرجعية الايديولوجية التي سادت خلال سنوات ما قبل نهاية الحرب الباردة بل ان زعيم حزب العمال البريطاني ـ توني بلير ـ لم يتردد خلال لقاء مع الاشتراكيين الفرنسيين في القول (لا وجود لادارة اقتصادية يسارية واخرى يمينية بل هناك ادارة اقتصادية جيدة وادارة سيئة) , فاتحا بذلك الابواب نحو اثارة موضوع الطريق الثالث الذي عززه فوز شرويدر في الانتخابات الالمانية بعد ان قاد حملة انتخابية تدور حول ضرورة تعزيز الوسط او الطريق القائم بين اشتراكية الامس ورأسمالية اليوم. وفي فرنسا تخلى الاشتراكيون عن خطابهم السياسي المفرط في ايديولوجيته الذي ساد خلال سنوات عديدة ماضية ليظهروا امام الرأي العام في دور المعتدلين الذين لا هم لهم سوى الادارة الجيدة وانقاذ المجتمع من آفات البطالة والتهميش. وحتى في ايطاليا التي وصل الشيوعيون فيها الى الحكم لاول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية, ظهر اليسار ممثلا في الشيوعيين في حلتهم الوسطية والاشتراكيين, وكأنه الممثل الشرعي للطبقة الوسطى والمدافع عن مصالحها.. وعلى هذا النحو انتقلت معظم البلدان الاعضاء في الاتحاد الاوروبي الى عالم الاشتراكية في مفهومها الجديد المعتمد على تحالفات واسعة تضم ايضا حماة البيئة وعلى طبقة وسطى ذات طموح اصلاحي هادئ. هنري مونيدييه, استاذ العلوم السياسية في جامعة السوربون يعتقد في حوار خاص لــ (الملف السياسي) ان هذا التحول الهادئ في اوروبا باتجاه اليسار الهادئ الجديد ليس اكثر من تعبير عن توسع الطبقة الوسطى ورغبتها في القيام بدور فاعل تحسبا من ان تطالها المخاطر الاجتماعية مثل البطالة والتهميش الاجتماعي. وفيما يلي نص الحوار: بعد الانتخابات الالمانية تأكدت ظاهرة صعود اليسار وحلفائه من حماة البيئة والشيوعيين, الى الحكم في العديد من بلدان الاتحاد الاوروبي, فهل هي مجرد موجة عابرة سمتها الاساسية التداول الطبيعي على السلطة ام ان في الامر تغييرا في اتجاهات المجتمع والرأى العام الاوروبي؟ المسألة الاساسية في رأيي تكمن في الرد السياسي على الظواهر السلبية الجديدة التي اكتشفتها المجتمعات الاوروبية خلال السنوات العشر الاخيرة, فتفاقم البطالة والتهميش الاجتماعي وانتشار ظاهرة العنف في ضواحي المدن, اصاب الطبقة الوسطى بالهلع وجعلها تميل اكثر الى الاصلاح الاجتماعي بصورة معتدلة ولكن باتجاه معالجة هذه الظاهرة السلبية. وفي ظل هذا التطور داخل المجتمعات الاوروبية لم يقدم المحافظون او ما يطلق عليه باحزاب اليمين حلولا تستطيع اعادة الاطمئنان الى اوساط عريضة من الشعب بل ان ما اقدمت عليه بعض الاحزاب المحافظة والليبرالية خلال فترة حكمها من محاولات للاصلاح, ظلت غير مفهومة ولم تجد من يدعمها وذلك لسبب هام وهو ان حركة الاصلاح في اوروبا ظلت لصيقة بالاتجاهات غير اليمينية وبالتالي فان الشارع الاوروبي لم يعر تلك المحاولات الاصلاحية ليمين ما بعد الحرب الباردة اهمية واعتبرها مجرد مناورة للبقاء في الحكم.. والى جانب هذا, شهدت السنوات العشر الاخيرة توسعا كبيرا في الطبقة الوسطى والشرائح الاجتماعية التي تحيط بها, وهذه الفئات الاجتماعية غالبا ما تكون قريبة من اليسار المعتدل او ما كان يعرف باليسار الاصلاحي. واستطاع زعماء الاحزاب الاشتراكية الاوروبية من الشباب الذين لم يعرفوا فترة الحرب العالمية الثانية مثل بلير في بريطانيا وشرويدر في المانيا وجوسبان في فرنسا, ان يستشفوا توجهات مجتمعاتهم ومطامح الرأي العام وان يأخذوا بيد اليسار الذي كان في عهد الحرب الباردة غارقا في الايديولوجيا, ليجعلوا منه تحالفا اصلاحيا يضم في صفوفه كل اولئك الذين يعملون من اجل الاصلاح والطريق الوسط او كما اصبح يسمى الطريق الثالث.. وباعتقادي ان فكرة (اليسار المتعدد الاطراف) كما في فرنسا او (اليسار الوسط) كما هو في المانيا او (الطريق الثالث) كما هو في بريطانيا, تشكل اهم فكرة سياسية لمرحلة ما بعد الحرب الباردة, ولا غرابة ان تنتقل اوروبا الى القرن المقبل في ثوب الاشتراكية الجديدة.. أليس من التناقض ان تعود اوروبا بعد نهاية الايديولوجيا الى اليسار الذي يرتكز رغم كل شيء على ارضية ايديولوجية مثلما نلاحظ مثلا في ايطاليا؟ لا أعتقد ان مكونات اليسار في اوروبا مازال يستند الى مرتكزات او ارضية ايديولوجية بل على العكس فاننا نلاحظ ان حتى بعض المجموعات السياسية الصغيرة من اليسار المتطرف قد بدأت منذ مدة ترجح الجوانب العملية والاجتماعية وتتخلى عن التشبث بالقوالب الايديولوجية.. اننا نتجه مع نهاية هذا القرن ليس باتجاه يسار ايديولوجي وانما باتجاه يسار اجتماعي يسعى بكل جهده الى تنفيذ الاصلاحات الاجتماعية لمقاومة الآفات الجيدة مثل البطالة والتهميش. وكما لاحظنا في المانيا فان الاشتراكيين يلعبون دورا مركزيا في تشكيل تحالف واسع يضم مختلف مكونات الطبقة الوسطى وهذا التحالف ليس ايديولوجيا وانما يقوم على برنامج اجتماعي يدعمه كامل اليسار بما في ذلك بقايا الحزب الشيوعي.. واعتقد ان اوروبا ستدخل القرن المقبل وهي اقرب الى الاصلاح الاجتماعي من اية توجهات اخرى. فكرة الطريق الثالث خاصة عند الاشتراكيين تعيد الى اذهان بعض الذين عايشوا في بلدان العالم الثالث فترة الستينات, تلك الشعارات الخاصة بالاشتراكية المحلية والطريق الخاص في بناء الاشتراكية وهي شعارات اثبتت الاحداث عقمها بل انها كانت تخفي في واقعها تسلط الدولة.. فهل الطريق الثالث للاشتراكيين الاوروبيين ليس اكثر من اعادة تلك التجربة في واقع مختلف..؟ اولا لا يمكن ان نقارن بين بلدان العالم الثالث في الستينات وقد كانت قد خرجت لتوها من مرحلة الاستعمار وبحاجة لبناء الدولة وبين الوضع في اوروبا في الوقت الحالي. فالدول الاوروبية تنتمي للعالم الرأسمالي المتقدم والطريق الثالث الذي يبشر به الاشتراكيون الاوروبيون هو طريق الاعتدال في ظل العولمة الاقتصادية التي اصبحت تثقل كاهل المجتمعات وتثير الخوف في صفوف الطبقة الوسطى, بل هو دعوة للاصلاح والاعتدال امام رأسمالية تتضخم كل يوم دون اهتمام بما يثيره ذلك التضخم من بطالة وتهميش اجتماعي.. كما ان الاشتراكيين الاوروبيين استمروا في منح الدولة دورها كحكم في العملية الاقتصادية ودفعها نحو الاعتدال ولم يعيدوا لها ذلك الدور المتسلط والقوي والمالك لكل شيء.. ظلت العلاقات الالمانية الفرنسية تمثل منذ سنوات عديدة القاعة الاساسية في البناء الاوروبي, وقد صادف ان تألقت هذه العلاقات عندما كان الحكم في البلدين بلونين مختلفين, اما اليوم والاشتراكيون يحكمون في نفس الوقت في البلدين.. هل ستتغير هذه العلاقة وخاصة في جوانبها المتعلقة بالبناء الاوروبي؟ ايا كان لون الحكم في باريس وبون, فان العلاقات الالمانية الفرنسية وبشكل خاص فيما يتعلق بالبناء الاوروبي لن تتغير وذلك لانها تخضع لتراكم اتفاقيات ومصالح لم يعد من السهل التراجع عنها او التخلي عنها, بل أعتقد ان وجود الاشتراكيين وحلفائهم في الحكم في البلدين سيجعل من السهل وضع الأسس المقبلة للوحدة الاوروبية دون ان يعني ذلك انتفاء للخلافات بشأن موضوعات عديدة مثل الموضوعات المالية والاجتماعية وغيرها.. باريس ـ (البيان) : أجرى الحوار ـ منير علوان

Email