من الملف السياسي: اول وزير بحث علمي والمسؤول عن مشروع انشاص النووي يكشف أسراره للملف السياسي،

ت + ت - الحجم الطبيعي

استدعاني عبدالناصر بعد ان ابلغه الروس تأخير افتتاح مشروع انشاص خمس سنوات . عبدالناصر فكر في اقتحام المجال النووي بعد تأكده من اقتحام اسرائيل له, واستدعينا كل الكفاءات الشابة. اول تجربة حقيقية للبحث العلمي في مصر بدأت بالصدفة وبعد قيام الثورة بأيام. ارتبطت تجربة مصر النووية في انشاص عام 1955 باسم صلاح هدايت.. وكانت التجربة نواة لاقتحام مصر العصر النووي الذي دخلته اسرائيل في نفس الوقت وعند اختياره وزيرا للبحث العلمي عام 1957 قال له عبدالناصر: اريد تكنولوجيا محلية تقلل من الاعتماد على الخارج ومن الوزارة التي تولاها صلاح هدايت بدأ تكوين اول قاعدة للبحث العلمي في مصر وحين خرج منها ظل مستشارا علميا لعبدالناصر يقدم له الاقتراحات ليست لمصر فقط بل للدول ماجدة السيد، القاهرة ـ البيان العربية والافريقية. تحدث صلاح هدايت (للملف السياسي) عن تجربته في مشروع الطاقة النووية وقصة اسناد عبدالناصر له هذه المسؤولية قائلا: انا رجل بحث علمي, ورجل خاض تجارب عديدة في تصنيع السلاح.. وبالتالي فان اختيار عبدالناصر لي لفترة محدودة في مشروع الطاقة النووية قد جاء من هذا الاعتبار.. وجاءت اولا لأنني كنت على الاوراق ضابطا تابعا لإدارة البحوث الفنية بالقوات المسلحة, وأنفذ في نفس الوقت المهام الخاصة الذي يسنده لي عبدالناصر, وباعتباري الوظيفي كنت ممثل القوات المسلحة في مؤسسة الطاقة الذرية.. تلقيت اشارة من وادي النطرون أطلب العودة بأقصى سرعة لمقابلة الرئيس وذهبت اليه فقال لي: (يا صلاح انت تمثل القوات المسلحة من مؤسسة الطاقة.. وبالأمس كان عندي وزير الكهرباء الروسي واخبرني بان افتتاح المشروع سوف يتأخر خمس سنوات.. واضاف (إزاي يا صلاح تبقى موجود وكل ده يحصل.. ولماذا لم تخبرني بذلك) ؟ وبالمناسبة كان اكثر ما يضايقه ان يعرف حقيقة الاحوال بهذا الاسلوب, وعلى الرغم من انه كان يمتلك طرقا عديدة لا يتوقعها البعض لمعرفة الحقائق قلت له يا ريس انا اول مرة اسمع هذا الكلام رغم حضوري كل اجتماعات المؤسسة.. فقال لي: (هذا سيمثل احراجا لي امام العالم.., اذهب الى هناك وافعل ما تراه في حدود الموعد الذي اتفقنا عليه مع الروس) , وذهبت الى انشاص لأرى الوضع على الطبيعة فوجدت أن العمل في المشروع متوقف تماما والموقف يسوده الاستهتار, وتمثل ذلك في عدم انتظام الخبراء الروس في العمل, لدرجة انهم كانوا لا يحضرون, واذكر انني حين سألت عن بعضهم اخبروني انهم يصطادون البط والوز في احدى البحيرات القريبة, كما وجدت المعدات التي جاءت من روسيا في أغلفتها, ومعرضة للشمس بإهمال شديد, وكان السبب في ذلك هو عدم وجود اشراف مصري خالص على خطوات التنفيذ.. حملت الى عبدالناصر تقريرا بذلك واصابه الانزعاج فأصدر قرارا لي بالاشراف الكامل على المؤسسة, واعطاني كل السلطات في تنفيذ ما اراه وجعل المشروع تابعا للرئاسة مباشرة. وماذا افاد ذلك؟ ادى ذلك الى دفع العمل في المشروع حيث كان اتصالي مباشرا مع عبدالناصر وذلك لتذليل اي عقبات تعرقل التنفيذ. ما هي الخطوات الفنية التي اتخذتموها فور اصدار القرار؟ بدأت في انشاء وتركيب الاقسام والمعامل وتشغيلها ووصل المفاعل الى ما يسمى بالحالة الحرجة.. في نفس التوقيت الذي كان محددا له, وكانت اجزاء المفاعل قد وصلت الى مصر وموجودة كقطع حديدية فقط, وبدأنا في تشكيلها محليا بأيدي مصرية وفقا للتصميمات الموجودة على الاوراق المرفقة بها وتم هذا بأيدي مصرية وبمعاونة روسية, وحاولت في هذا المشروع اختصار اكبر قدر ممكن من الاستعانة بالروس الى درجة ان عملية لحام الاوكسجين كان الروس يريدون احضار عمال تابعين لهم, ورفضت ونزلت الى منطقة عبود (احدى المناطق الشعبية في مصر) , واخذت عددا كبيرا من العمال وقاموا بالمهمة على اكمل وجه, واتذكر ايضا ان بعض المعدات كانت تصل اول بأول على طائرات روسية, وكنا تنتظرها في مكان الهبوط, وعلى الفور يتم النقل والتركيب.. كانت ملحمة بطولية رائعة تابعها عبدالناصر لحظة بلحظة حتى تم الانجاز وافتتح المشروع في موعده تماما. خبراء مصريين دخلت مصر هذا المشروع دون ان يكون هناك كوادر متخصصة في هذا المجال فكيف تغلبتم على ذلك؟ تم احضار كل الكفاءات من الجامعات المصرية في الاقسام العلمية, واعتمدنا في بدء الامر على الاستفادة من خبرة الروس, ومن جانبي كنت اتابع بعض الاسماء اللامعة اذكر منهم الدكتور عزت عبدالعزيز, وكان قد سجل وهو شاب لا يتجاوز الثلاثين اختراعا علميا في امريكا في مجال الذرة تحدثت عنه الاوساط العلمية هناك, وعلى الفور ارسلت له رسالة بعودته واختياره رئيسا لقسم (البلازما والمعجلات) وعاد الشاب.. وفي نفس الوقت ارسلنا اخرين للخارج للدراسة والتخصص, كما تمّ انشاء أقسام لدراسة الهندسة النووية في بعض جامعات مصر مما يعنى ان مصر عازمة على المضي قدما في المشروع. رسالة لإسرائيل * الى اي مدى ارتبط هذا المشروع في ذهن عبدالناصر بالصراع مع اسرائيل؟ ** كان له ارتباط مباشر خاصة وان معلومات توافرت لمصر آنذاك حول بدايات البرنامج النووي الاسرائيلي مما كان له ابلغ الاثر على عبدالناصر, ودارت مفاوضات سرية وقتها مع الروس لاقتحام هذا المجال. كيف كانت المفاوضات سرية, وفي نفس الوقت كما قلتم كان سيتم الاعلان عن المشروع في مؤتمر عالمي؟ كان الاعلان عن المشروع يحمل اكثر من مغزى, اوله توصيل رسالة الى اسرائيل خاصة وان قبل هذا بسنوات كانت قد شنّت غارات على غزة, فهم عبدالناصر من خلالها ضرورة امتلاك كل انواع الاسلحة وعلى الرغم من ذلك لم يكن الافصاح عن المشروع يحمل اعلانا عسكريا بل كان لاغراض مدنية.. بما يعني سد الذريعة امام الدول الغربية بأن مصر ستضع اسلحة نووية. وادي التكنولوجيا بدأت علاقة الثورة بالبحث العلمي بعد قيامها بأيام قليلة ولذلك حادثة طريفة يرويها د. صلاح هدايت قائلا: توجه الى مقر مجلس قيادة الثورة وفد عرب من وادي النطرون يحملون شكوى تقول ان المنطقة كان بها شركة اسمها (الملح والصودا) تقوم بتمويل كربونات الملح من منطقة جبلية هناك الى كربونات الصوديوم ثم الى صودا كاوية, ويتم تصنيع الصابون منها, وفي الحرب العالمية الثانية لم تكن الصودا الكاوية موجودة بكمية كافية للجيش الانجليزي فلجأ الى هذه المنطقة وظل يأخذ منها كل الصودا الكاوية بطرق مختلفة, وأدى هذا الاسلوب في النهاية الى تبديد هذه الثروة الطبيعية وتم اغلاق المصنع الذي يقوم بعمل كل مراحل التصنيع بعد اختفاء الخامات الطبيعية التي كان يتم الاعتماد عليها, ورغم المقاومة العنيفة من العمال ابناء المنطقة الذين كانوا يعيشون بفضله الا ان الأمن تدخل وتم تفريقهم بواسطة الشرطة... وقال الوفد: جئنا الى حكومة الثورة الجديدة لكي تبحث لنا عن حل بعيد ان ضاقت بنا الحياة.. استمع عبدالناصر اليهم باهتمام بالغ رغم انه لم يكن الرئيس آنذاك, بل كان في موقع وزير الداخلية, واخذ يناقشهم في احوال المنطقة وجغرافيتها, ويسألهم اسئلة من نوع, كيف يتم استخراج الكربونات, وكيف يتم تحويلها.. كانت اسئلة فنية لكنه كان يريد ان يعرف ليحدد من يصلح للقيام بالبحث في هذه المشكلة وحلها. طلبني عبدالناصر وشرح لي الموضوع وصدر قرار منه بتشكيل وفد يتكون من 20 ضابطا مهندسا, وبدأت المهمة التي لم تقتصر على إعادة تشغيل المصنع, وانما البحث عن سبل جديدة للحياة في المنطقة, وكان هذا نوعا من التحدى للطبيعة. ذهبت بطاقم المهندسين الى المنطقة, وتمت المعاينة على الطبيعة, وحددنا هناك المطلوب من وسائل للإعاشة كالماء والمواد الخام, ووسائل زراعية وتربية حيوانات اي قمنا بفحص المنطقة بالكامل بغرض الاعاشة فيها, وعما اذا كانت صالحة ام لا, وكان المنطق الأساسي والحاكم في ذلك هو عدم اكتفاء المنطقة بنشاط واحد فقط حتى لا يحدث لها في يوم من الأيام كما حدث لها على ايدي الانجليز.. عاد الضباط, وظلت في المنطقة شهرا ونصف ابحث عما حددناه نظريا وعلى الاوراق, وعدت ومعى تقريرا مفصلا عن المهمة بما فيها الامكانيات الجديدة لتشغيل المصنع واعادة خامات الكربونات, وذهبت لعبدالناصر وتركت له التقرير, وبعد ايام قليلة طلبني وناقشني فيما تضمنه التقرير, وكان الاطار العام للمناقشة معه هو كيف يمكن اجراء تجربة بحثية في المنطقة تكون نتيجتها استثمار كامل لإمكانياتها حتى يكون ذلك نموذجا لتكرارها في مناطق اخرى.. ثم اتصل عبدالناصر بالصاغ عبدالمنعم فريد وكيل وزارة الشؤون الاجتماعية, وقال له: صلاح سيذهب الى وادي النطرون مرة اخرى ويمكن يفضل فيها فترة وطالبه بتقديم كل المساعدات اللازمة لي وتقديم قروض مناسبة. مصانع محلية ماذا حدث في وادي النطرون بعد هذه المقابلة مع عبدالناصر؟ ذهبت الى هناك ومعى بعض الشباب استعنت بهم من الجيش وخاصة من الضباط المهندسين, كما استعنت بشباب اخرين من الجامعة وقررت عمل عشرة انشطة تكنولوجية حديثة تبدأ كلها في وقت واحد.. اولها صناعة الصودا واعادة تشغيل المصنع بكامل طاقاته, وصناعة الصابون بكل انواعه, واصبحنا نبيع منه بكميات هائلة.. وانتقلنا من هذا النشاط الى نشاط اخر وهو تحليل خامات الرمال الموجودة بالمنطقة, حتى توصلنا الى الرمال الصالحة لتصنيع الزجاج وعلى الفور اقمنا مصنعا لصناعته بدلا من الاعتماد السابق على مادة الجير الحي في صناعة الزجاج. وفي مجال الزراعة, بدأنا في زراعة الزيتون, والنخيل والخضروات, والعنب والموالح ونجحت بقوة, كما قمنا باستصلاح الاراضي وتجريب الزراعة فيها بالمحاصيل المناسبة وريّها بالرش, واقمنا مصنعا لحفظ الخضروات في علب زجاجية بدلا من العلب الصفيح التي حاصرنا الغرب برفض التوريد اليه بسبب هذا النوع من الصلب. انتهت كل هذه الحكايات والمواقف التي يرويها صلاح هدايت الى قرار عبدالناصر بعمل وزارة مستقلة للبحث العلمي, فيما يعنى تحويله الى جذر رئيسي لكل تطورات المجتمع العلمية والاقتصادية. يقول صلاح هدايت: كان عبدالناصر مؤمنا بالبحث العلمي الى ابعد الحدود لسبب بسيط هو ادراكه الواعي لعمق التخلف في مصر وضرورة القضاء عليه, وان ذلك لن يتم الا بايجاد بحث علمي وقاعدة مهمة له, لكي ندخل مرحلة جديدة في تاريخ مصر وقبل الثورة لم يكن في مصر بحث علمي بالمعنى الصحيح ربما كان يوجد علماء في الجامعات في اطار الدراسات الاكاديمية فقط وحتى اذا وجد بحث علمي لا يتم الاستفادة به نظرا لعدم وجود الحالة السياسية التي تقرر ذلك. وحين استدعاني عبدالناصر لابلاغي اختياري وزيرا.. قال لي: كل ما حققته يا صلاح في الماضي يستحق الفخر واريدك ان تكرر ما سبق ان قمت به في وادي النطرون من توفير الفرص البحثية لاقامة تكنولوجيا محلية تغنينا عن الاستيراد من الخارج.. وكان ما استوقف عبدالناصر في رحلتي شيء هام وهو ان كل المصانع التي انشأتها في وادي النطرون تمت بخبرة مصرية خالصة, وبمركب محلي وكان هذا يروق له كثيرا, وما اعتقده في انه اصعب مجالات البحث العلمي التطبيقي ويهرب منه بعض الباحثين. بدأت على الفور بعمل مشروع تنظيم علمي للدولة كلها وابلغت الرئيس ان هذا الجانب سيكون الاول في عملي, وطلبت منه ان لا أبدأ العمل بمعناه البحثي المعروف الا بعد اعداد هذا المشروع ووافق على الفور, ولم اترك بلداً بها بحث علمي او تنظيم الا واحضرت نماذجه من اوروبا وآسيا وامريكا, والكتلة الاشتراكية والرأسمالية وعكفت على دراسة هذه كل ذلك من زاوية معرفة فلسفتها ونظمها الدقيقة حتى اجد ما فيها مناسب لواقعنا وبالفعل تمخض هذا المجهود عن مشروع البحث العلمي للدولة والذي بدأ منذ توليت حتى الآن.

Email