الانهيار الروسي بين الصراع الداخلي والتآمر الخارجي

ت + ت - الحجم الطبيعي

يذهب البعض الى ان (قرار)الرئيس الروسي بوريس يلتسين بعزل(سيرجي كيريينكو)من رئاسة الحكومة واعادة (فيكتور تشيرنوميردين) الى هذا المنصب الذي عزله يلتسين منه في 23مارس الماضي هو اخر القرارات الحاسمة والجذرية التي سوف يتخذها الرئيس يلتسين وهو في مقعد الرئاسة في روسيا, وذلك بعد ان اعلن يلتسين مؤخرا موافقته على التنازل عن بعض سلطاته التي يفوضها له الدستور واعطائها للسلطة التشريعية ممثلة في البرلمان وايضا لرئيس الحكومة تشيرنوميردين, ويعد هذا اول قرار للرئيس يلتسين منذ توليه رئاسة روسيا يتراجع فيه امام البرلمان الروسي الذي سيطرت عليه المعارضة الشيوعية والقومية المتطرفة, ويعكس هذا التراجع والتنازل من قبل الرئيس يلتسين مدى ما وصلت اليه الازمة من تفاقم في روسيا بالقدر الذي جعل الرئيس العنيد دائما يتنازل ويتراجع بعد احساسه باليأس, وفقدانه الامل من امكانية احراز اي تقدم. ايضا على ما يبدو ان الرئيس يلتسين بدأت تنتابه حالات من الندم على كل ما فعله طيلة السنوات السبع الماضية, وعلى رأس هذه الامور التي يندم عليها يلتسين الان تمسكه بالديمقراطيين الشباب الجدد وتقريبهم منه واعطائهم مطلق الحرية في اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية, وينعكس هذا الندم بشكل واضح على قراراته التي اتخذها كرد فعل على تفاقم الازمة المالية بعد قرار عزله لرئيس الحكومة (كيريينكو) ثم قراره بعزل اهم شخصية في الحكومة وفي الكرملين, وهي الشخصية التي تحملها المعارضة البرلمانية المسؤولية الاولى في تدهور الاوضاع الاقتصادية في روسيا وهو ـ كما يسمونه ـ الرجل الاحمر (اناتولى تشوبايس) والذي شغل العديد من المناصب حتى وصل الى منصب النائب الاول لرئيس الوزراء بعد منصب رئيس ديوان الرئاسة الذي كان يدير منه كل الامور في الكرملين, ثم منصبه الاخير الذي عزل منه وهو منصب (المفاوض باسم الحكومة الروسية لدى المؤسسات المالية الدولية) مثل صندوق النقد والبنك الدولي, وهو المنصب الذي يعتبره البعض غاية في الخطورة حيث كان يتحدث تشوبايس فيه باسم روسيا كلها وبسلطة مطلقة دون الرجوع لاي جهاز تنفيذي او تشريعي في روسيا, ولهذا يرى البعض ان تشوبايس هذا هو الذي القى بروسيا تحت اقدام الغرب وحطم اقتصادها على مدى السبع سنوات الماضية, خاصة وانه مهندس مشاريع الخصخصة الشهيرة في روسيا منذ عام 1993 وحتى الان, هذه الخصخصة التي يقدر حجم خسائر روسيا من ورائها حسب تقديرات (المركز الاستراتيجي في موسكو) في ديسمبر من العام الماضي بنحو ثلاثة تريليون دولار, وهذا الرقم غير مبالغ فيه بل ربما يكون اقل من الحقيقة, خاصة اذا علمنا ان هناك اكثر من 12 الف مشروع انتاجي روسي كانت تقوم عليهم دعائم الدولة السوفييتية العظمى قد تم بيعهم حتى عام 1996 بمقدار 20% من قيمتهم الحقيقية, وان مصنعا للسيارات في مقاطعة تشليابنسك الروسية يقدر ثمنه بستين مليون دولار, تم بيعه عام 1974 بمبلغ 2.6 مليون دولار, والامثلة على ذلك كثيرة لا يمكن حصرها, وتنسب عمليات الخصخصة الكبرى التي تمت في روسيا حتى الان الى الرجل الاحمر (تشوبايس) , وهو (احمر) ليس لانه شيوعيا او له انتماء ماركسي ولكن فقط لان شعر رأسه لونه احمر, والغريب انه في الامثال والفولكلور الشعبي الروسي يقولون (وراء كل مصيبة ابحث عن الاحمر) , وقد توقف استخدام هذا المثل في عهد الدولة السوفييتية الشيوعية الحمراء, ثم عاد استخدامه مع تشوبايس. ويأتي قرار الرئيس يلتسين بعزل (تشوبايس) وابعاده من السلطة بناء على رغبة رئيس الحكومة العائد (تشيرنوميردين) وايضا بناء على رغبة لمعارضة الشيوعية في البرلمان, وهذا في حد ذاته يعد تراجعا كبيرا من الرئيس يلتسين الذي ظن البعض على مدى العامين الماضيين انه لا يستطيع الاستغناء عن تشوبايس مطلقا, ويكفينا لكي نعلم مدى خطورة تشوبايس هذا ان نتذكر اثناء زيارة الرئيس الامريكي كلينتون لموسكو قبل انتخابات الرئاسة الروسية عندما اجتمع كلينتون بقادة الاحزاب السياسية في روسيا ومن بينهم (جينادى زيوجانوف) الزعيم الشيوعي الذي كان وقتذاك ينافس يلتسين على الرئاسة, ولم يكن (تشوبايس) هذا وقتذاك يشغل اي منصب في الحكومة, حيث استبعده يلتسين مؤقتا حتى لا يثير غضب الشعب عليه باعتباره مهندس الخصخصة التي كانت متهمة بتدمير الاقتصادالروسي, وجلس كلينتون على مائدة مستديرة مع رؤوساء الاحزاب الروسية وجلس الى يمينه مباشرة (اناتولى تشوبايس) وكان هو الوحيد في الجلسة الذي لا يرتدي زيا رسميا ولا رباط عنق, وثارت اسئلة كثيرة حول مدى علاقته بواشنطن, ووصفه الشيوعيون بعد ذلك بانه العميل الاول لواشنطن والغرب في الحكومة الروسية, ومن المعروف في روسيا ان تشوبايس هذا هو الذي اتى بسيرجي كيريينكو لرئاسة الوزارة في مارس الماضي, وهو الذي كان وراء عزل تشيرنوميردين, وها هو يلتسين بعد ان تفاقمت الازمة واوشكت السفينة على الغرق لم يجد مفرا من التخلص من تشوبايس, وبعد هذا القرار بيومين فقط فاجأ يلتسين الجميع بقرار اخر وهو قبول استقالة رجل اخر ليس اقل خطورة من تشوبايس بل, ربما فاقه احيانا في الخطورة خاصة وانه يهودي الاصل والديانة, وهو النائب الاول لرئيس الوزراء (بوريس نيمتسوف) الذي لم يتجاوز السابعة والثلاثين من عمره, والذي سبق ان قال عنه يلتسين بانه الرئيس المنتظر لروسيا عام 2000, و(نيمتسوف) هذا من اكثر الديمقراطيين الشباب الجدد تمسكا بسياسة السوق الحرة, والخضوع لشروط وتوصيات صندوق النقد الدولي. ويأتي قرار الرئيس يلتسين بعزل كيريينكو ومن بعده تشوبايس ومن بعده نيمتسوف بمثابة صدمة كبرى للديمقراطيين, وانتصارا كبيرا للشيوعيين الذين طالما نادوا بعزل هؤلاء واتهموهم بأنهم عملاء الغرب في روسيا. ويقولون في روسيا ان هناك امرين لا يمكن لاحد ان يتوقعهما وهما (القدر وقرارات الرئيس يلتسين) , وقد اثيرت هذه المقولة بالتحديد بعد عودة تشيرنوميردين لرئاسة الوزارة في اعقاب تفاقم الازمة المالية, هذا القرار الذي مازال الجميع يحتارون في تفسيره سواء داخل روسيا او خارجها, وكما يقول المحلل السياسي الروسي في صحيفة (سيفودنيا) اليومية الروسية (ايجور بونين) (انني اشك اذا كان تشيرنوميردين نفسه يعرف او يستطيع ان يتكهن بالسبب الحقيقي الذي من أجله اصدر يلتسين قراره باعادته) , ويضيف بونين ان (من المتصور ان يلتسين اعاد تشيرنوميردين لرئاسة الحكومة بعد ان شعر انه واقع في خدعة كبيرة استمرت معه منذ عامين احاط نفسه فيهما بالديمقراطيين الشباب الذين اوهموه ان الاقتصاد الروسي لن ينهض الا بعد ان ترفع الدولة يدها عن كل شيء ولا تبقى لها اية سلطة, واوهموه ان سياسة السوق الحرة هي التي جعلت من امريكا ودول اوروبا الغربية دولا عظمى, وانه ان الاوان لكي تلحق بهم روسيا. وقبل تفاقم الازمة بيومين صرح الرئيس يلتسين امام الجميع بانه لن يصدر اي قرار بتعويم العملة الروسية (الروبل) ولم تمضي 48 ساعة الا وصدر القرار, وعندما سأله احد الصحفيين عن مدى مسؤولية رئيس الوزراء (كيريينكو) عن الازمة, صرح يلتسين بانه لا مسؤولية عليه والازمة في روسيا ما هي الا امتداد لازمة الاسواق المالية في شرق اسيا, واضاف يلتسين بانه لا ينوى على الاطلاق عزل (سيرجي كيريينكو) وبعد هذا التصريح بيومين فقط قرر يلتسين عزل (كيريينكو) , وهذا التضارب في قرارات الرئيس يلتسين ليست فقط عادة تلازمه في قراراته, ولكنها ايضا ردود فعل يائسة على تفاقم الازمة الاقتصادية والمالية, فقد شعر يلتسين بان المركب تغرق بالفعل, وان الشعب على وشك الانفجار, وانه لا امل في اية حلول, ولهذا ـ كما يقول مدير معهد التحليل الاقتصادي في موسكو (اندريه ايلاريونوف) اراد يلتسين ان يخلى مسؤوليته ويقدم كعادته الضحية التي يمتص بها الغضب, ولان (كيريينكو الشاب) اصغر من الازمة فقد اطاح معه بتشوبايس ونيمتسوف, ولان هذا كله لا يكفي اعاد عدوهم اللدود تشيرنوميردين, واكثر من ذلك ابدى يلتسين استعداده للتازل عن بعض سلطاته الرئاسية للبرلمان ورئيس الحكومة, كل هذا يعني في النهاية ان يلتسين العنيد دائما بدأ يسلم اوراقه ويعترف بضعف صحته وعدم مقدرته على المواصلة, وبدأ يشعر انه في حاجة للهدوء والسكينة, ولهذا لا يستبعد احد ان يتخلى يلتسين في القريب العاجل عن الكثير من سلطاته التي يمنحها له الدستور ويترك الامر للحكومة الائتلافية التي ينوى تشيرنوميردين تشكيلها مع الشيوعيين وباقي القوى السياسية الاخرى. ويبقى السؤال: هل يخرج كل هذا روسيا من الازمة؟ نشرت صحيفة (ازفستيا) اليومية في روسيا تقول تشيرنوميردين لم يعود من اجل حل الازمة, ولا تشغل باله كثيرا هذه المسألة, وكل ما يهمه هو انتهاز هذه الفرصة الذهبية لتثبيت موقعه السياسي والاستعداد لخوض المعركة من اجل الوصول الى مقعد الرئاسة في روسيا, وهو مستعد من اجل هذا الهدف ان يفعل كل ما في وسعه حتى لو تحالف مع الشيطان, والمقصود هنا بالشيطان الشيوعيون الذين يفتح معهم تشيرنوميردين جسور الود والتفاهم منذ حصولهم على الأغلبية في البرلمان في ديسمبر عام 1995, وهم الذين دافعوا عنه كثيرا خاصة عندما بدأ الديمقراطيون هجومهم الحاد عليه في محاولة للتخلص منه وازاحته باعتباره رمزا من رموز الدولة السوفييتية القديمة يرفع شعارات الاصلاح الاقتصادي مع تحفظ هام وجوهري وهو بقاء سيطرة الدولة على قطاعات الانتاج الحيوية, وهذا امر كاف لكي يكن الديمقراطيون لتشيرنوميردين العداء ويسعون لإزاحته, ومن هنا فان من المستبعد تماما ان يستعين تشيرنوميردين بالديمقراطية وتقول المحللة السياسية بمعهد (كارنجي الدولي) ليليا شفتسوفا) (رغم ان مطالب الشيوعيين مبالغ فيها تماما وتقترب الى مستوى الشعارات الا ان تشيرنوميردين يتعامل معهم بذكاء, ويحاول كسب تأييدهم له, ليس بهدف مواجهة الأزمة الاقتصادية, ولكن بهدف الاستعانة بهم للوصول الى مقعد الرئاسة) . ولكن هل يستطيع تشيرنوميردين مواصلة صراعه من أجل الرئاسة مستعينا بالشيوعيين دون السعى لحل الأزمة الاقتصادية في روسيا؟ يقول رئيس مؤسسة الاعلام الديمقراطي في موسكو (جورجي ساتاروف) ان (تشيرنوميردين يمثل في نفس الوقت مجموعة كبار رجال الصناعة في روسيا, وارتباطه برجل الاعمال رئيس شركة (غاز بروم) ريم فياخيروف يجعله قريبا دائما من اكبر مركز قوة في روسيا الان وهم كبار رجال الاعمال الذين يضعون ايديهم على قطاعات الانتاج الحيوية في روسيا, وهذه الفئة بالتحديد هي التي وقفت بجانب الرئيس يلتسين في انتخابات الرئاسة الماضية, ولعبت دورا كبيرا في فوزه على منافسه الشيوعي (جينادى زيوجانوف) , وتقارب تشيرنوميردين من الشيوعيين مرحلة تكتيكية مؤقتة يحاول من ورائها كسب أكبر قطاع من الشعب. ولكن ماذا عن التناقض الواضح بين مصالح كبار رجال الأعمال والرأسماليين الصناعيين وبين الشيوعيين؟ هل يستطيع تشيرنوميردين ان يوفق بينهما ويوحدهما في جبهة واحدة توصله للسلطة؟. تذهب الغالبية من المحللين الى ان الشيوعيين الموجودين في البرلمان الروسي حاليا يختلفون كثيرا عن الشيوعيين السابقين, وانهم قدموا تنازلات كثيرة على مدى الخمس سنوات الماضية خلال صراعهم السياسي على السلطة, وايدوا جزءاً كبيراً من سياسات الاصلاح الاقتصادي ودعم القطاع الخاص, ومازالوا مستعدين لتقديم تنازلات اخرى اكثر في سبيل وصولهم للسلطة, اما عن المبادئ الماركسية فهي اخر ما يفكر فيه الشيوعيون الروس الان, خاصة وانهم يعلمون جيدا ان الظرف الدولي لا يقف في صفهم ولا يسمح في المستقبل القريب بعودة الشيوعية, ومن ناحية اخرى فان رجال الاعمال الروس وخاصة كبار الصناعيين الذين يهيمنون على القطاعات الرئيسية في الانتاج والاقتصاد الروسي لا يميلون للتعامل مع الديمقراطيين الجدد, وايضا لا يميلون لسياسة السوق الحرة بمفهومها الواسع, وكثير منهم يفضل تدخل الدولة بقدر محدود في ادارة الاقتصاد وعمليات الانتاج لان هذا في حد ذاته يضمن لهم قدراً من الامن والاستقرار يساعدهم على ادارة اعمالهم, ولو اخذنا مثالا على ذلك قطاع الغاز الطبيعي في روسيا والذي تحتكره الشركة العملاقة (غاز بروم) , هذه الشركة التي تتحكم في 95% من انتاج روسيا من الغاز الطبيعي والذي يشكل 28% من الانتاج العالمي, ويشكل في نفس الوقت اكثر من 30% من موارد اوروبا كلها من الغاز, هذه الشركة العملاقة التي يقولون عنها في الغرب ان روسيا لم تعد تملك من مقومات الدولة العظمى سوى ترسانة الاسلحة النووية و(غاز بروم) , هذه الشركة تملك فيها الحكومة الروسية الحصة الاساسية من الاسهم والتي تبلغ 38%, وهذه الحصة هي التي حفظت لهذه الشركة مكانتها وهيبتها ورفعت سمعتها على المستوى العالمي حتى اصبحت سنداتها واسهمها تحقق اعلى عائدات في اسواق المال العالمية, واستطاعت هذه الشركة بمفردها في العام الماضي ان تدخل لخزينة الدولة عوائد بلغت ملياري دولار, ورغم هذا ناضل الديمقراطيون الجدد من اجل طرح حصة الدولة في هذه الشركة للبيع للقطاع الخاص وللمستثمرين الاجانب, ويذهب البعض الى ان هذه المسألة كانت من الاسباب الرئيسية وراء استبعاد تشيرنوميردين من رئاسة الحكومة في مارس الماضي, واستطاعت (غاز بروم) ان تصمد امام محاولات التخصيص الكامل لها بفضل دعم الاغلبية الشيوعية في البرلمان لها وتأييدهم لرئيسها (ريم فياخيروف) في موقفه ضد الديمقراطيين الجدد, وقد وقف (فياخيروف) امام البرلمان الروسي يعلن صراحة أن هناك مخططاً مدبراً لتحطيم (غاز بروم) وتفتيتها كآخر قلعة اقتصادية قوية في روسيا, واتهم (فياخيروف) بالتحديد صندوق النقد الدولي وواشنطن معا بأنهما يريدان رفع يد الدولة عن قطاع الغاز الطبيعي باعتباره قطاع حيوي ومصيري ليس فقط لاقتصاد الدولة ولكن للشعب الروسي نفسه, وقال (فياخيروف) ان من يمتلك هذا القطاع يمتلك مصير الشعب الروسي الذي يعيش ثمانية شهور في السنة في طقس متجمد وشديد البرودة, ويعتمد اعتمادا كليا على ثروة بلاده من الغاز الطبيعي كمصدر لتدفئة كل روسيا طوال الشتاء, ولو وضعت هذه الثروة في يد جهات اجنبية او حتى جهات خاصة داخل روسيا فهذا يعنى تهديدا دائما لروسيا كلها. ولم تكن مبالغة من بعض المراقبين والمحللين عندما قالوا في اعقاب عودة تشيرنوميردين منذ ايام بان (غاز بروم) عادت لتحكم روسيا من جديد, ايضا لم يكن غريبا في ظل هذا الانهيار في اسواق العملة والاسهم في داخل روسيا وخارجها ان ترتفع فقط اسهم (غاز بروم) . ويبقى السؤال قائما: ماذا عن الازمة في روسيا؟ الواقع وباجماع كل الاراء ان روسيا لن تخرج من هذه الازمة قريبا, ومواهب رئيس الحكومة الجديد تشيرنوميردين في التفاوض وكسب الخصوم واتباعه سياسة التهدئة وامتصاص الغضب لن تفيد في مواجهة الازمة, وحقيقة ان تشيرنوميردين نفسه لا يقول غير ذلك, وفي اخر تصريحات له اثناء الاسبوع الماضي لم يزد عن ان الازمة قوية وصعب ايجاد حلول جذرية لها في المستقبل القريب, واكد على ما سبق ان ما قرره سلفه وخصمه الديمقراطي (كيريينكو) , وهو ان روسيا لن تستطيع سداد ديونها العاجلة للاجانب, وانها مضطرة للتوقف عن السداد حتى نهاية هذا العام على ان تبدأ في جدولة هذه الديون مع بداية العام المقبل, وتبلغ ديون روسيا الخارجية 144 مليار دولار, اما الديون الداخلية لروسيا والتي تعتبر في حد ذاتها السبب المباشر للازمة الحالية فقد بلغت 51 مليار دولار, منها ما يزيد على عشرين مليار دولار ديون على الحكومة الروسية لاكثر من 22 مليون مواطن روسي لم يتقاضوا اجورهم ورواتبهم على مدى اكثر من عام مضى, ولا داعي للسؤال هنا كيف يعيش هؤلاء؟ لان هذا امر شرحه يطول ويكفينا للاجابة عليه باختصار ان نقول ان بعض عمال المناجم في روسيا ـ كما نشرت بعض وكالات الانباء ـ يصطادون الكلاب الضالة ويذبحونها ويأكلون لحمها لانهم لا يجدون ما يشترون به الطعام, ولم يحصلوا على اجورهم لاكثر من عشرة شهور, وهناك العديد من الأطباء وضباط الجيش الروسي وجنوده والمعلمين يقفون في الشوارع يبيعون ممتلكاتهم, وبعضهم يعمل في تنظيف المحلات الخاصة, واكثر من مليون ونصف طفل روسي سجلتهم مكاتب الامن خلال الاعوام الخمسة الماضية في سجلات المجرمين لانهم تركوا المدارس وذهبوا يمارسون التسول والسرقة, والناس في روسيا لا تنسى حتى الان حادث انتحار (فلاديمير نيتشاي) اشهر علماء الفيزياء النووية ومدير معهد الأبحاث النووية الفيدرالي الروسي ورئيس مركز الطاقة النووية الروسي (تشليابنسك 70), هذا الحادث الذي هز روسيا في اكتوبر عام 1996, خاصة بعد ان نشرت الصحف الروسية رسالة تركها العالم المنتحر يقول فيها (انه لم يستطع تحمل الحياة ولا مشاهدة القوة العظمى تنهار امام عينيه) , وقد جاء انتحاره في اعقاب توقف الحكومة عن دعم المركز الذي يرأسه ماديا وتوقفها عن دفع رواتب العاملين في المركز لأكثر من ثلاثة شهور, ويتساءلون الان ماذا كان يفعل العالم (نيتشاى) لو عاش لهذه الايام بينما العاملين في المركز لم يتقاضوا اجورهم حتى الان, واكثرهم هجر المركز وذهب يبحث عن عمل اخر. ورغم هذا كله لم تنفجر الازمة المالية في روسيا الا منذ ايام رغم ان الانهيار مستمر منذ سنوات مضت. ويذهب بعض المحللين الى ان الازمة الروسية لم تخل من عامل المؤامرة المدبرة من جهات اجنبية تستعين بعناصر داخلية من الديمقراطيين الجدد, ويتهم الشيوعيون في الأساس صندوق النقد الدولي والسياسة التي يتبعها مع روسيا في منح القروض المشروطة والمرتبطة ببرامج اصلاحية وضعها خبراء الصندوق, ويرى الشيوعيون ان هذه البرامج لا تهدف الى اصلاح الاقتصاد الروسي بقدر ما تهدف الى اخضاع الاقتصاد ووضعه في يد المستثمرين الاجانب, ونهب موارد روسيا وثرواتها وفرض الهيمنة على مراكز صنع القرار السياسي فيها. وعلى ما يبدو ان تشيرنوميردين رجل الاصلاح الاقتصادي الذي كثيرا ما دخل في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي من اجل القروض, يؤيد رأي الشيوعيين, وهذا ما انعكس بوضوح في لقائه مع رئيس صندوق النقد الدولي. (ميشيل كامديسيو) منذ اسبوع مضى في اوكرانيا حيث وجه تشيرنوميردين في هذا اللقاء ولاول مرة نقدا حادا لسياسة الصندوق تجاه روسيا, ولم يتوان (كامديسيو) بعد اللقاء عن التصريح للصحفيين بأن الصندوق لن يساعد روسيا ولن يقدم لها القروض اذا لم تستمر في برامج الاصلاح الاقتصادي التي سبق وان ناقشتها مع الصندوق وتم الموافقة عليها. واكثر من ذلك وجه البعض الاتهامات المباشرة الى رجل الاعمال والبورصات واسواق المال الملياردير اليهودي الامريكي (جورج سورس) والذي يطلق عليه رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد لقب (ابن الشيطان) ويتهمه بأنه وراء الازمات المالية في دول جنوب شرق اسيا, وقد صرح (مهاتير) في اعقاب انفجار الازمة الروسية قائلا انه لا يستبعد دور السماسرة والمضاربين في الازمة الروسية وعلى رأسهم جورج سورس, وحذر مهاتير من زيادة الضغط الغربي على روسيا, وانه ربما يدفعها الى الانفجار واستخدام سلاحها النووي. اما رجل الاعمال الايطالي الشهير (فيتوريو ميرلوني) الذي يمارس نشاطا كبيرا داخل السوق الروسية فقد صرح للصحفيين قائلا: (انا على قناعة تامة بان سورس لعب دورا كبيرا في الازمة المالية الحادة في روسيا, وساهم في ضرب الروبل الروسي, خاصة وانه قبل الازمة بأسبوعين صرح سورس للفايننشال تايمز بان تخفيض الروبل الروسي امر حتمي وضروري, وهو التصريح الذي تفجرت بعد نشره اسواق المال الروسية) . ورغم نفي البعض لعنصر المؤامرة وراء الازمة الروسية الا ان ردود فعل الدوائر السياسية والاقتصادية في الغرب ربما تدعم هذه الاقاويل, خاصة وان رجال السياسة الغربيين اجمعت تصريحاتهم في اعقاب الازمة على ضرورة اتباع روسيا لبرامج الاصلاح الاقتصادي التي وضعها لها صندوق النقد الدولي, وهو الامر الذي يرفض الشيوعيون والقوميون في روسيا ويعتبرونه اكبر ضربة للاقتصاد الروسي. وقد صرح رئيس الوزراء البريطاني (توني بلير) في اعقاب الازمة وبعد حديث تليفوني له مع الرئيس الامريكي كلينتون حول الازمة قال بلير (ان الامر في روسيا في غاية الخطورة ولا احد يستطيع ان يخفى ذلك, وليس هناك حل سوى استمرار الحكومة الروسية في برامج الاصلاح الاقتصادي التي وضعتها بمعاونة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي, وهذا هو السبيل الوحيد للخروج من الازمة) . وقال وزير المالية الالماني (تيو فايجل) (يتعين على روسيا الإسراع في اتخاذ خطوات جادة لاستعادة ثقة المستثمرين الاجانب التي تقلصت بسبب توقف روسيا عن سداد ديونها الخارجية والداخلية وعلى الحكومة ان تلتزم بوضوح وبجدية بمواصلة الاصلاحات الاقتصادية والتعاون مع المؤسستين الدوليتين صندوق النقد والبنك الدولي) . وصرح وزير المالية الفرنسي (دومينيك ستروس) (بان وزراء مالية الدول السبع الكبار بعثوا برسالة الى تشيرنوميردين يوضحون فيها الطريقة التي يجب على الحكومة الروسية اتباعها للخروج من الازمة, واضاف (ستروس) بان المساعدات الغربية لروسيا وحدها لا تكفي ما لم تقر الحكومة الروسية الاصلاحات المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي, ومواصلة اية مساعدات مشروط بالالتزام بالاصلاحات) . ويفسر المراقبون والمحللون هذه التصريحات الحادة من قبل رجال السياسة الغربيين والتي تؤكد كلها على ضرورة التزام روسيا ببرامج الاصلاح الاقتصادي بانها تعكس حالة الذعر والخوف لدى الحكومات الغربية من تطور الاوضاع الراهنة في روسيا بالشكل الذي ممكن ان يؤدي في النهاية الى انهيار النظام الحاكم هناك والذي يدعمه الغرب طيلة السبع سنوات الماضية, ووصول القوى المتطرفة امثال الشيوعيين والقوميين المتطرفين الى الحكم, وهو الامر الذي ممكن ان يطيح بمصالح الغرب ويهدد الساحة الدولية كلها ويعيد شبح الحرب الباردة في ظل وجود ترسانة سلاح نووي كبير لدى روسيا المنهارة اقتصاديا. هذا في الوقت الذي يذهب فيه البعض الى ان البرامج الاصلاحية التي قدمها صندوق النقد الدولي لروسيا حتى تلتزم بتنفيذها, ما هي الا سياسة وضعها الغرب لروسيا حتى يتفادى معها نهوضها من جديد واستعادتها لاحلامها وطموحاتها التوسعية. ولكن ماذا عن نمو الازمة في روسيا ووصول تداعياتها الى الاسواق الغربية وتهديدها لبعض هذه الاسواق؟ ألا ينفي هذا عنصر المؤامرة المدبرة من الغرب لروسيا؟ الحقيقة تتلخص هنا في مقولة ترددت اكثر من مرة في الايام الاخيرة وذكرها بعض المحللين والمراقبين الروس والاجانب, وهذه المقولة تقول ان (الغرب يريد روسيا ضعيفة ولا يريدها منهارة) , هذه المقولة ربما تمس الحقيقة, والتي توضحها انعكاسات الازمة الروسية على الساحة الخارجية, والتداعيات المستمرة للازمة الروسية في اسواق المال بورصات الاسهم العالمية, والانخفاض المتوقع في اسعار النفط والذهب في الاسواق العالمية خاصة بعد ما اشيع ان روسيا سوق تضطر لبيع كميات كبيرة من نفطها وبأرخص الاسعار ولمن يدفع اسرع حتى تواجه الازمة المالية الحادة, من ناحية اخرى بدأت الحكومة الروسية في طرح اطنان من احتياطيها من الذهب في الاسواق العالمية بهدف الحصول على الاموال, وانخفضت اسعار الذهب بشكل ملحوظ في الايام الاخيرة. هذه الامور وغيرها تؤكد مقولة ان الانهيار الروسي سوف يكون له بالغ الاثر والضرر على الاسواق الغربية والعالمية كلها, وقد تجاوزت الازمة الحدود الاوروبية ووصلت الى بورصات نيويورك التي انخفضت فيها اسعار اسهم 2872 شركة, بينما انخفضت اسهم اربعين شركة فرنسية وما يقرب من مائة شركة بريطانية, وتعدت الازمة الحدود الى امريكا اللاتينية في المكسيك والبرازيل وفنزويلا حيث سجلت مؤشرات البورصات هناك انخفاضا ملحوظا في اسعار الاسهم وصل في بعض هذه البورصات الى نسبة 11%. هذه التداعيات تعنى في الاساس ان الانهيار الروسي ليس في صالح احد, وان اضعاف روسيا شيء وانهيارها شيء اخر تماما. ولكن هذا لا يمنع من وجود جهة محددة ربما تكون هي الوحيدة المستفيدة من الانهيار الروسي, وهي اسرائيل التي تضخم صحفها الداخلية حاليا من حجم الازمة في روسيا حتى تحمس اليهود الروس الباقين هناك على الهجرة لإسرائيل, خاصة وان هناك ما يقرب من ثمانمائة الف يهودي مازالوا في روسيا بعد ان هاجر منها على مدى السنوات السبع الماضية اكثر من نصف مليون الى اسرائيل. والان وبعد ان تفاقمت الازمة, وانسحب الرئيس يلتسين من دائرة الضوء وآثر السكينة والسلبية, واصبح الامر كله ملقى على عاتق رئيس الوزراء الجديد تشيرنوميردين والمعارضة البرلمانية, ماذا يمكن ان يحدث في روسيا في الايام المقبلة؟ يقول الزعيم الشيوعي (جينادى زيوجانوف) ان (المعارضة تناقش بجدية اجراءات اعادة الاعتبار لملكية الدولة, وان سياسة الانفتاح الكامل والاسواق الحرة واملاء الشروط من قبل صندوق النقد الدولي سياسة مرفوضة ولا فائدة منها, وانه قد آن الاوان للاعتراف بقيمة ملكية الدولة للقطاعات الحيوية في الاقتصاد) . ويضيف تشيرنوميردين على هذه التصريحات الخطيرة قائلا: (ان سياسة الانفتاح لم تقد روسيا الى البناء الاقتصادي, وفشلت في خلق طبقة فاعلة من المنتجين واصحاب رؤوس الاموال. هذه التصريحات الحادة من قبل موسكو تثير الرعب والفزع في الغرب لانها تعكس تحولاً حاداً في سياسة الحكومة الروسية وتشكل تهديدات للسياسة الغربية. اما عن زيارة الرئيس الامريكي كلينتون لروسيا في ظل هذه الازمة, فيقول المراقبون انها فقدت معناها وان كلينتون لن يحمل لروسيا اية حلول للازمة, ولن يزيد في توصياته عما طالب به رجال السياسة في الغرب بضرورة التزام روسيا ببرامج الاصلاح, ويذهب البعض الى ان زيارة الرئيس كلينتون لروسيا غير مرغوب فيها من الشعب والحكومة والبرلمان هناك, والديمقراطيون انصار الاتجاه الغربي لا حول لهم ولا قوة الان في موسكو, ولا يستطيعون حتى ان يلتقوا بشكل رسمي مع كلينتون هناك بعد ان استبعدهم يلتسين من مناصبهم, اما الرئيس يلتسين نفسه فان البعض يذهب الى انه لن يستطيع في هذه المرة ان يظهر قوته امام كلينتون, وحتى لن يستطيع ان يعده بأي شيء, وكل ما يستطيع ان يفعله يلتسين مع الغرب الان هو ان يطلب منهم المساعدة لروسيا, اما اذا رفضوا واصروا على ربط المساعدات بالتزام روسيا ببرامج وشروط صندوق النقد الدولي, فان يلتسين لن يخضع لهم في هذه المرة ليس قوة منه ولكن لانه تقريبا لم يعد يملك سلطة القرارات الحاسمة. في اطار كل هذه الاوضاع الداخلية والخارجية والمتصلة بالازمة الروسية, يصبح من الصعب التنبؤ بأي تطورات ايجابية في الازمة الروسية, ويصبح على العالم كله ان ينتظر مزيداً من الازمات في مختلف انحاء العالم. اما عن الشعب الروسي فلا يتوقع منه مع استمرار الازمة وتفاقمها الا الانفجار الذي لا يستطيع احد ان يتكهن بأبعاده وتداعياته, خاصة وان هناك العديد من القوى تتصارع على السلطة داخل روسيا, وتنتظر انفجار الازمة بشكل اكثر حدة حتى تستطيع ان تفرض نفسها على الشعب الجائع والحائر والذي لم يعد يعرف بالتحديد ما هو السبيل وما هو الحل وما هو الصح والخطأ في هذا المسلسل المستمر من التدهور والانهيار؟. بقلم ـ د. مغازي البدراوي

Email