كوسوفو تدفع ثمن الحلم الصربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

يبدو ان كأس السم التي يحملها الصرب لم تنضب رغم ما جرعوه منها لاهل البوسنة.. فثمة المزيد الذي اختزنوه لاهل كوسوفو ايضا وبدأوا في اجبارهم على تجرعه , على مرأى ومسمع من اوروبا وروسيا تلك الحليفة القوية. الجميع يعلم ان زعماء الصرب يحلمون منذ عشرات السنين باقامة صربيا الكبرى, وسلوبودان ميليسوفيتش يتوق الى ان يرأس صربيا الكبرى (الحلم الصربي) الذي شرعوا فيه منذ تفكك الفيدرالية اليوغسلافية. اوروبا غضت الطرف عن عمليات تصدير الاسلحة للصرب رغم قرارات الحظر المفروضة فاستطاع الصرب ان يكدسوا مخازنهم بمختلف انواع الاسلحة, ليظهروا الآن مرة اخرى ملوحين لدول البلقان والعالم كله انهم يمتلكون قوة تحقيق الحلم. وعلى الرغم من المعاناة ابان حرب البوسنة والهرسك وما خلفته من خسائر في الارواح ودمار اقتصادي للبوسنيين والصرب ـ مع الفارق الكبير بالطبع, الا ان الصرب كان يجد دائما الدعم الخفي احيانا والمعلن احيانا اخرى من حليفه التاريخي القديم في مختلف جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق, وحتى شهور قليلة مضت كانت الذئب الوفى (مونتنيجرو) تركض خلف بلجراد واضعة على عينيها عصابة سوداء تسمع وتنفذ كل ما تريده صربيا, الا ان الوضع سرعان ما تغير, وزادت حدة الفرقة والغضب وبروز الثأر القديم الى السطح. فالالبان في كوسوفو لم يعد لديهم اسباب للصبر او استعداد لتجرع السم الذي شمل الجسد البوسني في السابق, فقد تغيرت صربيا تدريجيا ولم تعد بالمعنى او المضمون الذي يريده لها سلوبودان ميليسوفيتش, الامر الذي ادى الى العمل في الخفاء للتجهيز والاستعداد لخوض حرب اهلية وقد جعل هذا حلم صربيا الكبرى كابوس مزعج يهدد بدمار الجميع, واصبح طموح ميليسوفيتش في المنطقة مصيبة كبرى حتى على اهل بلدة وعرقه فلن يسمح الالبان لانفسهم بدخول التجربة البوسنية مع الصرب, بل سيتصدوا لذلك بكل ما يملكون ويدعم ذلك ان الالبان في كوسوفو بدأوا مؤخرا في الشعور بشخصيتهم القومية التي كادت تمحى بسبب السيطرة الشيوعية لسنوات طويلة, ولقد ادى مرور هذه الاعوام الى افراز امرين الاول هو ان الالبان اصبحوا مواطنين من الدرجة الثانية في بلادهم, والثاني هو ان البوليس الصربي اصبح قويا, وفي العقد الاخير كان الالبان منهمكين في تجسيد الذات الالبانية في عمل ما يشبه الخلايا السرية, حتى ان تعليم اللغة والاحتفالات بالمناسبات الالبانية كان يتم في الخفاء, وكان هذا هو عزاؤهم الوحيد, في حين كانت توجد اصوات داخل الالبان انفسهم تحاول التهدئة وبعضها كان يؤكد ان العنف والانفجار امران غير متوقعين, اما الآن وقد بدأت الصرب في النيل منهم فليس امامهم الا التحرك بفطرة وغريزة القومية للدفاع عن انفسهم. وقد كان القائد الالباني الذي يحظى بالثقة ابراهيم روجوما يؤمن دائما ان لغة الحوار مع قادة الصرب يمكن ان تحقق نتائجها, لكنه لم يكافأ على صبره وامله, كما ان ميليزوفيتش الذي يرفض تقديم تنازلات امامه الان فاتورة حساب كبيرة, قد تكلفه الكثير, حتى لو اعلن استعداده لتأكيد الاستقلالية الذاتية للالبان في كوسوفو فسيجد صعوبات كثيرة, الامر الذي ادى الى عنف المقاومة واخراجهم للاسلحة البسيطة والتي آلت اليهم في العام الماضي اثناء الفوضى التي عمت البلاد, كما ان جيش التحرير الكوزوفي والمعروف باسم (يو سي كي) مستعد في كل لحظة للانقضاض والعمل على تحقيق الاستقلال, وقد هدد ذلك الجيش العام الماضي بالتصدي وضرب البوليس الصربي حال اعتداءه على اي مواطن الباني, والان ساهم ميليسوفيتش في نزع الفتيل وزال الخوف والتردد من نفوس الالبان واصبح هدفهم المعلن هو الاستقلال, واذا كان هذا الهدف بعيد المنال الا ان ما يهمهم بالدرجة الاولى الدفاع عن انفسهم, واصبح جميع الالبان يجمعون انه لن يحدث لهم ما حدث للبوسنيين, وبذلك وضع الرئيس الصربي نفسه في مأزق حرج لايحسد عليه, فهو لايستطيع التقدم نحو الالبان لتحقيق الحلم الذي زكاه في نفوس شعبه, ولا يستطيع التقهقر الى الخلف تجاه شعبه, فسوف يعد هذا نوعا من الخيانة للشعب, والحل الوحيد الذي يراه امامه هو التسويف والصمت كسبا للوقت, ولابد ان يقدم شيئا لانهاء الموقف بأدنى خسائر ممكنة, ولايمكن التكهن في الواقع بهذا الشيء الان لاطفاء النيران المشتعلة, كما ان الرصيد الذي يمتلكه الرئيس الصربي لدى الغرب كنتيجة لتعاون معهم لاخراج اتفاقية دايتون للسلام قد بدأ ينفذ, وهو الرصيد الذي كان سببا قويا في خداع الغرب, لكن هذا الرصيد شارف على الانتهاء بعد ان اعلن الامريكان مؤخرا بعض التهديدات بفرض حظر اقتصادي على صربيا كما ان المجتمع الدولي ينتابه الخوف من حرب اهلية جديدة في البلقان على غرار ما حدث في البوسنة. واذا كانت الاحداث الحالية تعد ناقوس الخطر الذي ينبه اوروبا والعالم الى تصرفات الرئيس الصربي, الا انه يوجد شخص آخر من المحتمل ان يكرر نفس التصرفات وهو الرئيس الكرواتي توتجان, اذ ينتهج هذا الرئيس ذات المنهج الصربي ولكن في صمت لايفصح عما ينويه في المنطقة بعد, وليس من قبيل المصادفة ان كلا توتجان الكرواتي وسلوبودان الصربي من الوجوه القديمة التي بقيت في السلطة لتداعيات المرحلة, ولكن لبقاؤهما في السلطة اسباب خفية يلمح اليها المراقبون والمحللون, وهي اسباب تتكشف يوما بعد يوم في مقدمتها بقاء فتيل الاشتعال للصراعات البلقانية قائم الى مالانهاية من اجل بقاء التواجد الامريكي في اوروبا, لكن يبدو ان اللعبة شارفت على الانتهاء وان حلقات الدائرة بدأت في الاكتمال لوضوح اسباب بقاءهما في السلطة بعودة بوادر الصراع بالمنطقة, والوضع الحالي لايبشر بالخير او يدعو للتفاؤل, وستفرز الايام المقبلة ما سيقدم عليه الغرب في الايام القادمة تجاه الازمة الان ليكتمل جانب من الرؤيا. لاهاي ـ سعيد السبكي

Email