الأزمة الروسية بين الإرث والفشل في التغيير: يلتسين يتحدى الضغوط ويراهن على قدرته لإنقاذ البلاد

ت + ت - الحجم الطبيعي

واجه بوريس يلتسين ضغوطا داخلية شعبية وسياسية, اضافة لضغوط مرضية بسبب صحته كانت كلها كفيلة بإجباره على الاستقالة والتخلى عن السلطة, لكنه يريد حتى اللحظة الأخيرة ان يثبت لنفسه وللعالم انه اول من قاد روسيا بعد تخلصها من الشيوعية, هو قادر على تخليصها من الازمة الحالية, فلم يتنازل يلتسين عن حكم روسيا ويقدم استقالته , لكنه تنازل فقط عن بعض من سلطاته, وبإقالة يلتسين لرئيس وزرائه (كرينكا) انتهى لديه الاعتقاد الذي لازمه لسنوات طويلة بأنه رجل التحدي العنيد الذي يستطيع القضاء على الشيوعية تماما, كما انه تأكد بأن نهايته من على المسرح السياسي قريبة لا محالة, والمسألة بالنسبة له هي فقط رغبته في ترك الحكم دون اراقة ماء وجهه, وبالرغم انه استطاع السيطرة الكاملة على الكرملين, ويلازمه ظلال ماضيه بأنه ترعرع في ظل النظام الشيوعي القديم, الا ان كل ذلك لم يمنحه صك الاستمرار في سياسته العنيدة خاصة وان بطون الشعب الجائعة لم تعد قادرة على الصبر, وان عمال المناجم الذين صبروا شهورا طويلة دون حصولهم على مرتبات فاض صبرهم, واضراب عمال السكك الحديدية كلف الميزانية الهالكة للبلاد اموالا زادت عن ديون روسيا, كما ان اعضاء الدوما البرلمان الروسي تأكد لهم بان (كرينكا) رئيس الوزراء الذي تم اقالته لم يكن الا لعبة في حلبة صراع يلتسين, ومراهنته الفاشلة على حل أزمة البلاد, كما أن يلتسين لم يقدم اسبابا وجيهة عند تعيينه له منذ خمسة أشهر, خلفا لــ (تشيرنوميردين) رئيس الوزراء, ذلك الرجل الذي اتى به يلتسين من جديد ليمارس مهام منصبه السابق مرة اخرى, وهو المنصب الذي تركه ايضا برغبة يلتسين دون تقديم اسباب لاقالته, اضافة الى انه لم يقدم ايضا اسبابا مقنعة لاعادته, كل ذلك ادى لتشويه صورته وضعف مركزه السياسي, ولقد حاول زعيم الشيوعية (زوجانا) خلال الايام القليلة الماضية الضغط على رئيس الجمهورية (بوريس يلتسين) من اجل منح (تشيرنوميردين) رئيس الوزراء الجديد صلاحيات اكثر وبالفعل نجح في بعضها, على اساس اتفاق سياسي في هذه المرحلة, وليس على اجراء تعديلات دستورية كما كان يطمح انصار الاصلاح, خاصة من الحزب الشيوعي, لكن النجاح الاكبر الذي تحقق, هو ان الاتفاق السياسي الذي تضمن نصوص واضحة, على اجراء تعديلات دستورية تعطى صلاحيات اكثر لرئيس الوزراء في المستقبل القريب, وبالاحرى بعد خروج روسيا من ازمتها الحالية, وبالرغم ان (تشيرنوميردن) رئيس الوزراء رحب بالصلاحيات التي حصل علىها بموجب الاتفاق السياسي, الا انه يواجه امتحانا صعبا, فيما يختص بتحقيق المعادلة الصعبة وهي التوفيق بين الرأسماليين اصحاب المصالح وبين من لهم الحنين للعودة لنظام العهد السوفييتي الماضي, ونجاحه في هذا الاختبار يتوقف على برنامجه الحكومي الجديد, ومن ناحية اخرى مدى موافقة كل الأطراف عليه, كما أن نجاحه سيدعم مركزه السياسي خاصة قبل انتخابات الرئاسة القادمة, لكن (تشيرنوميردين) رئيس الوزراء الجديد رجلا يحظى بتأييد كبار اصحاب الشركات الصناعية ورجالات المال, ومن ناحية أخرى فهو يتمتع ايضا بتأييد الولايات المتحدة الأمريكية, التي ترى فيه ضمانات لوقف الزحف الشيوعي من جديد. جذور الأزمة الروسية حاولت روسيا الوريث الشرعي للإتحاد السوفييتي المنهار منذ البداية الإحتفاظ بمكانة ما بين الدول الكبرى, خاصة بعد أن فقدت الأمل في مشروعات شراكة غربية سواء أمريكية او اوروبية, وتأكد لديها أن الدول الكبرى تهدف الى بقائها كدولة مورد للخامات التي تطلبها هذه الدول وايضا للمنتجات الرخيصة, ولقد حصلت معظم الدول الشيوعية السابقة على بعض المساعدات والمعونات من أمريكا واوروبا, واستثني من هذه المساعدات روسيا, التي قدمت لها دائما الدول الغربية مساعدات مشروطة, على شكل قروض تزداد فوائدها بمرور الوقت على السداد, حتى عندما اعلنت امريكا مؤخرا ان حجم مساعداتها لدول شرق ووسط اوروبا قد بلغت حتى الآن 88 مليار دولار, وقدم البنك الاوروبي 250 مليار دولار كإستثمارات, فقد ثبت ان النسبة العظمى من هذه المساعدات وجهتها امريكا واوروبا في مشاريع استثمارية تخدم مصالحها واقتصادها, وتعود فائدتها بالدرجة الاولى عليها وليس على الدول الشيوعية السابقة او على شعوبها ومن بينها روسيا, كما ان التخبط في السياسة الروسية وتضارب قرارات رئيسها بوريس يلتسين, قد عجل بتدهور الأحوال الاقتصادية, وكانت الأحداث الأخيرة التي مرت بها روسيا أكبر شاهد على ما تعانيه, تلك الأحداث التي تمثلت تارة في خروج المواطنين في مظاهرات رافعين الرايات الحمراء ومطالبين بعودة الاتحاد السوفييتي القديم, ومرورا بتزايد حالات الانتحار بين صفوف الجيش والقوات العسكرية, لعدم تقاضيهم رواتبهم واجورهم, انتهاء بمطالبة الشعب والمعارضة الآن بتقديم يلتسين لاستقالته بعد ان ثبت فشله الذريع في انقاذ البلاد, بل وساهم بسوء قراراته في إغراق روسيا في الديون والشروط الدولية. وحتى نكون منصفين ولا نلقي بكل الاعباء على الرئيس (يلتسين) ونحمله كل الأخطاء المتراكمة من إرث الماضي ومتغيرات الحاضر, يجب الاعتراف بان الراديكالية الرأسمالية التي جرت في دول الاتحاد السوفييتي المنحل, وتحولها المفاجئ من شيوعية بحتة الى رأسمالية دون اعداد للهياكل والكوادر, او تمهيد في البنية الاساسية لنظام المجتمع لاستقبال واستيعاب النظام السياسي والاقتصادي الجديد, قد ساهم ايضا بصورة كبيرة في وصول روسيا الى ما هي عليه الآن من ازمة, فمرحلة التحول من الشيوعية المطلقة الى الرأسمالية الخالصة لم تمر بمرحلة ولادة طبيعية او نمو, بل وجدت قسرا نتيجة ليأس هذه الشعوب من النظام الشيوعي, واعتقادهم ان اوروبا الغربية هي الحديقة الخلفية لهم حال هروبهم من أسوار الشيوعية, وعندما انهار السور الحديدي للاتحاد السوفييتي السابق, وتهدمت الشيوعية خرج الشعب من سجن الشيوعية لسجن اخر جديد, فقط تختلف طريقة تنفيذه لاسلوب العمل, لكن النهاية واحدة وهي الجوع والفقر والمرض, ورغم النجاح الساحق للرأسمالية في الدول التي تطبقها تطبيقا صحيحا, الا ان هذه الرأسمالية ذاتها قد أثرت بشكل سلبي اكثر من الشيوعية في الدول الشيوعية السابقة, نظرا لعدم اعتياد هذه الشعوب على النظام الجديد, ورفض معظمهم حتى الان التأقلم معه, كنوع من عدم التصديق, او الرفض, او الخوف من احراق الجلد القديم الذي حماهم سنوات واستبداله بجديد ثبت لهم حتى الآن فشله. تطويق اوروبي واذا كان الارث الشيوعي الثقيل الذي حملته روسيا على اكتافها, وفشل الشعب في اللحاق بالمتغيرات الجديدة او الايمان بها, قد لعبا دورا كبيرا في وضع مقدمات الازمة التي بلغتها روسيا الآن, فان عنصر التطويق الخارجي من قبل امريكا ودول الغرب الاوروبي من ناحية اخرى, قد لعب دورا كبيرا مؤثرا وبصورة تبدو مباشرة في صنع اسباب الازمة, فقد بذلت امريكا من خلال حلف شمال الاطلسي جهودا كبيرة لتطويق روسيا من خلال التوسع في الحلف شرقا, لتزرع اسلحتها قرب الحدود الروسية وفي مواجهة مباشرة مع روسيا, وذلك لتمنع سقوط دول اوروبا الشرقية في احضان روسيا من جديد, وتقطع عليها طريق الحنين للشيوعية القديمة, ودول الاتحاد الاوروبي لم تبعد كثيرا عن هذا النهج, فقد اولى الاتحاد اهتماما خاصا بقرارات ضم دول اوروبا الشرقية للاتحاد بل وكذلك روسيا, رغبة منه في تطويق دول الكتلة الشرقية, اسوة باستراتيجية حلف الناتو, لضمان عدم عودتها لتكتل شرقي جديد, او وقوعها تحت سيطرة روسيا, وقد اعاد الاتحاد الاوروبي وبصورة متأنية قراءة ملف الكتلة الشرقية, الذي يضم تقاريرا عن الاتحاد السوفييتي السابق وحلف وارسو المنحل, حيث نبه مؤخرا رئيس لجنة الشؤون الدولية في حلف الناتو اوروبا, الى ضرورة اتباع سياسة الحذر من يقظة الشيوعية, وان عودتها في رداء جديد قد يطيح بكل جهود اوروبا الغربية وما انفقته من اموال للقضاء على شبح الشيوعية القديم, وجرت على التوازى في بروكسل المباحثات داخل حلف شمال الاطلسي بين وزراء الخارجية والدفاع حول الامن الاستراتيجي لروسيا, والاعلان عن انشاء منتدى للحوار المنتظم حول السياسة الامنية المشتركة لاوروبا, والتقريب بين دول الشرق الاوروبي والناتو, وقد دفعت التصرفات الامريكية والاوروبية (بوريس يلتسين) الى انتهاج سياسة متخبطة, كلفت موازنة الدولة ملايين الدولارات, بهدف السعى لتأمين روسيا, وعمل تكتلات واتفاقات وحدة وصداقة وتعاون مع كل من بيلاروسيا, واوكرانيا, وهي احدى الدول التي اعلنت رغبتها في الانضمام لحلف الناتو, وكان (يلتسين) يهدف لخلق استراتيجية ردع مضاد للتطويق القادم من اوروبا وامريكا, ولتحريك مخاوفهما القديمة من فرض النفوذ الروسي واستعادة قوتها العريضة, فقد بدا (يلتسين) وكأنه يسعى لتكوين تكتل جديد لمجابهة اوروبا الغربية, ورغم ان الخلاف بين روسيا واوكرانيا قد استمر منذ انهيار الاتحاد السوفييتي, وفشلت كل المحاولات السابقة في تقريب وجهات النظر, الا ان (يلتسين) هرول الى كييف عقب توقيعه الاتفاق مع الناتو, للقاء نظيرة (يونيت كوجما) رئيس اوكرانيا, واتفق معه حول ميناء (سيفاستوفول) ليحدد شكل وطبيعة وراثة اسطول البحر الأسود السوفييتي السابق, وبموجب هذا الاتفاق استأجرت روسيا قواعد اسطول البحر الاسود لمدة عشرين عاما مقابل مائة مليون دولار عن العام الواحد, ليرابض بذلك الاسطول الروسي في اربعة خلجان استراتيجية هامة هي: سيماستوفيسكي, نيوجني, سترلينسكي وكوانتين, ولتحصل روسيا على 338 سفينة من 525 سفينة هي مخلفات الاتحاد السوفييتي المنهار, وفي المقابل اعترفت روسيا بأحقية اوكرانيا في مدينة سيفاستوفول التي كانت روسيا ترفض من قبل الاعتراف بهذا الحق, وكون روسيا قد قبلت مبدأ الاستئجار من دولة كانت في عداد الاتحاد السوفييتي السابق, واعترافها بما كانت ترفضه من قبل, فقد اكد هذا حرصها على كسب شركائها القدامى, واعادتهم الى حافظتها مهما كان الثمن, ومهما كانت اعتراضات المعارضة الداخلية في روسيا نفسها, والتي تزعمها ديمانو رئيس الحزب الشيوعي الذي اتهم يلتسين صراحة بالتفريط في مصالح روسيا, بل والمغامرة بأوضاع الناس المعيشية بإجرائه مثل هذا الاتفاق الاخير الذي كلف روسيا 100 مليون دولار سنويا, في وقت احوج ما يكون فيه الشعب الروسي الى هذه الملايين لرفع مستوى معيشتهم, الا ان يلتسين بدا وكأنه يحاول بكل الطرق التصدى للتطويق الغربي, فهو يعلم ان روسيا لن تصبح عضوا في حلف الناتو, ولن يكون لها حق الفيتو فيما يتعلق من قرارات داخل الحلف, وان الاتفاق الذي وقعه هو نوع من التطويق والاجبار, وان اوروبا لاتزال تتعامل مع روسيا من منطلق الدولة المهزومة, نتيجة لانهيار الاتحاد السوفييتي الذي لازمه اختفاء حلف وارسو, هذا ما يحاول تغييره بالتحركات السياسية المغامرة احيانا والغير مدروسة في أحيان كثيرة, والتي كلفته وكلفت شعبه الملايين, وعجلت بنذر الأزمة الراهنة. الاثار الاجتماعية ولقد افرزت الاحوال الاقتصادية المتردية التي تمر بها روسيا اثارا اجتماعية خطيرة, بل ادت الى تغير حقيقي في ديموجرافية السكان, بجانب امراض التفسخ الاجتماعي الذي اصابها, الامر الذي يهدد معه تعرض شعب روسيا للانقراض والتراجع خلال القرن المقبل, اذا لم يحدث تغيير ينقذ الشعب من حالته الاقتصادية والاجتماعية المتردية, وهذا ما اورده المركز الهولندي للابحاث الاجتماعية في تقريره الاخير حول روسيا, حيث اكد المركز ان تغير الشكل السياسي في روسيا عقب انتهاء الشيوعية دون اعداد حقيقي, قد افقد روسيا ـ شأنها شأن سائر الدول الشيوعية السابقة ـ الطموح القومي, وانتهى للابد الحافز الفردي الذي يدفع المواطنين لتنظيم حياتهم, وتراجعت رغبة المواطنين الأكيدة في بناء مستقبل اسري, بسبب تفشي البطالة وضآلة الاجور وعدم وجود فرص جيدة للعمل, فتآكل صرح الاسرة ووضح ذلك في انهيار الاستقرار الاجتماعي, الامر الذي تجسد في تراجع نسب المواليد ونسب الاقبال على الزواج, وواكب ذلك زيادة اعداد الوفيات والهجرة, كما اصبحت الرعاية الصحية محدودة الدور, وارتفعت اسعار السلع بصورة الهبت ظهور المواطنين, وبجانب انحدار الاوضاع الاقتصادية تعاني ديموجرافية السكان في روسيا من اهتزاز عميق, فروسيا العظمى في طريقها الى الموت والانقراض, فهي تخسر اهم ما تملكه (مواطنيها) , ويأتي هذا التصور بإجماع الأطباء والعلماء والمؤسسات الطبية, واذا استمر الوضع على هذا النحو دون وجود انقاذ فعلى فإن العلاج سيكون مستحيلا. الخلل في اسلوب التطبيق والازمة الحقيقية بدأت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991, فقد بدأت اشكال جديدة للحرية والديمقراطية تظهر على الساحة السياسية, وواكب هذا بداية اقتصادية جديدة في روسيا وهي عمليات (الخصخصة) , التي تبعها اغلاق شركات القطاع العام, وتسريح الآلاف من العمال والموظفين, مما ضاعف من اعداد البطالة وجعل المستقبل الجيد املا بعيد المنال ومحلا للشكوك, كما ادى التغيير الفجائي في المعالجة الاقتصادية, والغاء الدعم الحكومي للسلع الاساسية الى ارتفاع رهيب في الاسعار, تزايدت معه ظاهرة الفقر المدقع, وليس هذا الرصد نوعا من التجنى على النظام الجديد الذي تم تطبيقه, بقدر ما هو تفسير للخلل في الاسلوب الذي تم انتهاجه لتطبيق هذا النظام, وحتى نكون منصفين, نعترف ان سلوك هذا الشعب الشيوعي القديم وخصائصه الاجتماعية المتوارثة, قد ساعدت كثيرا في حدوث النتائج السلبية الظاهرة الان جراء التحول للنظام الرأسمالي, فلم يتقبل الرأسمالية الا شرائح معينة, كانت ملتصقة بالسلطة القديمة ولها مصالحها الاقتصادية, اما افراد الشعب من العامة فلم تستوعب اذهانهم ابعاد السياسة الجديدة, حتى ان احدهم لا يجرؤ أن يفكر في عمل مشروع تجاري صغير, فهو لا يتخيل نفسه خارج النسيج القديم للشركات الحكومية او القطاع العام, ويعود هذا الى ان التحول في المنهج والنظام الاقتصادي لم يسبقه اعداد شعبي, فبعد الانفتاح على العالم الذي حدث في عام 1991, تم اطلاق الحرية للاسعار, وبين شمس وضحاها رفعت الحكومة يدها عن كل شيء يمس حياة المواطن, وتغيرت نوعية العلاقة بين العامل وصاحب العمل, واصبحت شرائح المجتمع المختلفة في مواجهة صريحة مع واقع جديد, عليهم تحمل مسؤوليته وتبعات القرار حوله, ودخلت الشركات الاجنبية بمنتجات جديدة, وتم كل هذا بإسلوب سيىء غير ممهد, اهتزت معه اوصال المجتمع الروسي كالبركان الثائر تحت الارض الذي يبحث له عن قناة فيها, ووهم الواقع واسطورة الماضي صنعت توليفة جديدة, يحاول رجال السياسة الاقوياء وقادة الشيوعية السابقون في روسيا الآن استخدامها لايقاظها من جديد في اطار حديث, لكنهم حتى الآن لم ينجحوا في تحقيق اهدافهم من ايقاظ الشيوعية من جديد, لان الخوف وعدم الثقة في التغيير, قد استشرى في نفوس المواطنين وفقدوا معها الثقة في وعود الساسة, سواء في النظام الشيوعي القديم او الرأسمالي الجديد. الشعب يدفع الثمن وشعب روسيا يدفع الان ثمن التغيرات الغير محسوبة, والقرارات السياسية المتخبطة, وهذا ما تؤكده الابحاث والتقارير الدولية, وفي الواقع ما كشف عنه المركز الهولندي لابحاث المجتمع ليس فريدا من نوعه, فقد سبقته تقارير لجامعة هارفارد الامريكية والبنك الدولي, ومنظمة الصحة العالمية, وجاء في هذه التقارير ان مرض الاكتئاب انتشر الان كالوباء في روسيا وكذلك سائر دول الاتحاد السوفييتي السابق, بالاضافة الى امراض تصلب الشرايين والقلب التي صارت تعانى منها هذه المجتمعات بنسبة خطيرة, واكبر معيار لذلك هو تراجع نسب المواليد نتيجة لتردى المناخ النفسي والاجتماعي للمواطنين, وهذا ما أكده (كارل هاوب) الخبير الديموجرافي الامريكي بمنظمة ابحاث الشعوب في احدث تقرير له حول روسيا, فقد انخفضت نسب المواليد من 0.7% في عام 85 الى 0.9% عام 96, وزادت نسبة الوفيات الى 15.1%, اي ان الوفيات اكثر من المواليد, وفي عام 90 كان عدد السكان في روسيا 150 مليون نسمة, وانخفض الان الى 147 مليون نسمة, وتشير التقارير الى ان روسيا سيصل تعدادها بعد 33 سنة الى 123 مليون نسمة, اذا لم تعد الاقليات المهاجرة من الجمهوريات الروسية الى وطنهم الام, ووصف الخبراء هذه الحقائق بأنها كارثة ديموجرافية ستهدد الامن الروسي خلال القرن المقبل, وتؤكد التقارير ان المتغيرات الاقتصادية والتصدعات الاجتماعية الناجمة عن ذلك, ستجعل من متوسط اعمار الاجيال الروسية القادمة تنخفض بنسبة كبيرة عن الان وخاصة الرجال, فقد اصبح الرجل الروسي الآن اكثر ميلا للتدخين وتعاطى الخمور, وقل اهتمامه بغذائه ولم يعد يتحرك كثيرا لفقدانه الأمل والطموح, وصار يعانى من الاكتئاب, ومتوسط عمره الآن 58 سنة وهو اقل متوسط في الاعمار الروسية منذ عهد (يوليوس قيصر) منذ مائة سنة, ولا يوجد في كل اوروبا دولة تعانى من الاهمال الصحي كما هو الحال في روسيا, والميزانية التي تنفقها روسيا على الرعاية الصحية, تعد من اقل معدلات الانفاق بالمقارنة لاي دولة اوروبية, فهي لا تنفق ما يزيد عن نسبة 2.6% من اجمالي الدخل القومي على الرعاية الصحية, وهي نسبة قليلة جدا بالمقارنة بتعداد السكان, ويأتي هذا العجز في الرعاية الصحية مع وجود آلاف الأطباء المهرة والامكانيات العلمية والطبية المتقدمة, الا ان العجز يكمن في عدم وجود اموال للانفاق على الرعاية الصحية, او لدفع اجور للاطباء سواء لدى الحكومة او المواطنين, اذ لا يسمح للمريض في روسيا بدخول المستشفى الا اذا كان يصطحب معه ادويته, كما يتكفل ذووه بحمل الطعام اليه من خارج المستشفى, وقبل كل ذلك عليه دفع رشوة للطبيب المعالج او المسؤول ليقبله كنزيل بالدار العلاجية, ولا توجد بوادر واقعية او حتى مجرد آمال في تحسن الاوضاع الصحية والاجتماعية خلال العشر سنوات المقبلة, كما يعاني الجيش الروسي من تزايد حالات الانتحار التي تضاعفت, فقد زادت خلال السنوات الخمس الأخيرة من 15 الى 36 جندي من بين كل 100 الف, وتؤثر مشكلة الخلل الديموجرافي على الجيش والمدارس, كما ان فقدان الروس لثقتهم في المستقبل ادى لتراجع الاقبال على الزواج, فلم يتزوج سوى 575 الف فقط عام 96, وهي نسبة ضئيلة وتقل بمعدل 14.2% عن العام السابق, كما زادت نسب الطلاق عن 66% من حالات الزواج. بقلم ـ سعيد السبكي

Email