قضية عربية:الدبلوماسية العربية في عالم متغير

ت + ت - الحجم الطبيعي

الحديث عن المتغيرات المتلاحقة في العالم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا يدخل في صلب الحديث عن مدى مواكبة الدبلوماسية لتلك التغيرات . بمعنى آخر.. هل تستطيع الدبلوماسية العربية مجاراة التنوع الكيفي والكمي على الساحة الدولية الذي يطال جميع قضايا العالم المعاصر؟! لمرات قليلة تصل إلى حد الندرة يتوقف البعض ليبحث هموم الدبلوماسية العربية على الملأ أو في المنتديات المخصصة لذلك, ويمخض قدرتها على القيام بدورها المنوط بها في خضم الأحداث العالمية المتلاطمة. (اليبان) هنا تقدم عصارة تجربة الدبلوماسية المصرية في التعامل مع قضايا العالم الملحة, وإذا كانت الدبلوماسية المصرية معروفة بالعراقة في هذا المضمار فإنها تقوم عملية نقد ذاتي لاذع لنفسها وللآخرين بغية اجلاء الأمور ومن ثم معالجتها. ان الدبلوماسية العربية باتت في أمس الحاجة الآن وأكثر من أي وقت مضى للرد على التحديات التي تواجهها لمجابهة مشكلات القرن الواحد والعشرين. وهي هنا تضطلع بالدور الأكبر نظرا لانحسار الخيارات العسكرية في تسوية النزاعات وبؤر التوتر وافساح المجال للمفاوضات والمحادثات للتعامل معها. تحديات كثيرة تواجه الدبلوماسية العربية التأكيد على ضرورة تسريع ايقاع الأداء لمواكبة الحركة.. الباز : ثورة الاتصالات تلقي على الدبلوماسي واجبات متنامية لأهمية تطوير أداء الدبلوماسية العربية في ظل المتغيرات العالمية المتسارعة, نظم مركز (القرار) باشراف د. السيد عليوة رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة حلوان, وتحت رعاية د. عصمت عبدالمجيد أمين عام جامعة الدول العربية حلقة نقاشية موسعة على مدى يومين بالقاهرة 82 و29 أكتوبر حضر جلستها الافتتاحية د. أسامة الباز مستشار الرئيس للشؤون السياسية, ولفيف من الدبلوماسيين العرب, من السعودية والامارات وقطر وليبيا والسودان وسوريا. وحاضر فيها عدد من الدبلوماسيين المصريين ــ الخبراء, وأساتذة الجامعات. تابعتها (البيان) بدقة, وانتقت من بين المحاضرات ما تعلق منها بمشكلات الدبلوماسية العربية ــ الأوروبية والآسيوية والافريقية والأمريكية. في الحلقة الأولى نقرأ استعراض د. أسامة الباز لأهم المتغيرات الدولية التي تفرض تنمية للأداء الدبلوماسي العربي وتطويرا له, ورؤية السفير جمال بيومي لمشكلات الحوار العربي الأوروبي وكيفية تجاوزها. في تقديمه للجلسة الافتتاحية اختار د. أسامة الباز أن يرصد في عجالة سريعة المتغيرات العالمية, وهي كما طرحها ليست مرتبة ترتيب الأهمية وإنما ترتيب الورود على الذهن. أولا : من الظواهر أو الملامح التي يشهدها العالم المعاصر سرعة التغيير.. حيث يتم ايقاعه بشكل محموم متسارع, وهو ما يعني وجوب الاستجابة السريعة, القادرة على اللحاق به وليست متخلفة عنه. ثانيا : ان العامل الاقتصادي أصبح يمثل مكانة أهم مما كان عليها في الماضي, حيث كانت هناك عدة عوامل تحدد قوة الدول وتحدد رؤية العالم ككل, أولها العامل العسكري, الذي كان يحدد الكثير من الأمور, وهو الذي حدد تعريف (الدول العظمى) وبالذات الدول التي دخلت النادي النووي.. (الخمس الكبرى) , بعده كان يأتي الوزن السياسي للدولة صاحبة القوة العسكرية, تليه عناصر أخرى أقل أهمية.. الآن أصبح العامل الاقتصادي, في تقديري, العامل الأول في تحديد قوة الدولة على المسرح السياسي, وأعتقد اننا في المستقبل القريب, ربما بعد ربع قرن سنشهد صعود العامل القضائي إلى المرتبة الثانية في تحديد قوة الدولة, تليه العناصر الأخرى العسكرية والسياسية.. ولا ينفي ذلك أهمية هذين العاملين الأخيرين, ولا يعني أيضا استبعادهما من التقدير وإنما الأمر هو ترتيب أولوية نسبية. الاستجابة السريعة ومعنى تزايد أهمية العامل الاقتصادي هو ضرورة أن تستجيب الدبلوماسية استجابة سريعة, سواء بالبحث في كيفية إدارة العلاقة بين الدول والكتل الاقتصادية الكبرى في العالم, أو البحث في بناء الدولة لنفسها اقتصاديا في المقام الأول ــ حتى تكون قادرة على لعب دور دولي نشط, أو أن يصبح من واجبات دبلوماسية الدولة أن تبحث لمنتجاتها عن أسواق جديدة, وتعقد اتفاقيات تحمي الصناعة ــ تحديدا ــ من الاتفاقيات التي عقدت مؤخرا وأهمها اتفاقية الجات وما تلاها من أحداث بعد جولة أورجواي واقامة منظمة التجارة الدولية. ثالثا : بروز أهمية أكبر للمفاوضات عن ذي قبل, فبعد أن تزايد الاتجاه نحو تحريم اللجوء للحرب أو للعنف كوسيلة لتسوية المنازعات. وتزايد الاتجاه نحو محاولة ازالة أسباب نشوب الحرب, بحيث أصبح النزوع للحرب كوسيلة لتسوية النزاعات هو الاستثناء ومن ثم يكون الأسلوب الأول هو التسوية السلمية, التي تأتي المفاوضات في مقدمة وسائلها أو أدواتها. رابعا : ظاهرة تنامي قوة الشركات متعددة الجنسيات على الصعيد العالمي, بحيث أصبحت هذه الشركات قوة لا يمكن التغاطي عنها وهي في كثير من الأحوال تنافس ــ بل وتسابق ــ الدول, وهناك شركات متعددة الجنسيات الناتج السنوي لها أكبر من الناتج القومي لعدة دول أو مجموعة من الدول وهذه حقيقة يجب أخذها في الحسبان. خامسا : تنامي ظاهرة المنظمات الأهلية غير الحكومية, وهو يحمل بين طياته ايجابيات وسلبيات معينة, ويجب أن تأخذ الدول ذلك بعين الاعتبار, فكثير من هذه المنظمات تؤدي مهامها وتقوم بواجبات تنوء بحملها الحكومات, أو تكون المنظمات أكثر أهلية للقيام بها. ولكنها في أحيان أخرى ثغرة يتسلل منها التأثير الأجنبي على مؤسسات بالداخل تتلقى عونا وتحويلا منتظما من المؤسسات الأجنبية, ويعتمد بعضها مثل منظمات حقوق الإنسان على التمويل الخارجي, خصوصا في مجتمعات لم تعتد من مدة طويلة على تبرع الأهالي والشركات والأفراد لمنظمات من هذا القبيل. وكانت فقط المنظمات الدينية التي تنشر الوعي الديني أو تبني المساجد هي التي تتلقى التبرع وتمارس نشاطات مختلفة, اليوم تعددت أوجه النشاط الذي تضطلع به المنظمات الأهلية, من ثم يتعين على الحكومات ــ والجانب الدبلوماسي فيها ــ أن تهتم بالمنظمات الأهلية وكيفية عملها, وكيفية التعامل معها. سادسا : اننا الآن في عصر الثورة المعلوماتية, حيث أصبح ضروريا على من يعمل في الرسالة الدبلوماسية ــ ولا أقول المهنة الدبلوماسية ــ أن يأخذ الثورة المعلوماتية بعين الاعتبار, فهناك حاجة مستمرة لتغطية حجم وتوعية أو مستوى المعلومات المتاحة للدبلوماسيين سواء عن بلادهم أو الخارج.. هذه القدرة لا تتأتى عبر قراءة الصحف والكتب, كما كان يحدث في السابق, وإنما تحتاج المسألة للتعامل مع الوسائل التكنولوجية المتقدمة وأهمها تسجيل المعلومات بانتظام على الكمبيوتر والحصول على المعلومات من شبكات أخرى غير الوطنية, بحيث يعلم الدبلوماسي ما يكفي من المعلومات عن بلده وقومه وأمته وأن يعرف أيضا المعلومات الصحيحة ــ قدر الامكان ــ عن القوى الأخرى سواء كانت معادية أو محايدة أو في حالة خصومة, ولا يكتفي بالمعلومات عن الدول وإنما أيضا عن القضايا السياسية.. والمشكلة هنا لن تكون قلة المعلومات المتوافرة, كما كان في الماضي. وإنما كثرة المعلومات المتوفرة والتحدي هو القدرة على تمييز الغث والسمين فيها, الصحيح والخطأ. التضليل المقصود وتذكر د. أسامة الباز ــ أيام تلمذته ــ عندما كانت أمريكا تحرص على نشر أكبر حشد من المعلومات حتى عن الأسلحة الجديدة المتطورة التي تنتجها واستعداداتها العسكرية تفصيليا في الصحف الأمريكية, وكان يتصور مع زملائه وقتها أن هذا يمثل ثغرة في وزارة الدفاع الأمريكية, بينما كان جانب كبير من المعلومات المنشورة خاطئا, بحيث لا يستطيع الخصم أن يميز ويدقق ويصفي المعلومات لكي يصل إلى نتيجة سليمة, والقصد كان بلبلة تفكير الخصم وهي عملية تمويه ضخمة, تشبه إلى حد ما عملية التمويه التي قامت بها كل من مصر وسوريا في حرب اكتوبر ,1973 من خلال بث معلومات كثيرة مضللة للعدو.. ثم انتقل د. أسامة الباز إلى تحد آخر أمام الدبلوماسية العربية حاليا وهو ثورة الاتصالات والتي أصبحت تضع على كاهل الدبلوماسي واجبات متنامية, لانها تتيح له أن يطرح وجهات نظره, وأحيانا تقيد قدرته على تقديم وجهة نظره حسب القوى الضاغطة في مجتمع معين. ووسائل الاتصال نفسها تصبح أحيانا صانعة للخبر وليس فقط معلقة عليه أو ناقدة, محللة له.. وهذه مسألة لم تأت من فراغ أو فجأة, فقد ألف كاتب أمريكي في الستينات كتابا عنوانه (The Medium is the message) (الوسيلة هي الرسالة) وليس المضمون أو المحتوى المنقول.. فهي تصل إلى عقول الناس وتسيطر عليهم, بصرف النظر عن المضمون. وفي ختام مقدمته للجلسة الأولى نبه د. أسامة الباز إلى انه لا يجوز افتراض ثبات ميزان القوى على الصعيد الدولي, بحيث يقال مثلا ان الولايات المتحدة الأمريكية هي القطب الأوحد وهذا خطأ كبير, لأن موازين القوى تتغير بسرعة كبيرة, بنفس تغير الايقاع التي يسيطر على مجالات أخرى, و(لن أكون مندهشا ــ والكلام على لسان د. أسامة الباز ــ إذا تغيرت موازين القوى في القريب العاجل, بحيث تصبح الولايات المتحدة ومعها كندا والمكسيك إحدى القوى الدولية, قد تكون أهمها, ولكنها ليست القوة الوحيدة, سيكون الاتحاد الأوروبي قوة منافسة ومعارضة ومناوئة في بعض الأحيان, وربما استطاع أن يتجاوزها خلال نصف قرن, تأتي بعد ذلك الصين, والتي يمكن أن تكون في القن الثاني والعشرين القوة الدولية الأكبر والأهم, ليس فقط من واقع السكان, ولكن من واقع الثراء الحضاري والثقافي الكبيرين, والقدرة على التأثير في مجتمعات عديدة.. فنحن نعرف ان الصينيين موجودون في كل مكان, ففي كل دول جنوب شرق آسيا هناك جاليات صينية نشطة, تسيطر على كثير من مقاليد الأمور, وفي بعض البلاد الجالية الصينية أقلية ولكنها تتحكم في إدارة السياسة الاقتصادية لتلك الدول.. ولا يمكن أيضا اغفال قوة اليابان ودول النمور الآسيوية, التي ستشكل قوة أكبر في المستقبل, بصرف النظر عن كبوة الفترة الأخيرة, عندما عجز اقتصادها عن مواجهة الأزمة الاقتصادية, في ظل عدم احكام الرقابة على البنوك, والجهاز المصرفي, والتزايد المحموم في الاستثمار بالمجالات العقارية, على حساب المجالات الأخرى, والانكماش الناجم عن المضاربة في السوق العقارية, وتأثير الاستثمارات والشركات القائمة بها وكذلك البنوك المانحة للقروض إليها. عامل السرعة أما السفير جمال بيومي فتعرض للمتغيرات الدولية أيضا في بداية محاضرته عن مشكلات الدبلوماسية العربية الأوروبية, ولاحظ ان الدبلوماسية العربية قلما تأخذ (عامل السرعة) في الاعتبار, وضرب مثالا بالدخول في (مناطق التجارة الحرة) العربية ــ الأوروبية أو حتى العربية ــ العربية.. عادة ما نطالب بفترة انتقالية أطول.. وهذا معناه اننا نود أن ندخل الامتحان متأخرا!! ومعنى أن يكون الهدف النهائي المنطقة التجارية العربية البادئة في 1998 هو عام 2007 نوع من الهزل الذي ينبغي ألا نتبناه كعرب.. بينما نحن نمتلك اقتصاديات متقاربة للغاية ثم نضع فترة انتقالية مبالغ في طولها لاحداث التقارب بين جيبوتي والصومال وموريتانيا!!.. ولننظر مثلا لصناعة السفن التي استغرقت عقود عديدة من الزمن حتى تصل لبناء سفن تحمل 40 ألف طن. أما المسافة التالية لبناء ناقلة تحمل مليون طن فلم تزد على عقدين فقط, والطائرة التي تحمل 100 راكب استغرق التوصل إليها مسافة زمنية أطول من طائرة الألف راكب.. أي ان تسارع التقدم والانجازات عنصر ينبغي وضعه في الاعتبار وبقوة لدى الدبلوماسي والمفاوض العربي. وفي رصده للعامل الاقتصادي كمتغير عال رصد د. جمال بيومي ثلاثة تطورات حدثت في العقد الأخير أولها انهيار النظام الشيوعي, بغض النظر عن انه كان جيدا في الكتب, سيئا عند التطبيق, مما أثر على العرب في الشق السياسي بسبب أحادية القوة في العالم, وغياب امكانية دعم قوة التحرر والقضية العربية بشكل أساسي, وفي الشق الاقتصادي أصبح المعسكر الشرقي نفسه الذي يدعم برامج التنمية ويقدم إليها تمويلا بحاجة إلى المساعدة الاقتصادية ــ جذب التمويل ــ أي منافس لنا في جذب الاستثمارات والمعونات من أوروبا الغربية.. والتي تتجاذبها حاليا سياستان (التوجه نحو الشرق) وقد بدأتها ألمانيا منذ عقود, وسياسية التعاون مع دول جنوب البحر المتوسط, والدول العربية المحيطة. التطور الثاني ان المفاوضات الاقتصادية في العالم انتهت إلى حسم قضية (الحمائية) أم (حرية التجارة) لصالح الثانية, وتجلى ذلك في مفاوضات جولة أورجواي وأصبح هناك منظمة للتجارة العالمية, ولم يعد التفاوض على التجارة فقط, بل شمل الملكية الفكرية والمنسوجات والزراعة, وسوف يتكلمون في المستقبل على ما يسمى بـ (الاغراق الاجتماعي) وهو أحد الوسائل الحمائية, بمعنى محاسبة الدول رخيصة العمالة إذا بالغت في عنصر رخص العمالة, حتى يزول جزء من قدرتنا التنافسية, وستظل (الجات) تدير الاقتصاد العالمي على مستويات كثيرة. والتطور الثالث هو انه رغم اتجاه العالم إلى العولمة والكوكبة هناك اتجاه نحو الاقليمية, والعالم به اليوم 24 تجمعا اقليميا اقتصاديا, أشير إلى ثلاثة منها, الاتحاد الأوروبي وعاصمته بروكسل, والنافتا في 1993 ما بين أمريكا وكندا والمكسيك وهو أكبر تجمع اقتصادي في العالم, رغم انه من ثلاث دول فقط من حيث حجم التجارة وعدد السكان. ثم تجمع الآسيان حول طوكيو, وأي قرار اقتصادي مؤثر في عالمنا اليوم لابد أن يمر بإحدى العواصم الثلاثة طوكيو وبروكسيل وواشنطن, أو الثلاثة معا, وليس من المصادفة ان هذه التجمعات تنشق فيما بينها دون أن يدري الفرد العادي, في مجموعة الدول الصناعية السبع, أو في مجموعة التعاون الاقتصادي والتنمية, ويمكننا أن نسمي مجموعة الدول الصناعية السبع مجلس إدارة العالم, وليس لهم أمانة عامة أو تنظيم مؤسس, وإنما تتولى دولة سكرتارية المنظمة, وتتبادل الدول عليها, كندا وأمريكا واليابان وفرنسا وألمانيا وايطاليا وانجلترا ويحضر الاتحاد الروسي كمراقب ويمثله يلتسين لكي يقبل بالتنازلات المطلوبة منه في حلف شمال الأطلسي. القارب والمجداف والدفة ومن الملاحظ أيضا ان دور الدولة يتغير, من دور المنتج إلى دور صانع السياسة وواضع القرارات أو المحكم, ولا يعني ذلك نقل احتكار الدولة إلى احتكار الأفراد, وإنما دور المحكم في المنافسة.. وأفضل التعبيرات المناسبة لهذا الدور هو تعبير في كتاب (تحدي الخصخصة) الصادر عن صندوق النقد الدولي مفاده: (إذا كانت الدولة تركب قارب التقدم الاقتصادي فإن القطاع الخاص سيقوم بالتجديف, بينما تمسك الدولة بالدفة) أي تقوم بدور المحكم والموجه والمدافع والمخفر. وعن صلات الدبلوماسية العربية ــ الأوروبية ــ ومشاكلها رصد نشأة المؤسسة العربية والأوروبية (جامعة الدول العربية) و(الاتحاد الأوروبي) وأسبقيته الأولى تاريخيا, وتزامن معاهدة روما 57 مع ثورة القومية العربية ومشاعرها الجياشة وقبلها العدوان الثلاثي 1956 وما فجره من مشاعر مضادة في العالم العربي تجاه دولتين في أوروبا هما انجلترا وفرنسا المشاركتين في العدوان. أي ان التنظيمين قاما في مناخ عداوة, لوكنا ننظر وقتها للسوق الأوروبية المشتركة باعتبارها تنظيما استعماريا, يستهدف السيطرة على وسائل الانتاج أو الأسواق العربية وجاءت حرب 1967 لتزيد من اشتعال المشاعر لاحساسنا ان الغرب له يد في دعم قدرات اسرائيل العسكرية.. ولم يحدث تقدم في علاقات الطرفين من حيث التوجه.. الا بعد حرب أكتوبر 1973 عندما استطاع العالم العربي ـ ولأول مرة ــ أن يؤثر في المصالح الاقتصادية لغرب أوروبا.. فبدأت العلاقات تأخذ شكلا براجماتيا وعقلانيا. وراحت دولة مثل هولندا, كانت تتبنى بلا أي تردد الموقف الاسرائيلي, تفكر مرة أخرى لما هو في صالح القضية العربية, بعد أن عادت الامدادات في الانتظام, فصدر عن القمة العربية في الجزائر 1974 نداء يدعو للحوار بين العرب وأوروبا ولقي استجابة من القمة الأوروبية, وبدأ ما يسمى الحوار العربي الأوروبي, الذي وفر مناخا جيدا لبدء علاقات مبنية على أسس من المصالح المشتركة العربية والأوروبية حيث كانت أوروبا تظهر أسبابا لهذا التقارب والعرب لهم أسبابهم أيضا, والعرب يهدفون إلى احداث تغيير في الموقف الأوروبي تجاه القضية الفلسطينية, وأوروبا كانت تدرك انها ما لم تغير موقفها في اتجاه أكثر عقلانية, فإن مصالحها في شكل الامدادات والطاقة وربما المواصلات. ستضار كثيرا. سبع لجان وبدأ الحوار الأوروبي بدون لجنة سياسية, بل سبعة لجان منها لجنة للبنية الأساسية, ولجنة للتجارة والتعاون المالي ولجنة النقل التكنولوجي, ولكن الجانب العربي كان دائما تواقا لابراز المشكلة السياسية حتى في لجنة البنية الأساسية أو لجنة نقل التكنولوجيا, بينما كان المجال للنقاش في المسائل السياسية هو اللجنة العامة بحضور أعضاء اللجان الفنية الأخرى.. يذكر هنا ان الجانب العربي في بياناته أمام اللجنة العامة يطرح ما يمثل القاسم المشترك الأعلى للمواقف العربية, بينما كان البيان الأوروبي يطرح القاسم المشترك الأدنى للمواقف الأوروبية, وهذه المعادلة غير المتوازنة في رأي د. جمال بيومي ــ إلى جانب أسباب أخرى ــ هي التي أدت لانهيار الحوار العربي ــ الأوروبي, وبعد ذلك واثر مبادرة السلام وخروج مصر من الجامعة العربية وعزلها عن الصف العربي, دفعت الدول العربية ثمن خروج مصر من الحوار العربي ــ الأوروبي, وانهيار الحوار وتجميده بالكامل, وحدثت محاولات استعادته في أواخر السبعينات, وهو اليوم (في غرفة الانعاش) فلا يوجد حوار عربي ــ أوروبي على المستوى المؤسسي الشامل.. لكن أوروبا لها مصالح وتريد الحوار.. وأصبحنا حاليا في وضع مختلف بدلا من التفاوض كـ21 دولة عربية في مواجهة 12 دولة أوروبية في ذلك الوقت أو 15 مؤخرا, أصبحنا مقسمين سياسيا ودبلوماسيا إلى خمس أو ست فئات, هناك حوار عربي ــ خليجي أوروبي, وهو أول حوار اقترحته أوروبا ويوضح لب المصلحة الأوروبية (المواصلات والامدادات بالطاقة), ثم حوار أوروبي ــ مغاربي, وحوار أوروبي مع الدول العربية في شرق المتوسط, وبدأت اتفاقات في 76 و77 مع سوريا ولبنان والأردن ثم مصر, وتلاها اتفاقات مع تونس والمغرب, لكن الغرض كان احتواء عرب شرق البحر المتوسط ومنذ 1994 ــ1995 بدأ مسار آخر في اطار السياسة الأوروبية المتوسطية, ويدور الحوار خلاله بين 15 دولة أوروبية و12 دولة عربية في شرق المتوسط وجنوبه. بينهم ثماني دول عربية, مستبعدين ليبيا بسبب الخلاف على قضية لوكيربي.. مسار آخر هو اتفاقية (لومي) مع الدول الأكثر فقرا والأقل تقدما وهي السودان والصومال وجزر القمر وجيبوتي وموريتانيا, والأخيرة تريد الانسلاخ من اتفاقية (لومي) لتكون ضمن الحوار الأوروبي المتوسطي... ولا توجد رابطة مؤسسة للحوار مع كل من العراق وليبيا, وتنفرد اليمن وحدها بعلاقة مع أوروبا من خلال اتفاق اقتصادي مباشر. وهذا يجعلنا نتساءل (أين قوة المساومة الجماعية العربية في هذا الشكل من العلاقات العربية الأوروبية؟) ومن المفهوم بالطبع ان القدرة على المساومة أضعف.. ويتساءل كثيرون لماذا تذهبون فرادى.. مصر أو سوريا أو المغرب؟ وهو سؤال شرعي ووارد ومهم.. ولكن كيف لنا أن نتفاوض كعرب جنوب المتوسط وشرقه جماعة وليس لنا مؤسسة تجمعنا!! اليوم وقعت الأردن والمغرب وتونس والسلطة الفلسطينية, وهناك دولتان على وشك التوقيع هما مصر ولبنان, وتبقى الجزائر وسوريا. والواقع اننا كمفاوضين وجدنا من واجبنا أن نجتمع بشكل شبه رسمي للتنسيق في موضوعات مثل قواعد المنشأ وبرامج تحديث الصناعة, نتبادل الخبرات, ما دامت دولنا لم تقم مؤسسة تجمع الخيط ما بين دمشق والرباط, وقد اجتمعنا في يوليو الماضي ودعونا الجامعة العربية وليبيا للمشاركة في التنسيق.. وقد وجدنا ــ على سبيل المثال ــ ان ما انتهت منه مصر من مسائل يطالب بها الاتحاد الأوروبي, ولم نجد فيها وجاهة ورفضناها تعرض مرة أخرى على سوريا لكي ينهك المفاوض السوري ويبدأ من نقطة الصفر.. وهي مسألة تثير اندهاشنا!! وليس سرا القول بأن دولا عربية قبلت بشروط متدنية ترفضها أطراف عربية أخرى, تحت ضغوط سياسية, تحت احتياج للتوقيع على قروض أو مساعدات.. وهناك بنود مضحكة في بعض الاتفاقيات.. دولة عربية غير شاطئية وقعت على اتفاقية تعطي حقوق الانشاء في النقل البحري للاتحاد الأوروبي؟! ماذا سيستفيد الاتحاد الأوروبي من ذلك! فقط استعمال هذا الاتفاق للضغط على أطراف عربية أخرى. فجوة التوجهات والتطبيق من هنا يتضح ــ كما يقول د. جمال بيومي ــ ان هناك فجوة بين التوجهات والاستراتيجيات الأوروبية المعلنة, وبين التطبيق اليومي والمؤسسي الذي تمارسه أوروبا تجاه الدول العربية.. ليس في شكل دول, وإنما في شكل مؤسسات ومصالح اقتصادية. ويشير بيومي إلى ان السياسة الزراعية الأوروبية المشتركة سياسة حمائية شديدة الحمائية مثلا تصل إلى فرض جمارك 300% على الأرز المصري وهي ضريبة مانعة وليست جبائية, وتنفق أوروبا نحو 60 مليار دولار سنويا لدعم المنتج الزراعي, ولسوء الحظ دخلت هذه السياسة الزراعية اتفاقية الجات وتستطيع أوروبا ممارستها, وهي لا تعد بانهائها وإنما اعادة النظر فيها سنة ,2004 وغير واضح في أي اتجاه ستكون اعادة النظر.. وعلى الجانب الآخر ــ العربي ــ تحرير الصناعة التزام عالمي وكلنا سنحرر وارداتنا الصناعية, بتخفيض الجمارك, وإذا كنا داخلين على منطقة تجارة حرة مع أوروبا سنصل بالجمارك على الواردات الصناعية إلى الصفر.. وكذلك استخدام الحجر الزراعي كوسيلة حمائية, ومن الممكن الادعاء بأن المنتج الذي نصدره إلى أوروبا به (آفة غير معروفة) , وحتى يتم كشفها يفسد المنتج على أرصفة الموانئ. ومن المهم أيضا تنبيه المفاوض العربي إلى انتهاء زمن التفاوض على (عناوين الكتب) . ان العناوين العريضة, مثل التفاوض حول (منطقة تجارة حرة) , يبنغي له فتح 14 ملفا من الملكية الفكرية حتى شهادات المنشأ وقواعدها, وكل التعقيدات الفنية الخاصة بها.. وإذا لم نفعل ذلك فإننا ننشئ (منطقة تجارة حرة) عربية ــ عربية أو عربية ــ أوروبية وليس فيها تجارة.. وهنا رفض د. جمال بيومي الافصاح عمن يقصد لأن الصحفيين يسجلون وينشرون مما قد يسبب احراجا واكتفى بذكر اسم مصر.. في اتفاق لمنطقة تجارة حرة عربية ــ عربية, بمعنى الغاء الجمارك على صادرات البلدين, ثم تم استشارة المسؤولين عن الصناعات: من يريد تحرير منتجه ومن يريد مظلة حمائية؟ فطلبت 90 صناعة مصرية الحماية, أي لا تسمح للمنافس من الدولة العربية الشقيقة بالدخول, و105 صناعة لدى الطرف العربي الآخر طلبت الحماية, فصار اتفاق تجارة حرة دون تجارة, أي انه رواج كتب على ورقة طلاق.. تجارة حرة مع ايقاف التنفيذ. وفي ختام عرضه تساءل جمال بيومي هل الصورة قاتمة؟ هل نحن متخلفون وهم متقدمون؟ وأجاب: ادعي بعد ثلاث سنوات من العمل في ملف التفاوض مع أوروبا ان قدرتنا على تغطية الاستفادة, ومذاكرة الملف وضمان الصالح العربي قدرة بلا حدود, ان المطلوب تنسيق عربي, وموقف عربي جاد ونقل الخبرات.. والبدائل المطروحة ثلاثة: أولا: اصلاح الوضع القائم.. فلدينا منطقة تجارة حرة عربية شاملة, ولكنها ستكون محاطة بقوائم سلبية من سلع لا تحرر, ويجب التعامل مع هذا العيب بجدية, فليس من المعقول أن تكون الفترة الانتقالية عشر سنوات.. فبعد سنة سنكون وقعنا جميعا مع الاتحاد الأوروبي.. فهل لا نخشى من دخول المنتج الألماني ونخشى المنتج اللبناني والأردني!! ينبغي إذن أن نقلل الفترة الانتقالية.. والعالم العربي اليوم يقيم أسواق ومناطق تجارة حرة دون أن توجد قاعدة منشأ عربية موحدة, وهي جنسية المنتج, أو نسبة مكون محلي في السلعة.. وللأسف وقعت بعض الدول العربية في تونس 1982 ــ في غيبة مصر ــ اتفاقية تشترط فقط نسبة 30% كمكون محلي لاكتساب المنشأ.. وكأننا لا نريد منطقة تجارة حرة, بل منطقة تهريب!! لانني أستطيع تجميع أجزاء من آلة وادعي ان العمالة مكون محلي قدره 30% بالتالي لن تنشأ صناعة في العالم العربي.. فحتى الـ40% لا تكفي.. ويجب إذن تفصيل قاعدة المنشأ على الجسد الصناعي العربي, بما يحفظ مصالح الجميع.. وهنا أرفع قبعة ــ الرجل الرسمي ــ وأتحدث كمواطن وخبير ــ على حد كلمات د. جمال بيومي, وأتحدث بصراحة.. لماذا تقيم دولة عالية الجمارك مثل مصر وسوريا منطقة تجارة حرة مع دولة عربية أخرى ليس بها جمارك!! الا إذا كان المطلوب التبرع بالجمارك المصرية أو السورية لشعب تلك الدولة.. وماذا تستفيد مصر وسوريا في تلك الحالة؟.. الكلام إذن عن منطقة تجارة حرة دون الخوض في التفاصيل والمصالح المشتركة ليس إلا نكتة!.. معوقات إدارية وعلى سبيل المثال الحوار الأوروبي الخليجي يقف عند هذه النقطة وأوروبا ترفض الدخول في منطقة تجارة حرة مع دول الخليج, ما لم يكن بينها اتحاد جمركي يحمي الذي يدخل.. ومثال آخر منطقة تجارة حرة بين مصر ودولة عربية أخرى, تدخل منتجاتها مصر دون جمارك, أما المنتج المصري فيدخل إذا أعطي إذن استيراد.. إذن المعوق غير جمركي, بل إداري.. ويجب أن نكون صرحاء ونزيل الحساسيات. ثانيا : هناك (بيوت) قائمة في حاجة إلى ترميمات, توجد سوق عربية مشتركة, تضم سبعة أو ثمانية دول, فيما يسمى مجلس الوحدة الاقتصادية الذي يضم 11 دولة عربية.. وهناك تنازع اختصاصات وتنافس غير مفهوم, بين الأدوات الاقتصادية للجامعة العربية ومجلس الوحدة الاقتصادية.. ومطلوب أن نفهم الطرفين ان الجامعة العربية هي الأم الأشمل, ومجلس الوحدة أكثر تخصصا.. ماذا يمنع أن يكون لدينا مجموعة من الدول العربية لا تقدر الا على المستوى الأدنى للتعاون وهو منطقة التجارة الحرة. والبديل الثالث: هو منطقة تجارة حرة عربية متوسطية, من دمشق إلى الرباط.. أما البديل الرابع فلا أود طرحه, فقد سبق وأن قلته على (محمل الهزل) فاستقبله البعض على محمل الجد, وهو إن لم نستطع اقامة منطقة تجارة حرة حقيقية, وان لم نفلح في الوصول إلى سوق عربية مشتركة, وان لم نستطع اقامة منطقة تجارة حرة عربية ــ متوسطية, فلنقم إذن (اتحاد مستهلكين) فالعالم العربي مستورد صافي للغذاء, يستورد بما يساوي 20 إلى 30 مليار دولار واردات غذائية من الدول الأوروبية التي (تميز) ضدنا ونحن نصدر لها (شوية برتقال) .. نقيم اتحاد مستهلكين.. وقد طرح هذا الاقتراح د. إسماعيل صبري عبدالله سنة ,1975 لكي يكون لدينا قوة مساومة كمستهلكين, ما لم نستطع تشكيل قوة مساومة كمصدرين.. واعتمادنا على الله ألا يحدث ذلك! القاهرة ــ أيمن شرف

Email