السودان بين حرب الراجمات وغيبوبة الدستور: بقلم- محمد الحسن أحمد

ت + ت - الحجم الطبيعي

من المفزع حقا ان الاوضاع في غرب السودان قد تجاوزت الصراعات القبلية المحدودة الى حرب تشن على الحكومة بمستوى يهدد وحدة البلاد ويكشف عن عجز شنيع من الحكومة في مواجهة مسؤولياتها ازاء تلك الرقعة المهمة من السودان. فقد وصف عضو المجلس الوطني أحمد يوسف عبدالله في تصريحات صحفية نشرت في الخرطوم (ان دارفور تحارب حكومة الخرطوم وتتصدى للقوات الحكومية براجمات الصواريخ والأسلحة الكيماوية وأشار الى ان الاحداث الدامية التي جرت خلال الاسابيع القليلة الماضية وما خلفته من دمار في 52 قرية كانت تقطنها قبائل المساليت ذات الاصول الافريقية. وان جملة الخسائر تجاوزت المليار ونصف المليار جنيه سوداني. وان جميع تحركات المسؤولين في الحكومة لا تتم الا مصحوبة بقوات أمنية ومع ذلك فإن بعضها يتعرض لهجمات المسلحين, وقال: ان الاسلحة المتوفرة في ايدي القبائل تشمل جميع الأنواع المتطورة من راجمات للصواريخ وصواريخ الفان والأسلحة الكيماوية!) . وما كان بوسع الحكومة ان تتستر على ما يجري في غرب السودان بعد ان كانت قد اعلنت في وقت سابق حالة الطوارىء هناك, بل قررت ارسال قوات من الجيش لما وصف بتفعيل حالة الطوارىء وبسط الأمن وفرض هيبة الدولة, ما يعني الاعتراف بأن الأمن منفرط وان هيبة الدولة لا جود لها! واذا كان تحرك القوات المسلحة الى المنطقة جاء عقب تصريحات النائب البرلماني, فإن سكوت الحكومة على نوعية الأسلحة التي بأيدي المقاتلين والتي وصفها بأنها ضمنها راجمات الصواريخ وأسلحة كيمائية وجميع الأسلحة المتطورة يعني ان الحرب ستكون مدمرة وان القوات المسلحة قد تعجز عن وضع حد لها, علما بأنها تقاتل في الجنوب وفي الشرق والآن تتجه غربا وفي هذا انهاك لقواها التي مزقها النظام اصلا! كما انها تواجه بأسلحة قد لا يتوفر مثلها لديها مع جهلها من اين جاءت تلك الاسلحة؟! ولقد تزامن اعلان الفريق البشير عن ارسال قوات الى غرب السودان مع تصريحات منه ومن قيادة اركان القوات المسلحة تتحدث عن حشود عسكرية على طول الحدود اليوغندية والاريترية لشن هجمات على السودان وان مدينة جوبا كبرى المدن الجنوبية مستهدفة من قوات قرنق, وان هذه الحشود مدعومة من الجيشين اليوغندي والاريتري بهدف اسقاط النظام في الخرطوم تنفيذا لمخطط امريكي ترافق مع زيارة الرئيس الامريكي كلينتون لأفريقيا ولأوغندا المجاورة بالذات. وان خطط الهجوم والسقوط مرسومة بحيث تستبق المفاوضات المفترض ان تجرى بين الحركة الشعبية والحكومة خلال هذا الشهر في نيروبي! هذا كله وأكثر منه ورد في تصريحات وبيانات من عدد كبير من المسؤولين ونكاد نسمعه مكررا وبأشكال مختلفة يوميا, واذا جاز لنا ان نفترض صحة كل أو بعض هذه الاحتمالات فإن السؤال الذي يتبادر الى الاذهان هو: ما هي المرتكزات التي اعدتها الحكومة لمواجهة الموقف على ا لصعيدين السياسي والعسكري؟. على الصعيد السياسي دعا الترابي المجلس الوطني الى دورة استثنائية لمناقشة واقرار الدستور وقدم مسودة كانت مخبأة غير تلك التي أوصت بها اللجنة المكلفة بالأمر مما اثار انقساما ورفضا حتى من قطاع كبير من الموالين للجبهة بسبب ابعاد المواد التي تكفل الحريات والحقوق التنظيمية وحالما أجاز المجلس المسودة التي كانت مخبأة فضت دورة انعقاده دون ان يناقش كل هذه المهددات الامنية والتي ترقى الى اسقاط النظام. والأدهى من ذلك كله كان تمرير مسودة الدستور بتلك الكيفية وفي ذلك الجو العاصف بالتوترات سببا في قطع الطريق أمام كل أمل في التفاهم أو الوفاق بين النظام والمعارضة, لأن كل العقلاء كانوا ينادون بارجاء وضع الدستور الى ما بعد الاتفاق أو الوفاق, لهذا اعتبر الجميع اصرار الترابي وزمرته على وضع دستور أحادي الفكر والتوجه هو من قبيل الرفض المطلق لأي تفاهم مع اهل السودان خاصة ان الدستور كرس شمولية الحكم وكرس عزلة النظام. وبالتالي فإن الواقع يقول, اما ان يكون النظام في حالة غيبوبة عما يدور ويدبر حوله من مؤامرات وتفكك وشلل تتداعى منه اطراف السودان في جنوبه وشرقه وغربه طبقا لتصريحاته المتلاحقة التي تردد ذلك, او انه بلغ مراحل متدنية جدا من اليأس الى درجة لم يعد يهتم بما يحدث للسودان او قد يصيبه هو من هوان قانعا بحكم العاصمة المثلثة! أما اذا كان النظام بكامل وعيه ورشده ولديه أدنى احساس بالمسؤولية ازاء السودان لتسارعت خطاه نحو كل ما يجمع اهل السودان ولتراجع عن كثير من مواقفه الحمقاء, وأولها مناقشة امر الدستور في الوقت الحاضر عوضا عن اغراق الناس الموالين له في كلمات مثل (التوالي والتتالي) وهل تعني التعددية أم التبعية الى آخره بينما الكيان نفسه مهدد بالسقوط؟!, وكان عليه ان يتحلى بقدر من الشجاعة ويعلن ان المخاطر التي تهدده لا قبل له بها وأنه تسبب فيها ويريد ان يتواصى الجميع على ازالتها حتى لو أدى الامر الى زواله من السلطة لأن السودان هو الابقى. لكنه للاسف اخذ يدق الطبول لكأن تمرير وفرض تلك الوريقات التي تسمى بالدستور هي نهاية المطاف وبها ستحل كل مشاكل السودان المعقدة الى درجة ردع الجيوش الزاحفة نحوه أو الصراعات الدائرة فيه بالصواريخ والراجمات! بينما النظام يفتقر حقيقة الى عدة السلاح واعداد الرجال. والغريب ان الترابي مازال يتلهى بالدستور حتى بعد ان اجازه برلمانه فقد قال بالامس: (ان الدساتير السابقة في السودان فشلت لاعتمادها على التجارب الخارجية والتي لم تستمد من قيم وموروثات الشعب السوداني مؤكدا ان الدستور جاء بلغة الشعب الذي لا يعترف لأحد ولا يوالي اجنبيا ولكنه يتوالى) . لقد اعجب الدكتور بالتلهي بكلمات يوالي ويتوالى فأخذ يواصل تكرارها ويدعي في نفس الوقت انها لغة الشعب وان دستوره خاتمة المطاف في الحلول المرتجاة للسودان! مع ان الكل يشهد بأن صياغته جاءت بعيدة عن لغة الشعب وعصية الفهم حتى على الرصيد المثقف ومشحونة بالالفاظ الغريبة والمبهمة وليس فيه ما يستحق ان ينسب الى موروثات الشعب او قيمه بل فيه كل ما يتعارض مع تسامحه وشغفه بالحرية. ومثلما ان الدكتور الترابي لا يمل التغزل بدستوره والذي ما انفك يتحدى به دساتير ارقى الامم الديمقراطية فإن بعضا من اهل النظام مازالوا يتوهمون انه بوسعهم احياء فكرة المناورة بالحديث عن الوفاق فقد نقلت صحيفة (الرأي الآخر) عن (مصادر موثوقة) ان جهودا سياسية مكثفة يقوم بها عدد من الشخصيات القومية والمرموقة والتي تحظى بقبول واسع بين قطاعات الحكومة والمعارضة معا وذلك بهدف اكمال مصالحة وطنية شاملة وحاسمة للصراع السياسي في السودان. ومضت الصحيفة الى القول ان تلك الاتصالات تكللت مبدئيا بالنجاح حيث وجدت المباركة والتأييد من ابرز القيادات الحكومية والمعارضة بالداخل. وتوقعت (الرأي الآخر) صدور تكليف رسمي لشخصية قومية محددة ابتعدت طويلا عن العمل السياسي لتقوم بذلك الدور وهذه الشخصية تتمتع بقبول وسط الحكومة والمعارضة بشقيها الشمالي والجنوبي. وقد تقرر سفر وفد مصاحب رفيع المستوى الى القاهرة وستكون مفاجأته ضم عناصر اتسمت معارضتها الداخلية من قبل بالحدة والتشدد مما يعطي مؤشرا قويا (للاتفاق الكامل حول هذا الجهد كما يضم بعض الشخصيات الجنوبية. ونوهت الصحيفة: ان وراء هذا الجهد مجموعة من الشباب الوطني الخيّر الذي سما فوق المصالح الحزبية والشخصية وقدم هذا الجهد وهو يقف في الظل دون تسليط الضوء عليه.) من حق كل مدقق سياسي ان يتشكك كثيرا في كل ما نقلته صحيفة (الرأي الآخر) أولا: من فرضية انها تمثل الرأي الآخر مهما ابتعدت او اقتربت المسافة بينه وبين رأي الحكومة لأن ما يهم هو رأي القوى الحاكمة (السوبر تنظيم) وهؤلاء رأيهم معروف عبرت عنه افعالهم بشكل قاطع في تسيير التظاهرات ورفض التعددية والاصرار على اجازة الدستور بتلك الطريقة الاستفزازية الاستبدادية. ثانيا: ما نقلته الصحيفة لم ينسب الى مصادر معروفة بالاسم وثالثا: وضعت الذين يقفون وراء هذا الجهد في الظل هم شبان سمو فوق انتمائهم الحزبي ما يعني انه على احسن الفروض محاولة لتبديل جهد الشيوخ امثال د. حسين ابوصالح بجهد شبان لكأن تغيير الوجوه والاعمار قد يعني تغييرا في التوجهات! ورابعا: من باب التجديد ايضا اشتمل ,ما روته (الرأي الآخر) عن اختيار شخصية ابتعدت عن العمل السياسي منذ زمن طويل وهي تجد قبولا من المعارضة والحكومة والجنوبيين ايضا خامسا: تلك الشخصية مصحوبة بشخصيات من المعارضة الحقة تتوجه الى القاهرة قريبا للحديث مع المعارضة طبعا. وهذا ليس هو المهم بل الاهم ان يتبلور الامر مع اهل السلطة يعترفوا بالفشل وتحنيط دستورهم وقبولهم بالمبادىء الاساسية المتعارف عليها عالميا وانهم يقبلون بتغيير الحكم من قبضة الجبهة الى حكومة قومية انتقالية وما الى ذلك من خطوط اساسية ثم بعد ذلك يجيء التفكير في ارسال وفد لمخاطبة المعارضين. وفي غيبة هذه الابجديات فإن الامر لا يعدو ان يكون مواصلة للمناورات السابقة بوجوه جديدة وأساليب مغايرة, بهدف كسب الوقت وتمرير الألاعيب التي ابتدعها النظام من قبل. ولعلهم هذه المرة يظنون ان القاهرة قد تكون أكثر المحطات لانطلاق زخم اعلامي يمكن توظيفه في عمليات علاقات عامة لعام آخر في ضوء المستجدات التي تشهدها علاقاتهم مع الشقيقة مصر! ولكن هذا لن يحدث اطلاقا, لأن كل الحيل قد استهلكت وعليهم ان يقدموا ما عندهم من متغيرات قبل ان تنطلق الوفود باتجاه القاهرة وأن تتوقف حالات الغيبوبة المنغمسة في التسبيح بحمد الدستور وما يسمى بالمشروع الحضاري. صحفي سوداني مقيم في لندن*

Email