تقارير البيان: هاجس طالبان يثير مخاوف الماليزيين

ت + ت - الحجم الطبيعي

قد يكون طغيان انماط الحياة العصرية والمفاهيم المادية التجارية وانتشار تعاطي الكحوليات في العاصمة الماليزية (المتمدنة) كوالالمبور هي ما دفعت الحكومة الاسلامية في ولاية كيلانتان النائية الى المطالبة بتطبيق الشريعة الاسلامية كمنقذ اخير ووحيد من شيطان المادية الغربية . في كوتابهارو عاصمة كيلانتان القريبة من الحدود مع تايلاند, يبدو جليا ان مشروعات التنمية الماليزية لم تفلح في تقريب الفجوة الحضارية (الكبيرة) بين هذه المنطقة والعالم المتحضر. كيلانتان هي افقر ثلاث عشرة ولاية تتكون منها دولة ماليزيا, ويشعر سكانها كما لو انهم سقطوا من ذاكرة النظام الحاكم في كوالالمبور. وكما هي الحال في باقي الولايات الماليزية, فان سكان كيلانتان ينتمون الى اعراق وثقافات متعددة لكن الاغلبية منهم يعتنقون الديانة الاسلامية. واليوم تحاول السلطات المحلية في الولاية البائسة ان تفرض نظاما دينيا صارما يستلهم الشريعة الاسلامية, وهي محاولات ــ ان نجحت ــ سوف تؤدي في النهاية الى الاصطدام بجهود التحديث والانفتاح التي تبذلها الحكومة المركزية بقيادة مهاتير بن محمد. في كل صباح من ايام الجمعة, يكون عمر اول الواصلين الى ساحة سري سيمير جانج في قلب كوتا بهارو حيث تقام مسابقات غناء الطيور التي تجتذب اعدادا هائلة من النظارة. ينتقي الرجل العجوز موقعا استراتيجيا في الساحة الاحتفالية ويقوم بتعليق قفصيه على سارية, ثم يعود خطوات الى الخلف يترقب بقلق ما اذا كانت اليمامتان اللتان يشترك بهما في المسابقة سترفعان رأسه وتصدحان بالغناء حين يقف امامهما القضاة ام لا. ويوضح عمر سبب قلقه مبتسما (احيانا لا تصدران حتى صوت همس... وفي احيان اخرى تنتزعان الآهات بشدوهما, فنكسب الجائزة ونفوز بمكواة كهربائية او بمروحة صغيرة) . وقبل حلول الحادية عشرة, يأخذ عمر القفصين ويغادر واصحابه ــ بعضهم من الهنود والصينيين ــ متوجهين معا الى احد المساجد لاداء صلاة الجمعة وعندما تراقبه وهو يستمع لشدو طائريه الجميلين, ترى نفس الطيبة والسماحة التي تطل من عيون المسلمين في آسيا. لكن في كيلانتان, نال الزمن للأسف من طبيعة الماليزيين المرحة المسالمة, وبات من الصعب ــ يوما بعد آخر ــ ان تجد الكثيرين من امثال عمر. واذا ما سارت الحكومة المحلية على هدى نظام طالبان في افغانستان فالمتوقع ان تزداد الاوضاع تعقيدا ومأساوية في الولاية الماليزية المدقعة في فقرها. ولأن سلاسل الجبال العظيمة تفصلها تقريبا عن بقية الاراضي الماليزية, كان لولاية كيلانتان اتصالات ــ حضارية وتجارية ــ بالولايات الاربع الجنوبية في تايلان (وهي ولاية مسلمة ايضا) افضل من تلك التي تربطها بالحكومة المركزية في كوالالمبور. والارقام تؤكد ان نسبة المسلمين في كيلانتان اعلى من نسبتهم في باقي الولايات الماليزية, اذ يمثل المسلمون فيها 93 في المائة من بين مليون وثلاثمائة الف شخص يعيشون في الولاية. كما ان كيلانتان هي الولاية الوحيدة التي خرجت عن طوق الجبهة الوطنية التي تشكل الائتلاف الحاكم في ماليزيا منذ استقلالها في العام 1957. في كوتا بهارو يشغل الحزب الماليزي الاسلامي خمسة وعشرين مقعدا من اصل اربعة وثلاثين هي اجمالي عدد مقاعد البرلمان المحلي في الولاية. وقد وصل هذا الحزب الى السلطة في العام ,1990 واحكم قبضته عليها في انتخابات عام 1995. ولدى الحزب الاسلامي خطة عمل واحدة, يشرحها محمد يوسف المسؤول الاعلامي لحاكم الولاية قائلا (نريد ان نجعل من كيلانتان مكانا يستطيع ان يعيش فيه المسلمون وفقا لما جاء في القرآن الكريم) . وعلى مدى السنوات الثماني السابقة, اصدر الحزب الماليزي الاسلامي فتاوى عدة بشأن مجموعة من القضايا الاخلاقية, وفي شوارع كوتا بهارو ينتشر ارتداء الحجاب الاسلامي بين نساء وفتيات المدينة اللاتي ينصحن ايضا بعدم المبالغة في استخدام احمر الشفاه, وحتى الامور الحياتية اليومية تخضع لفتاوى أو قرارات من قيادة الحزب, فمثلا فرض على محلات السوبر ماركت في كيلانتان ان تخصص طوابير للنساء منفصلة عن طوابير الرجال, بينما حظر تماما التصريح بصالونات كوافير للرجال والنساء معا, كما منعت اقامة مسابقات ملكات الجمال أو مسابقات كمال الاجسام, واحدث قرارات كيلانتان: ان تظل انوار القاعات مضاءة في دور السينما طوال مدة عرض الافلام. وبالطبع اغلقت الحانات في انحاء الولاية وكذلك المراقص حتى فنادق الخمس نجوم, وعن ذلك يقول مطرب صيني يعمل في فنادق كينسانا في كوتا بهارو (خلال الاشهر الستة الماضية بدا كل شىء مهددا بالتوقف, كان لدينا سبع مغنيات من جزيرة بينانج يغنين فقط للزبائن غير المسلمين, لكنهم اصروا على منعهم من الغناء في الفندق, ثم جاء دور الموسيقى, والان بدءوا يعربون عن تذمرهم من نظام الاضاءة الملون, بحجة انه يثير جوا مبالغا فيه من البهجة. حتى الاحتفالات تخضع في كيلانتان لمحاذير صارمة, وبعض العروض الماليزية التقليدية ذات الطابع الهندوسي (مثل عرض العرائس المتحركة المعروف باسم وايانج كوليت) توقف نشاطها المتنقل بين القرى كما كان الحال من قبل, وكذلك الشاطىء الريفي الطابع الذي كان معروفا باسم (شاطىء الغرام) الذي يبعد عشرة كيلومترات شمال العاصمة, تم تغيير اسمه إلى (شاطىء ضوء القمر) ,. سليمان اسماعيل مدير ادارة السياحة في كيلانتان يدرك ان الولاية فقيرة في مصادر جذبها للسياح, لكن ذلك لا يمنعه ابدا من شرف محاولة تشجيع الزائرين على التوجه إلى المنطقة التي تحمل روح التراث الماليزي العتيق, فيقول (المكسرات التقليدية والطائرات الورقية ومهرجانات الطبول, ليس كافية بالطبع لاقناع السائحين بالتوافد إلى هنا, الحقيقة ان عدد زوار كوتا بهارو لا يتجاوز عشرة آلاف في العام الواحد, اغلبهم من الماليزيين المغتربين الذين يعملون في تايلاند ويعبرون الحدود لتجديد التأشيرات فقط. ويضيف احد اصدقاء جاك الصينيين (نحن نشهد تحولا تدريجيا في الولاية إلى نظام الدولة الاسلامية, حتى هذه اللحظة, التحول يتم عبر احكام لا نراها بالضرورة مقيدة أو سلبية, لكننا نخشى ان تمهد هذه الاحكام الطريق امام مزيد من القوانين الدينية المتشددة. لكن ثمة حوادث تكررت خلال الاشهر القليلة الماضية لتنقل رسالة تحذيرية من ان ظاهرة التطرف لم تعد تنمو داخل حدود كيلانتان فقط, وانما بدأت تظهر دعاواها في ارجاء اخرى من ماليزيا. ففي يوليو الماضي ألقي القبض على ثلاث فتيات صغيرات بتهمة ارتكاب (فعل فاضح) وذلك لاشتراكهن في مسابقة لملكات الجمال في ولاية سيلانجور. وكان رد الفعل سريعا من جانب مارينا مهاتير ابنة رئيس الوزراء الماليزي, فكتبت تتساءل في عمودها اليومي بجريدة ستار (هل تسللت حركة طالبان إلى البلاد؟ في أجزاء أخرى من العالم, يعتنق العديدون الاسلام لانه دين سمح يقوم على مبادئ العدالة والمساواة بين البشر.. وبين الرجل والنساء. أما هنا.. أين الوجه الجميل للدين الاسلامي؟) . وفي الشهر التالي لحادث الفتيات الثلاث, أصدرت إدارة سرواك للشؤون الدينية قانونا يحظر اقامة مسابقات كمال الأجسام. وفي ولاية جوهور أيضا بدأت السلطات المحلية النظر في تطبيق نفس القانون. وفي تيرينجانو تلقت الفنادق السياحية أوامر باقامة أحواض سباحة للرجال منفصلة عن تلك المخصصة للنساء. لا شك ان ماليزيا ما زالت مكبلة بالاطر القانونية البالية التي ورثتها عن عهد الاستعمار. حيث يطبق حاليا نظامان قضائيان: قضاء مدني مركزي, ونظام محكمة اسلامية يختلف من ولاية إلى أخرى. والقضاء الاسلامي يختص أكثر بقضايا الاسرة والموضوعات الاجتماعية مثل الزواج والطلاق وحضانة الأطفال. ومع تسارع الأحداث في الصيف الماضي, أمر رئيس الحكومة الماليزية مهاتير محمد بتشكيل لجنة تكون مسؤولة عن توحيد القانون الاسلامي في كل الولايات, وكذلك عن تحديد ضوابط واضحة لسلطة رجال الدين في المسائل المدنية. لكن هذا لا يمنع أن المخاطر باتت تحدق أكثر بحكومة مهاتير (خاصة إذا أخذنا في الاعتبار النكسة الاقتصادية التي تتعرض لها البلاد منذ انهيار الأسواق المالية في شرق آسيا), لان عليها أن تحافظ أكثر من أي وقت مضى على ذلك التناغم والتعايش بين الطوائف العرقية والدينية المختلفة في ماليزيا, وإلا تكررت أحداث العام 1969 حين تحول الصراع الطائفي إلى أعمال شغب واضطرابات تفجرت في أنحاء البلاد وقتل خلالها أكثر من ألف ماليزي من أصل صينية. ومنذ ذلك الوقت, والحكومات الماليزية حريصة كل الحرص على ابقاء الغطاء محكما على وعاء النزاعات الدينية والعواطف العرقية. ورغم كل شيء فان كيلانتان بنسماتها الاستوائية وطقسها الدافئ تظل مكانا جميلا جديرا بالزيارة, وتظل الاقامة فيها آمنة وبعيدة عن مظاهر التعصب الديني. فالنساء لهن الحرية في ارتداء ما يشأن من ملابس تقليدية وعصرية بألوانها الزاهية. والجميع يمارس حياته اليومية بمنتهى الحرية, وحتى الآن لم تأخذ محال السوبر ماركت فتوى الفصل بين طوابير الرجال والنساء مأخذ الجد. لكن هذا لا يمنع أن نفوذ الحزب الماليزي الاسلامي واضح وملموس في أنحاء الولاية الفقيرة. وفي أيام الجمعة تتحول الساحات المحيطة بمراكز الحزب إلى تجمعات للصلاة, ولبيع شرائط القرآن والأحاديث الدينية. وفي التاسعة والنصف صباحا من كل يوم جمعة يصل رئيس الحكومة المحلية نك عزيز نيكمات في سيارته المرسيدس ويصعد الدرج ليخطب في الجموع المحتشدة بصوته الجاد الوقور. يحث المصلين على العودة إلى التمسك بالقيم الاسلامية التي داستها آلة التمدن الماليزية. وكثيرا ما يعلن مشددا ان جميع المشكلات الاجتماعية مثل الاغتصاب وتعاطي المخدرات وهجر الأطفال وانحرافهم إنما مردها إلى اهتمام النساء بالتبرج واستخدام أدوات الزينة والماكياج على حساب رعاية أسرتها. كما ان رسالة الحزب الماليزي الاسلامي تبدو صريحة وواضحة عبر الجرائد التي يصدرها, وقد تصدر مانشيتات إحدى الاعداد الأخيرة من صحيفة تدعى (الحركة) افتتاحية تقول (مصطلح الاسلام المعتدل يبدو مضللا ومتناقضا.. والقرآن لم ينزل لكي نخضعه لتطورات التمدن وقواعد ما يسمى بالعصر الحديث) . وورلد نيوز لنك كوتا ـ بهارو ـ بيير باكود

Email