من سايكس بيكو الى ميلوسيفيتش: كوسوفو وقصة الصراع الدامي من أجل الهوية

ت + ت - الحجم الطبيعي

وجد الصرب في ميراث الدولة العثمانية التي آلت الى الضعف بعد القوة متنفسا مواتيا وفرصة سانحة لتنفيس حقدهم وصب جام غضبهم ومرارتهم على المسلمين في المنطقة, فما كادت حرب البلقان الاولى تنشب عام 1912 حتى قاموا بمحاولتهم لفرض السيطرة على القسم الاكبر الذي خلفه الاتراك بعد انسحابهم من معظم ما تبقى بأيديهم من شرق اوروبا بما فيه البانيا الحالية. وجاء مؤتمر لندن الذي انعقد عام 1913 لبحث الوضع الجديد في اوروبا ليقرر تقسيم الاراضي ذات الاغلبية المسلمة من السكان الالبان الى نصفين متساويين الاول دولة البانيا الحالية والثاني اقليم كوسوفو. كان من المنطقى ان يضم الاقليم الى البانيا ولكن الغرب حرص على ان تكون (سايكس بيكو) بلقانية فاهدى كوسوفو الى مملكة صربيا لتحقق مجدا مزعوما رأت انه سلب منها قبل 500 سنة. ومالبث الصرب بعد ذلك ان شرعوا في تثبيت اقدامهم في الاقليم بكل الوسائل, فقاموا بتوزيع الاراضي على المستوطنين الصربيين وفق ما استحدثوه من قوانين اسموها (استعادة الممتلكات) مستخدمين كل اساليب العنف لتضييق الخناق على الالبان واسفرت هذه الاجراءات عن موجات من الهجرة قامت بها جماعات من السكان الالبان الى البانيا وتركيا. عندما احتلت المانيا وايطاليا معظم منطقة البلقان في الحرب العالمية الثانية اشترك المسلمون في كوسوفو في الكفاح ضد المحور وتكونت جمهورية يوغسلافيا السابقة سنة 1943 الا ان حظهم لم يكن بالاحسن حيث تسلط عليهم الشيوعيون الصرب وتضاعفت اعمال البطش والاستعباد والقتل وظلت احوال الاقليم على اضطرابها بين الحين والآخر فالبانيا الجارة ظلت تنظر الى يوغسلافيا على انها سرقت جزءا من شعبها واراضيها ولم تمنع القبضة الحديدية لتيتو الذي تولى رئاسة يوغسلافيا السابقة المسلمين من التظاهر والمطالبة بالاستقلال عن صربيا وانشاء جمهورية فيدرالية في اطار يوغسلافيا. هذه المطالب التي الح عليها الالبان لم تجد الا استجابة جزئية متأخرة عام 1974 حين تم اقرار الدستور الجديد ليوغسلافيا حيث قدم لهم ما اعتبره حلا وسطا في شكل حكم ذاتي يتيح لهم المشاركة في اجهزة الدولة والحزب اسوة ببقية الجمهوريات الست المنضوية في جمهورية يوغسلافيا الفيدرالية حينذاك. ويبدو ان الامر لم يرق للصرب الذين تحينوا الفرصة للاتقضاض على هذا الدستور الذي اعتبروه مفروضا عليهم في عهد تيتو فقامت اكاديمية العلوم والفنون الصربية بعد ذلك باربع سنوات باصدار وثيقة تتضمن خططا لالغاء الحكم الذاتي في كوسوفو وعرضت الوثيقة على القادة الشيوعيين الصرب وتحمس لهم سلوبودان ميلوسيفيتش الذي كان وقتها عضوا في هيئة رئاسة رابطة شيوعيي صربيا وابلغ الاكاديمية استعداده لتنفيذها ومن ثم عمدت الرابطة الى ارسال الآلاف من افراد الشرطة الصرب الى كوسوفو كما قامت بتسليح الصرب وابناء الجبل الاسود الموجودين فيها. ما ان لاحت بوادر تفتت يوغسلافيا السابقة حتى تنفس مسلمو كوسوفو الصعداء ظانين انهم سيتقدمون خطوة الى الامام بتحويل الحكم الذاتي الذي حصلوا عليه عام 1974 الى استقلال تام شأنهم شأن بقية الاعراق المكونة للاتحاد اليوغسلافي (الكروات, السلوفين, المقدونيين) الا ان الصرب كانوا أسبق في تبييت النية المعاكسة لطموحات الالبان ووجدوا في كوسوفو (اليتيمة) تعويضا لهم عما خسروه في الجبهات الاخرى تحت ضغوط دولية, حيث لم يستطيعوا مقاومة الضغوط الالمانية الرامية لمنح استقلال كرواتيا وسلوفينيا. وامام تسلط الصرب وبطشهم وتماديهم في القتل والتعذيب ثار سكان الاقليم عام 1981 حيث تظاهر الطلاب مطالبين بالاستقلال ووضع نهاية للتسلط الصربي الذي كان رده اكثر بطشا وتنكيلا فامعنوا في القتل والاعتقال وزجوا بالآلاف في السجون لم يهدأ سكان كوسوفو وعاودوا محاولات تحقيق مطالبهم عام 1989 فما كان من الصرب الا ان قاموا بجلب جيوشهم من كرواتيا ومقدونيا للبطش بالمسلمين في كوسوفو. وذهب سلوبودان ميلوسيفيتش في اعقاب ذلك الى كوسوفو ليلهب نيران الحقد الصربي ثم يعود الى بلجراد ليعلن الغاء الحكم الذاتي وفرض حالة الطوارىء في الاقليم. المسلمون حكموا الاقليم 500 سنة وسموه قوصة (قوصة) ذلك هو الاسم الذي عرفت به كوسوفو حاليا وعلى مدى 500 عام من الحكم الاسلامي للاقليم... أيام مجد تليد انطوت صفحته, كانت لدى الحضارة العربية والاسلامية مؤهلات اطلاق الاسماء على البلدان التي فتحتها... البندقية... الاندلس... غرناطة... سرنديب... إلخ البلدان شرقاً وغرباً. قسمات الشبه بين الاحتلال الصهيوني لفلسطين وادعاءاته حول حائط المبكى المزعوم والذي يعد بدعة كبيرة عند صهاينة اليوم والضم الصربي لكوسوفو كبيرة ومتعددة... ومزاعم الصرب واليهود قائمة على مزية تاريخية... مزاعم اليهود نعرفها - فماذا عن مزاعم الصرب؟ يدعي هؤلاء أنهم أول من سكن كوسوفو رغم أن التاريخ يقول غير ذلك فلقد استوطن الانسان كوسوفو في عصر ما قبل التاريخ وتذكر المصادر التاريخية القديمة أن قبيلة الايليرية هي أول من سكن المنطقة وانشأت دولة (دارينا) إلى أن خضعت لحكم الرومان وأعقبهم البيزنطيون... حتى عرفت الاسلام قبل مجيء الاتراك إليها عام 1389م والذين استمروا في حكمهم حتى عام 1912 ضمن فتحهم للبلقان. الصرب إذن لم يكونوا أول من سكن (الاقليم المبكى) حتى يزعموا أنهم سكان البلاد الأصليين, فقد نزحوا الى كوسوفو ضمن جماعات مختلفة أتى أفرادها مهاجرين الى المنطقة في موجات متعاقبة من شرق جبال الاورال للتوزع تحت أسماء متعددة (الصرب - الكروات - السلوفين - المقدونيين - البلغار) وكشأن النازحين دائماً والمستقبلين القائمين في المكان حدثت صراعات بين هؤلاء من جهة والسكان الاصليين ومع البيزنطين والمجرمين الذين كانوا يفرضون سيطرتهم على المنطقة من جهة أخرى والتي أسفرت في النهاية عن رجحان كفة الصرب في عهد ملكهم ستيفان الذي تمكن من ابعاد البزنطيين. وفي عهد الملك دوشان بلغت الدولة الصربية ذروة قوتها, فاعلن نفسه قيصراً عاما عام 1346 واتخذ من بربزين 75 كم جنوب بريستينا عاصمة كوسوفو الحالية. بعد مضي ثلاث وعشرين سنة على قيامها اصطدمت هذه القوة الصربية بالقوات العثمانية الفتية في ذلك الوقت, وكانت كوسوفو المسرح الذي شهد نهاية حكم الصرب. فبالقرب من برتيسيا وفي ميدان كوسوفو دارت المعركة التي قادها السلطان العثماني مراد الاول مع الملك الصربي لازار الذي قاد جيشه سنة 1389م التي هزم فيها هزيمة منكرة قتل فيها لازار كما قتل بسببها السلطان مراد الذي اراد ان يساعد صربيا مصابا بطعنة خنجر مسموم وأعقب هذه المعركة تخلص الالبان من الحكم الصربي ودخلوا الاسلام بشكل جماعي وأصبحوا جنود العثمانيين في البلقان التي دخلت الاسلام تباعاً وبشكل جماعي أيضاً. هذه الفترة تحديداً هى التي يتخذها صرب اليوم مناسبة لتأجيج نيران حقدهم على مسلمي المنطقة فيعدون يوم معركة كوسوفو (28 يونيو) مناسبة قومية يحيون ذكراها. ففي عام 1989 قام الرئيس الصربي سلوفان ميلوسيفتش بزيارة كوسوفو وألقى خطبة نارية اختار لها ميدان كوسوفو بجوار النصب التذكاري الذي وضعوه لتخليد معركة 1389 رغم هزيمتهم فيها... وكتبوا عليه (كل صربي لا يأتي ليقاتل في كوسوفو لا رزقه الله ذرية... ذكراً أو أنثى) ميلوسيفتش شدد في خطابه الذي ألقاه في ذلك الوقت بعد أن عاد بذاكرة جمهوره الصربي الى ما قبل 500 سنة على أنه لن يسمح بأن يصاب صربي في كوسوفو بأذى وبشرهم بأن الحكم الذاتي الذي يتمتع به سكان كوسوفو منذ عام 1974 لن يدوم طويلاً. وفي نفس تاريخ المعركة التي دارت قبل ستة قرون (28 يونيو 1389م) وجه الرئيس الصربي قبل عامين 1996م خطاباً حماسيا لجموع الصرب ندد فيه بالفتح الاسلامي للمنطقة مشعلاً بندائه نيران الحقد الصربي ضد المسلمين.

Email