نافذة: محنة واي بلانتيشن:بقلم-د. عبد الحميد الموافي

ت + ت - الحجم الطبيعي

من المؤكد انه منذ اتفاق أوسلو عام 1993 لم يقابل اتفاق فلسطيني اسرائيلي بمثل ما قوبل به اتفاق واي بلانتيشن الذي تم التوقيع عليه في واشنطن في 23 اكتوبر الماضي بعد محادثات كانت بالتأكيد مضنية خاصة للجانب الفلسطيني . فعاصفة الاحتجاجات لا تزال مستمرة, وسوف تستمر لفترة غير قليلة على الساحة الفلسطينية, ومشاعر التشكك والتحفظ بادية حتى في كثير من ردود الفعل الرسمية العربية, ويتعرض الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الى انتقادات لم يواجه مثلها على امتداد تاريخه النضالي الذي اصبح عبر ما يقرب من 40 عاما جزءا حيويا في النضال الفلسطيني. وبغض النظر عن كثير من الاحكام التي اطلقت على الاتفاق والتوصيفات الجاهزة والمريرة التي الصقت بفريق التفاوض الفلسطيني والتي جاءت في جانب كبير منها في اطار مظاهرة الانتقاد والادانة, فإن المعضلة الحقيقية التي عاشت وتعيش فيها القضية الفلسطينية منذ اواخر النصف الاول من هذا القرن تتمثل ان كثيرا من الاطراف العربية وحتى غير العربية تعطي لنفسها الحق ليس فقط في استباحة الساحة الفلسطينية ومحاولة التلاعب ببعض الجماعات الفلسطينية ولكن ايضا الحق في اصدار الاحكام والنظر لما يتصل بتطورات القضية الفلسطينية من منظور يرتكز بالكامل على نظرة ترتبط بمصالح كل طرف وتقييمه هو لتلك المصالح ومن ثم لا تدخل المصلحة الفلسطينية في هذا الاعتبار سوى في جانبها الشكلي في معظم الاحيان على الاقل والاستثناء في هذا المجال لا يصل بالتأكيد الى عدد اصابع اليد الواحدة. وبالفعل وجدت القيادة الفلسطينية التي يمثلها ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية نفسها في مأزق حقيقي بين حسابات مصالح هذا الطرف العربي او ذاك بغض النظر عن ارتدائه لقميص القضية, وبين واقع عربي تكاد تنحصر عناصر دعمه للفلسطينيين في سيل من التصريحات والتأييد الشفوي في حين تسير الوقائع على الارض في اتجاه مغاير وذلك كله في مواجهة حصار اسرائيلي واحتلال وحشي يسعى في كل يوم الى تهويد المزيد من الاراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية وغزة. على هذه الخلفية المريرة جرى ويجري اختزال مفهوم الامن القومي العربي, الذي اصبح البعض ينظر اليه وكأنه من مخلفات الماضي, لينحصر في راية ترفع اذا كان رفعها يخدم المصالح الذاتية لهذا الطرف العربي أو ذاك, وتنكس على استحياء اذا اضطر أو اقدم على خطوة أو خطوات تسير في اتجاه معاكس لمتطلبات الأمن القومي العربي وهذه محنة قومية لم تعشها المنطقة على مدى الخمسين عاما الأخيرة ونظرة سريعة باتساع المنطقة كفيلة باثبات ذلك, والمؤكد ان هذا التطور في حاجة ماسة الى دراسات علمية موضوعية كمقدمة لتعين ملامح الطريق الى الخروج من نفقه المظلم. واذا كانت الدول العربية قد وافقت منذ عام 1974 على ان منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني, واذا كان الرئيس الفلسطيني اختير بشرعية نضاله وتأييد الشارع الفلسطيني له وهو تأييد لا يزال قائما حتى الآن وبشكل ملموس وواسع بغض النظر عن مدى قوة الصوت الذي تتمتع بها هذه الجماعة الفلسطينية المعارضة له أو تلك, فإلى أي مدى يمكن ان تسمح اية دولة عربية أو غير عربية لنفسها بالوصاية على الشعب الفلسطيني وقيادته؟ والى أي مدى يمكن السماح بحق التدخل للاطراف العربية في الشؤون الفلسطينية الداخلية؟ وهل يمكن للقيادة الفلسطينية ان تتخذ ما تراه مناسبا من وجهة نظرها لخدمة المصالح الفلسطينية وفقا لتقييمها كما تقوم بذلك هذه الدولة العربية أو تلك؟ وفي الوقت الذي تمثل فيه هذه الاسئلة وغيرها قضايا بالغة التعقيد على المستوى العربي, فإن اتفاق واي بلانتيشن أثار كل تلك التساؤلات وأكد أكثر الحاجة الى تفاؤل موضوعي لها بعيدا عن حسابات الاطراف العربية, واذا كان الرئيس الفلسطيني عرفات قد تحدث عن واجبات ومسؤوليات الشعب الفلسطيني وقيادته وهو حق من غير الممكن لأي طرف عربي أو غير عربي ان ينازعه فيه أو يصنع من نفسه وصيا عليه لاسباب عديدة, فان اتفاق واي بلانتيشن يظل من هذا المنظور مسؤولية فلسطينية بالدرجة الأولى, صحيح ان الاهتمام العربي به يظل قائما ومستمرا ومشروعا كذلك ولكن هناك فارقا كبيرا بين الاهتمام والمحاكمة, فالمحاكمة يملكها فقط الشعب حيال قيادته, ومن غير الممكن ان تملكها دول حيال قيادة شعب آخر فالقيادة الفلسطينية هي بحكم نضالها آخر ما يمكن المزايدة عليه من جانب القيادات العربية أو غير العربية الأخرى. واذا كان اتفاق واي بلانتيشن يمثل خيارا فلسطينيا تتحمل القيادة الفلسطينية مسؤوليته أمام شعبها وامام التاريخ في ظل الظروف التي أدت وقادت اليه وصاحبته كذلك, فإن الاتفاق الذي اتخذ شكلا اقرب الى برنامج العمل التفصيلي للسلطة الوطنية الفلسطينية خلال الشهور الثلاثة المقبلة حتى تنسحب اسرائيل من 13% من اراضي الضفة الغربية قد نجح في نقطتين أساسيتين, أولهما انه حمل رئيس الوزراء الاسرائيلي إلى الابقاء على اطار اتفاق اوسلو كإطار تتم في نطاقه عملية السلام على المسار الفلسطيني الاسرائيلي ومن ثم اوقف محاولة نتانياهو الاجهاز التام على اتفاق اوسلو وسواء بقيت حكومة نتانياهو أو سقطت فإن اتفاق أوسلو يظل اطار الحركة على المسار الفلسطيني الاسرائيلي بغض النظر عن قدرة كل طرف على الوصول لاهدافه في الاتفاق. اما النقطة الثانية فإنها تتمثل في انه نجح في اضافة نص خاص بالامتناع عن اعمال أحادية الجانب من الطرفين وهو ما ينبغي ان يقيد عمليات الاستيطان الاسرائيلية, كما نجح في الابقاء على القضايا الاساسية في مفاوضات الحل النهائي وهي قضايا القدس, واللاجئين, ومستقبل الاراضي الفلسطينية وغيرها وذلك بالرغم من مواقف نتانياهو المعروفة حيال مستقبل القدس المحتلة. غير ان ما يؤخذ على صيغة الاتفاق انه اغرق في تفاصيل الاجراءات التي ينبغي على سلطة الحكم الذاتي القيام بها على الصعيد الامني في مناطق الحكم الذاتي (وكان ذلك مؤشرا على الخلل في المفاوضات) وفي حين سعى نتانياهو الى ان يرسي بذلك التغيير الذي عمد الى ادخاله على مبدأ (الأرض مقابل السلام) ليكون (الأرض مقابل الأمن) وهو ما ينبغي التصدي له من جانب كل الأطراف المعنية بعملية السلام ومستقبلها, فإن استخدام تعبير (الارهاب) لوصف الاعمال المعادية لاسرائيل والعمل على تأكيد ذلك من خلال صياغة بنود الاتفاق قد جسد محنة الجانب الفلسطيني في المفاوضات. فمن خلال الاتفاق اصبح هذا التعبير شائعا وهو امر لم يحدث مصادفة ولكن باصرار اسرائيلي وامريكي على تشويه نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الاسرائيلي وانكار حقه في مقاومة الاحتلال بكل السبل المتاحة وهو حق مشروع, والاكثر من ذلك ان صيغة اتفاق واي بلانتيشن نجحت عبر ذلك فيما فشلت فيه محاولات امريكية واسرائيلية وغربية عدة على مدى السنوات الماضية لوصف اعمال مقاومة الاحتلال الاسرائيلي بالارهاب حيث كانت الدول العربية تحرص على التفريق بين الارهاب بمفهومه المعروف وبين اعمال المقاومة المسلحة لقوات الاحتلال. وإذا كان من غير الممكن تحت أي ظرف وصف اعمال المقاومة الفلسطينية لاسرائيل بأنها ارهاب, فإن صيغة اتفاق واي بلانتيشن تعكس بوضوح حجم المحنة والثمن الفادح الذي تم دفعه من جانب الفلسطينيين للابقاء على اطار اوسلو وحمل نتانياهو على القبول به اما التنفيذ العملي للاتفاق فإنه قضية أخرى.

Email