المحظوظون الهاربون من الحصار يعتبرونه ترانزيت: 150 ألف عراقي في الأردن يقاسون البطالة

ت + ت - الحجم الطبيعي

خطب صدام حسين البلاغية وتصريحاته النارية ضد اسرائيل جعلت المملكة الأردنية التي يبلغ عدد سكانها خمسة ملايين ونصف المليون نسمة تقف في خندقه أثناء حرب الخليج الأخيرة.. هكذا يرى بعض المحللين السياسيين على الأقل . واليوم يدفع تعثر عملية السلام بين الفلسطينيين واسرائيل الشعب الأردني مرة أخرى إلى التعاطف مع بغداد. لكن الأهم ان الأردن يظل ملاذا آمنا - ولو مؤقتا - للعراقيين المستجيرين من نار الحصار الخانق المفروض منذ عام واحد وتسعين وتدني المستوى المعيشي إلى مستويات لا يتقبلها الانسان, وانهيار الخدمات الصحية. في غرفة متواضعة لا يديد طول أي من أضلاعها على أربعة أمتار, هي قاعة استقبال لفندق الرغدان في قلب العاصمة الأردنية عمان, جلس ثمانية عراقيين يشاهدون مباراة لكرة القدم عبر شاشة تلفزيون صغيرة.. كانوا صامتين لكن عيونهم تنطق بحماس لأحد الفريقين. سألنا موظف الاستقبال المصري عن نزلاء الفندق, فأجاب بابتسامة (جميع النزلاء هنا عراقيون, باستثناء شخص واحد.. من الكويت) . ورغم أن الحكومة العراقية تفرض رسما باهظا مقداره أربعمائة ألف دينار عراقي (حوالي 267 دولارا أمريكيا) على طلبات تأشيرة الخروج, وهو مبلغ يعادل مجموع رواتب موظف عراقي متوسط في عشر سنوات, رغم ذلك فان عشرات الآلاف يعبرون الحدود شهريا إلى الأردن لتسلم تحويلات نقدية أرسلها اليهم ذووهم في الخارج, أو على أمل العثور على ضربة حظ يصلون بها إلى الغرب. ورغم أن العراقيين يمكنهم الاتصال هاتفيا بأقاربهم في الولايات المتحدة أو كندا, فان الدولتين الخليجيتين الوحيدتين اللتين يمكنهم الاتصال بهما من العراق هما قطر والامارات العربية المتحدة.. لكن المكالمات الهاتفية من العراق تتم عبر عامل تحويلة حكومي, وتكلف مبالغ طائلة. وعن ذلك يقول أبو ماجد مدرس عراقي متقاعد لديه أسرة قوامها خمسة عشر فردا مازحا بينما يحاول ضبط غطرة رأسه: (عادة ما اتصل بجميع أقاربي من الأردن, وأطلب منهم ارسال أي مبالغ يستطيعون ارسالها, حتى وان كانت مائة دولار فقط. لكن أقاربي الذين يعملون في الخليج أكثر سخاء من أولئك المقيمين في الولايات المتحدة) . التحويلات المالية من الخارج إلى العراق ممكنة, لكن بشرط أن تمر عبر البنك المركزي العراقي الذي يقوم بتحويل العملات الأجنبية إلى الدينار العراقي بسعر صرف متغير تحدده الحكومة, وهو عادة سعر يقل كثيرا عن نظيره في السوق السوداء. كما أن العراقيين يفضلون الاحتفاظ بالعملة الصعبة وتحويل مبالغ بسيطة منها إلى العملة المحلية خشية الانهيارات المفاجئة في قيمة الدينار العراقي. ويمضي أبو ماجد الذي تجاوز الستين عاما من عمره قائلا: (الشخص القادر على تلقي تحويلات مالية من الخارج هو فقط الذي يعد محظوظا في العراق وتكون لديه فرصة جيدة في البقاء وأسرته على قيد الحياة. أنا شخصيا لدي أقارب يعملون في المملكة العربية السعودية وفي سويسرا وكندا. أتصل بهم هاتفيا من عمان وأطلب منهم مساعدتي بأي مبالغ يمكنهم توفيرها. وضع مؤسف.. لكن من العبث أيضا البحث عن عمل في العراق, لان الراتب سيكون حتما أقل بكثير من متطلبات المعيشة المتواضعة) . نزيل آخر في الفندق البسيط اسمه أحمد, يبلغ من العمر ثمانية وعشرين عاما, وهو حاصل على بكالوريوس في الكيمياء.. يقول بنبرة ممزوجة بأسى ويأس: (اضطررت للعمل كميكانيكي سيارات في بغداد.. عملت في أي مهنة وفي كل وظيفة يقبلني فيها أصحابها من أجل لقمة العيش.. ومع ذلك لم يكن دخلي يكفي لاطعام زوجتي وابني) . ووفقا لتقديرات الأمم المتحدة والحكومة الأردنية فان عدد العراقيين الموجودين في الأردن خلال أي فترة من فترات العام لا يقل بأي حال من الأحوال عن مائة وخمسين ألف شخص. أما السلطات الأردنية التي تمنح العراقيين تأشيرة دخول مدتها أسبوعان قابلة للتجديد بحد أقصى ثلاثة أشهر لكل شخص, فتفرض غرامة تعادل دولارا ونصف الدولار عن كل يوم يمضيه أي عراقي بعد انقضاء مدة الاقامة الرسمية. وتحت وطأة البطالة المتفشية في الأردن وتزايد المخاوف من نزوح العمالة العراقية بحثا عن فرص عمل, تضع الحكومة قيودا شديدة على اصدار تصاريح العمل للعراقيين. يقول عماد: (حتى إذا وافق صاحب عمل أردني على توظيف بعضنا, فانه يدفع نصف الأجر المعتاد لاننا لا نملك تصاريح عمل رسمية. وإذا ما اكتشفتنا السلطات, يكون مصيرنا الترحيل وختم جواز السفر بقرار يمنع دخولنا الأردن لخمس سنوات تالية) . وطبقا للقانون الأردني فان أي عراقي يستثمر خمسين ألف دولار فأكثر في المملكة يكون من حقه الحصول على اقامة دائمة. ومع ذلك فان أغلب المتيسرين من العراقيين فضلوا الحصول على اقامة في أوروبا أو في الولايات المتحدة وكندا واستراليا, وهجروا المنطقة كلها. ويؤكد محلل اقتصادي عراقي بارز - طلب عدم الافصاح عن اسمه - ان العراقيين الأثرياء يتخذون من الأردن محطة مؤقتة (ترانزيت) في رحلتهم إلى الغرب, فيقول: (لا يزيد عدد العراقيين الذين يستثمرون أموالهم في الأردن عن عشرين ألفا اشتروا مساكن ليحصوا على تأشيرة الاقامة الدائمة. لكن أغلب العراقيين الذين يملكون مالا يقدمون طلبات هجرة إلى دول أخرى في الغرب, ويرحلون عن الأردن بمجرد قبول أوراقهم. كندا واستراليا هما أكثر الدول التي تشجع العراقيين الأثرياء على الهجرة إليها.. أما أولئك الذين يبقون في الأردن, فهم عادة ممن يملكون رؤوس أموال مجمدة في العراق.. مثل أصحاب المصانع التي أغلقت بسبب ظروف البلد, وكلهم ينتظرون انفراج الأزمة) . صاحب مصنع أردني للتغليف يعتمد على السوق العراقي بشكل أساسي يوضح المشكلة قائلا: (أغلب المصانع العراقية أغلقت خلال سنوات الحصار السبع بسبب النقص الحاد في المواد الخام وفي قطع الغيار, وبسبب ضعف القوة الشرائية أيضا) .. عمان - رمزي قسام

Email