كارثة الانفصال السوداني: بقلم -علي حمد ابراهيم

ت + ت - الحجم الطبيعي

لعل اخطر أخطاء نظام الحكم الحالي في السودان الخلط بين برنامج الحزب وبرامج الأمة السودانية او تذويبهما في بعضهما البعض. فقد ظل برنامج الامة السودانية على الدوام هو المحافظة على وحدة اراضيها ووحدة مشاعر ووجدان شعبها حول اساسيات وجود الأمة والوطن. فقد كان يصعب على اي كائن من كان ان يظهر شعورا موافقا على تفتيت الامة وتشرذمها لاي سبب من الاسباب. واذكر في هذا السياق الحملة الصحفية الشعواء التي قادتها الصحف السودانية بجميع مشاربها السياسية ــ مستقلة ــ وحزبية ــ قادتها ضد حسن محجوب مصطفى وزير الحكومات المحلية في حكومة المحجوب التي كونها جناح الامام الهادي من حزب الامة مع الحزب الاتحادي بزعامة اسماعيل الازهري ــ رحمهم الله جميعا ــ وكانت جريمة الوزير الكبرى في نظر الصحف انه قال اثناء نقاش في البرلمان عن مشكلة الجنوب, قال ان الجنوب سوف ينفصل في نهاية الامر شئنا ام ابينا! فكان ان خرجت جميع الصحف في اليوم التالي وهي تحمل عناوين تدين الوزير الانفصالي. وكانت الحملة الصحفية من القسوة بمكان ضد الوزير الذي صمد على رأيه, فكان ان تحول الغاضبون عليه من الغضب الى الحزن: أن يصبح في مقدور شخص سوداني بمرتبة وزير ان يصبح في مقدوره ان يذكر حتى مجرد كلمة انفصال كحل لمشكلة الجنوب! ويبدو ان قوة الشعور الوطني في التمسك بالوحدة وبالجنوب مرده ــ بالاضافة الى أسباب اخرى كثيرة ــ مرده الى ان الجنوبيين انفسهم لم يكونوا يبدون اي حرص فعال للانفصال عن اخوانهم في الشمال. فاكثر ما كانوا يطالبون به هو الفدريشن او الفدرالية او الحكم الذاتي وكانت تلك المسميات عبارة عن طلاسم للرجل العادي في الشارع الذي لم يكن يهتم بها طالما انها لا تعني الانفصال. وتبدى حرص الشارع السوداني على الوحدة السياسية والجغرافية في ان مشكلة الجنوب كانت هي المقبرة التي دفنت جميع الحكومات المتعاقبة بصورة مباشرة او غير مباشرة تستوي في ذلك الحكومات العسكرية والحكومات الديمقراطية. ومنذ اندلاع هذه المشكلة في السودان عقب احداث تمرد توريت في اغسطس 1955 وحتى اليوم كانت معالجات الحكومات العسكرية لها معالجات قاصرة لانها كانت تنظر الى الشق العسكري لها من أنها عبارة عن تمرد يقوم به خارجون على القانون. لا قضية لهم غير الخضوع لاملاءات الاجنبي. لذلك فقد اتبع هؤلاء العسكريون الذين حكموا السودان حتى اليوم اثنين وثلاثين عاما من جملة الاثنين واربعين عاما هي عمر السودان المستقل اتبعوا سياسة الارض المحروقة على عهد الجنرال الاول ابراهيم عبود حيث كانت الهجمة العسكرية على (الخوارج الخونة!) لا تستثني شيئا اتت عليه الا وجعلته كالرميم من مشروعات بنية تحتية اساسية, ومنشآت تنمية, وكل متحرك فوق سطح الارض تقع عليه أعينهم! أما الجنرال نميري فقد دخل التاريخ السياسي السوداني الحديث بعقد اول اتفاقية سلام دامت عشر سنوات نعم فيها السودان بالهدوء والسلام الحقيقي, ولكنه وفي لحظة نزوة سياسية مدمرة, آثر ان يخرج من التاريخ ايضا وذلك حين داس بحذائه الغليظ على انجازه الوحيد الذي لا يختلف السوادنيون حول حيويته. وحين رفض السودانيون الجنوبيون الغاء الاتفاقية من جانب واحد, حين فعلوا ذلك حمل الجنرال نميري سلاحه ودخل في حرب جديدة ضدهم مضحيا بعشر سنوات من السلام كان السودان في حاجة ماسة الى استدامتها لا تدميرها! وكانت النتيجة ان اضطربت أحوال السودان, وجاع أبناؤه في الجنوب وفي الغرب وفي الشرق وفي الوسط, فوصل الجياع في هجرتهم الى العاصمة, واحاطوا بها كما يحيط السوار بالمعصم, وما هي الا أشهر حتى طردوا الجنرال الذي من اطمئنانه كان يردد انه لا يستطيع احد ان (يشيله!) ولكن الشعب (شاله!) في لحظات من انفجار غضب الشارع الشعبي في يوم السبت من ابريل الانتفاضة! أما الجنرال البشير, فقد كان اكثر مودة لاهل الجنوب في أول عهده, حيث خدرهم باحلام الوفاق, حتى اذا استوى أمره واشتد عوده لم يفاجىء فقط السودانيين الجنوبيين إنما فاجأ اخوانهم في الشمال والعالم اجمع باعلان الجهاد على جزء من شعبه باعتبارهم كفارا, واخذ يسير الحملات الحربية تحت مسميات الجهاد وأناشيد الاستشهاد ولم يترك اسما من اسماء الصحابة الاجلاء الا واتخذه رمزا للقتال والاقتتال والاحتراب! كأن تلك هي الغاية الوحيدة التي جاء من اجلها الاسلام! او تلك المأثرة الوحيدة التي خلفها عظماء الاسلام من امثال عقبة بن نافع وابو دجانة ونسيبة والفاروق وغيرهم من الذين اتخذت اسماؤهم معلما حربيا ضد ابناء الوطن في الجنوب! ولكن ورغم كل ذلك الحماس, ورغم رايات الجهاد المشرعة, فان الامر لم يمض الى غايته المرجوة. بل حدث العكس تماما! فالمدن التي سقطت اليوم في يد قوات جون قرنق هي أضعاف تلك التي سقطت في يده في السابق! بل ان قوات قرنق ولاول مرة في تاريخ هذا الصراع تحتل مدنا في الشرق ويتمسك بها منذ يناير 1996 وفيها مدن هي عواصم لمحافظات مثل مدينة الكرمك. الا ان الاخطر من هذه الانتصارات العسكرية التي حققها الجيش الشعبي, الاخطر هو التنازل عن الشعارات والاهداف التي من أجلها أزهقت ارواح كثيرة وهدمت ثروات الامة. ولقد وصل التنازل اخر المدى والمتمثل في الدخول في اجراءات تمهيدية لفصل الجنوب! ان الجنرال البشير دار دورة طويلة وقاسية ليصل الى هذا الهدف الذي لا يدري أحد ان كان الجنرال يعلم أنه كان يسعى الى تنفيذه بعلمه او بدون علمه! هل يحتاج اي انسان الى ان يكرر القول ان آلاف من ابناء الامة ازهقت ارواحهم (سمبلة!) كما يقول السودانيون الجنوبيون في الاقليم الاستوائي بمعنى (هدرا!) وكما كانت مشكلة الجنوب هي القشة التي قصمت ظهر النظامين العسكريين اللذين حكما السودان.. لاكثر من اثنين وعشرين عاما قاسية, فان مشكلة الجنوب هي التي تسبب اليوم ازمة النظام الحالي الحادة. فاطراف البلاد تتآكل في الشرق والجنوب وفي جنوب النيل الازرق وفي الشمال. وفي غرب السودان تتعارك القبائل العربية مع القبائل ذات الجذور الافريقية باسلحة احدث من اسلحة الجيش بشهادة المسؤولين الحكوميين في المنطقة! وازاء هذا الوضع المتفجر فكر النظام ان ــ يتخارج ــ على لغة السودانيين ــ من حكاية الجنوب المكرورة وذلك بترك الجنوب وشأنه! بمعنى آخر: قبول انفصال الجنوب عن الشمال تحت ستار مفاوضات تقرير المصير الذي يعتقد كثير من السودانيين ان مصيره قد تقرر بالفعل في اول يناير 1956 عندما قبل ابناؤه بالوحدة مع الشمال على أمل الحصول على نظام فدرالي كانوا يسمونه الفدريشن لقد بدأ النظام الحالي مسألة اللعب بالنار في يوليو 1992 عندما ارسل الدكتور علي الحاج بحقيبته المشهورة الى فرانكفورت الالمانية ليعرض على مجموعة رباك مشار ولام اكول فكرة تقرير المصير. لقد كان هدف النظام الآني هو احداث انقسام في الحركة الشعبية بقيادة قرنق, لان قرنق وكبار قادة الحركة الآخرين, يؤمنون بالوحدة وبالسودان الجديد الديمقراطي العلماني. بينما مجموعة مشار ولام اكول هي المجموعة الانفصالية الواضحة في برامجها السياسية التي تريد فك جميع الارتباطات مع الشمال. ولقد حدث الانقسام بالفعل. ونجح مخطط الحكومة في اضعاف الجيش الشعبي مؤقتا. ولكن ذلك النجاح كان باهظ التكاليف فقد اعطت الحكومة كرتا سياسيا خطيرا للجيش الشعبي هو كرت تقرير المصير الذي اصبحت الحركة السياسية السودانية مجبرة الآن على التعامل معه والاعتراف به بعد أن تبنته منظمات اقليمية مثل منظمة الايجاد ومعها أصدقاؤها الكبار, الولايات المتحدة وبريطانيا وايطاليا! ان اي نكوص عن تقرير المصير تقدم عليه أطراف سودانية شمالية في اي محادثات بشأن تكييف الوضع النهائي للجنوب السوداني بعد الآن يدمر اي مصداقية لتلك الاطراف واي مصداقية بقيت للحركة الشعبية. ذي مخاطر جسيمة على الجميع صحيح ان النظام لم يكن يأبه لخطورة ما اقدم عليه في فرانكفورت في يوليو 1992 من عرض تقرير المصير على رياك مشار ولام اكول, لانه لم يكن يمانع ومازال في اي النتيجتين حقق من ذلك العرض , انقسام الحركة او حصولها على تقرير المصير, فهو يصب في اهدافه الانية والبعيدة ولابد من الاشارة هنا الى تصريح وزير الخارجية السوداني الذي لم يقشعر شعر رأسه وهو يعلن علينا ترحيبه بدولة الجنوب المستقلة والجارة الصديقة! ماذا بقى لاي محلل من اضافة ؟! لقد تعاملت الحركة مع التجمع والحكومة ــ الطرفين الشماليين ــ بكثير من الانتهازية فقد وقعت معهما مواثيق واتفاقيات تضمن لها في جميع الحالات تحقيق اهدافها البعيدة والقريبة ولم تهتم لحالات التناقض التي وقعت فيها وهي توقع على مواثيق تتعارض ويصعب الايفاء بها في وقت واحد ولكنها فعلت مافعلت على سبيل لاتسأل ولا تجيب طالما ان الحكومة والمعارضة لم تسألا عن ذلك الخلل الواضح في مواقفهما!! ان الحديث ذو شجون ولكن على المنظمة والحكومة ان يعلما ان فصل الجنوب ليس نزهة يقوم بها طرفان لا يمثلان لا الشمال ولا الجنوب اما الاستفتاء فانه لن يمر من تحت ارجل مئات الآلاف من ابناء القبائل العربية التي تعيش في الجنوب بثرواتها الحيوانية الضخمة وواهم من يعتقد ان الاستكرات السياسي يمكن ان يكسب الجولة لان نواطير عازة قد نامت عن ثعالبها كما يظن اهل النظام والحركة معا. اننا نقول نعم لاستفتاء يأتي بعد فترة نقاهة سياسية يعيشها الشعب السوداني في الجنوب تبنى فيها من جديد صروح الثقة التي هدمها (الجهاد) ونجد انفسنا ملزمين بعد ذلك باحترام قرار اخواننا في الجنوب ومعهم كل الذين يعيشون في الجنوب كمواطنين سودانيين يتساوون في الحقوق معهم. وبخلاف هذا فان الاوهام لا تقود الا الى السراب. سفير سابق: مقيم في واشنطن*

Email