واشنطن وكاراكاس.. جذور الأزمة واحتمالات الحرب

جنود تشيليون يمرون أمام مهاجرين فنزويليين يحاولون مغادرة تشيلي بمجمع تشاكالوتا الحدودي في أريكا
جنود تشيليون يمرون أمام مهاجرين فنزويليين يحاولون مغادرة تشيلي بمجمع تشاكالوتا الحدودي في أريكا

تعيش العلاقات الأمريكية – الفنزويلية واحدة من أكثر محطّاتها توتراً منذ عقود، مع تصاعد الخطاب العسكري والدبلوماسي الأمريكي ضد فنزويلا، ووصول مستوى التهديد إلى حدود غير مسبوقة.

فواشنطن، التي عادت إلى نهج الضغط الأقصى بعد تغيّر المشهد السياسي في البيت الأبيض، تتعامل مع كاراكاس بوصفها تحدياً مباشراً لمصالحها في نصف الكرة الغربي، فيما يرى النظام الفنزويلي أن التحركات الأمريكية تستهدف تقويض بنيته السياسية وإعادة تشكيل موازين القوة الإقليمية.

وفي ظل تحركات عسكرية في البحر الكاريبي، واستقطاب دولي حاد، يطرح المراقبون أسئلة حاسمة حول مستقبل هذا الصراع، وما إذا كان سيتطور إلى مواجهة محدودة أم يظل محكوماً بإيقاع «التصعيد المضبوط».

ويشير خبراء إلى أن التصعيد بلغ ذروته مع عودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، إذ شهدت منطقة البحر الكاريبي عمليات عسكرية أمريكية مكثفة تحت ذريعة مكافحة المخدرات، تضمنت تدمير عشرات الزوارق التي تدعي واشنطن إنها مخصصة للاتجار غير المشروع انطلاقاً من السواحل الفنزويلية، إضافة إلى نشر حاملة الطائرات «جيرالد فورد» وطائرات استخباراتية واستطلاعية، وفرض قيود على تحليق الطائرات فوق المجال الجوي الفنزويلي.

ويتوقع خبراء أن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو استمرار «التصعيد المضبوط»، عبر عمليات بحرية محدودة، وضربات دقيقة ضد أهداف تزعم واشنطن أنها اتجار غير مشروع، وتحركات ردعية في المجال الجوي دون الانزلاق إلى حرب واسعة.

المواجهة

يرى د. حمدي أعمر حداد، دكتور في العلاقات الدولية ومتخصص في قضايا أمريكا اللاتينية، أن التوتر الحالي يطرح بقوة فرضية المواجهة العسكرية بعد سنوات من النزاع غير المتكافئ والعقوبات الاقتصادية المشددة، لكنه يؤكد أن احتمال تحول الأزمة إلى حرب شاملة يبقى محدوداً، لأن أي تدخل بري واسع في فنزويلا سيصطدم بتعقيدات ميدانية ولوجستية كبيرة، أبرزها الطبيعة الجغرافية الوعرة وقدرة الجيش الفنزويلي— رغم تواضع إمكاناته —على خوض حرب استنزاف طويلة.

ويضيف أن واشنطن تدرك أن أي تدخل مشابه سيعيد إلى الأذهان تجارب مكلفة في العراق وأفغانستان، وهو ما لا يحظى بدعم داخلي، لاسيما في ظل الانقسامات السياسية واقتراب الانتخابات النصفية، بالإضافة إلى النتائج المخيبة التي مني بها فريق ترامب في نيويورك وبعض الولايات.

ويرى أن الولايات المتحدة تفضّل الاعتماد على أدوات ضغط منخفضة الكلفة مثل العقوبات المالية والتضييق على حركة النفط الفنزويلي، وعمليات جوية وبحرية محدودة.

البيئة الجيوسياسية

أما على المستوى الدولي، فيوضح د. حداد أن البيئة الجيوسياسية المحيطة بفنزويلا تشكل عائقاً كبيراً أمام أي عمل عسكري مباشر، خصوصاً أن كاراكاس تمتلك شبكة دعم قوية من روسيا والصين وإيران وكوبا.

ويشير إلى أن الصين — كونها أحد أكبر الدائنين لفنزويلا — ترى في استقرار النظام ضمانة لاستمرار مصالحها النفطية، بينما تعزز روسيا وجودها الاستشاري والعسكري ضمن محاولاتها كسر النفوذ الأمريكي في المنطقة، ما يجعل أي تصعيد أمريكي جزءاً من لعبة توازنات دولية أوسع.

«لعبة الدجاج»

من جانبه، يقول د. محمد بوبوش، أستاذ العلاقات الدولية بالمدرسة العليا للتكنولوجيا في جامعة محمد الأول بمدينة وجدة المغربية، إن التوتر الراهن بين ترامب ونظيره الفنزويلي نيكولاس مادورو ليس حدثاً طارئاً، بل يمثل امتداداً لمسار طويل من الأزمات التي ميّزت العلاقات بين واشنطن وكاراكاس.

ويرى بوبوش أن المرحلة الحالية تمثل ذروة هذا التوتر، بعدما تحولت المواجهة إلى ما يشبه التطبيق العملي لـ«لعبة الدجاج» في الأدبيات الاستراتيجية؛ حيث يقترب كل طرف من حافة الصدام بهدف اختبار مدى استعداد الآخر للتراجع دون الانزلاق إلى الحرب.

ويشير إلى أن التدخل الأمريكي في الأزمة أعاد إحياء مبدأ مونرو (1823)، الذي منح واشنطن تاريخياً مبرراً للتدخل في شؤون دول أمريكا اللاتينية بوصفها جزءاً من أمنها القومي.

ويضيف أن الولايات المتحدة كرّست نفوذها في المنطقة على مدى قرنين، مستندة إلى قوتها العسكرية واقتصادها الصاعد، بما يضمن تأمين المواد الخام واحتكار الأسواق اللاتينية بعيداً عن المنافسين الدوليين.

مناورة

ويؤكد بوبوش أن احتمالات التصعيد العسكري تتراوح بين مناورة محدودة واحتمال اندلاع حرب واسعة، مشيراً إلى أن التحركات الأمريكية الأخيرة في البحر الكاريبي — بما في ذلك نشر حاملة الطائرات «يو إس إس جيرالد فورد» برفقة قوة قوامها نحو 15 ألف جندي — تعكس مستوى متقدماً من الجاهزية.

ويضيف أن تصريحات ترامب حول إغلاق المجال الجوي الفنزويلي وتلميحاته بعمليات برية تعيد إلى الأذهان أجواء أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962.

ويقول بوبوش إن دوافع التصعيد الأمريكية ترتبط أيضاً بالداخل الأمريكي، فترامب يسعى إلى إظهار نهج «السلام عبر القوة»، كما أن وصف مادورو بأنه يقود «كارتيلاً إرهابياً» يمنح واشنطن غطاءً قانونياً لأي تحرك عسكري تحت شعار مكافحة الجريمة المنظمة.

ولا يستبعد بوبوش العامل الاقتصادي، مشيراً إلى أن فنزويلا تمتلك أحد أكبر احتياطيات النفط في العالم، وهو ما يجعلها هدفاً مغرياً للهيمنة الأمريكية.