هدم جناح كامل من البيت الأبيض، مشهد يكاد يختزل وحده عودة دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة.
فبين زعزعة التحالفات الدولية، وشن حرب تجارية على باقي العالم، وبلبلة التوازنات بين مختلف السلطات، يتقدم قطب العقارات السابق على مختلف الأصعدة كمن يشق طريقه بجرافة.
لكن بعد الهدم، يأتي وقت إعادة الإعمار، والفرق شاسع على هذا الصعيد بين إلغاء قسم من المقر الرئاسي التاريخي لبناء قاعة حفلات ضخمة بتمويل غامض، وبين إحلال "زمن ذهبي" موعود لا تزال أسسه الجيوسياسية والاقتصادية غير ثابتة وقاعدته القانونية موضع جدل.
وأعلن الملياردير النيويوركي مؤخراً أن الأشهر التسعة الأولى من رئاسته الثانية كانت "أفضل تسعة أشهر لأي رئيس على الإطلاق" في الولايات المتحدة.
فبداية ولايته هزت العالم بأسره وشلّت المعارضة الديمقراطية تماماً، على وقع أعداد المراسيم الرئاسية التي كان يوقعها بالجملة.
لكن ويليام غالستون، الخبير في معهد بروكينغز، يرى أن "تأثير الصدمة بدأ يفقد من وقعه".
فقد وجد القادة الأجانب وسائل للتعامل مع الرئيس المعروف بأطباعه النزقة، فباتوا يقدمون له تنازلات تجارية وهدايا فاخرة.
ومن أبرز القادة الذين استخلصوا العبر، الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي تعرض لتوبيخ شديد خلال زيارة إلى البيت الأبيض، فكيّف مظهره كما نبرته لإرضاء ترامب.
وبقي البيت الأبيض حتى قبل فترة قصيرة يرفع شعار "وعود قُطِعت، وعود تحققت".
وهذا يمكن أن ينطبق على ملف الهجرة، مع اعتماد ترامب سياسة بالغة الشدة تقضي بطرد أعداد طائلة من المهاجرين، كما ينطبق على عملية الثأر التي توعد بها معارضيه، إذ دفع القضاء لبدء ملاحقات طالت وسائل إعلام وجامعات ومعارضين سياسيين، فيما يعمد في المقابل إلى العفو عن أنصاره.
لكن ترامب فشل في الإيفاء بوعد محوري في حملته، وهو تحسين الظروف المعيشية للطبقة الوسطى التي تعاني من تبعات العولمة والتقدم التكنولوجي المتسارع.
وفيما يعيد الرئيس تصميم الديكور في البيت الأبيض وتُعقد عائلته صفقات مربحة تثير شبهات تضارب المصالح، لا تزال الأسر الأميركية تعاني من غلاء المعيشة.
وقد أظهر الناخبون استياءهم على هذا الصعيد بالتصويت بأعداد كبيرة للديمقراطيين في انتخابات محلية جرت مؤخراً.
كما أن الحزب الجمهوري نفسه قد يُظهر تصدعات في ولائه المطلق للرئيس إذا ما واجه احتمالا جدياً بتكبد هزيمة في الانتخابات التشريعية النصفية في خريف 2026.
وقد يصطدم ترامب مجدداً بفرعي السلطة الآخرين؛ سواء القضاء أو الكونغرس إذا ما انتقلت الغالبية فيه للديمقراطيين.
وعلى المستوى العالمي، توقع غاريت مارتن، أستاذ العلاقات الدولية، أن يبقى ترامب عامل "تسريع" للتوجهات التي سبقته والتي ستستمر من بعده، على غرار الحمائية ونبذ التعددية.
فإن كان ترامب يبدي افتتاناً بالقوة العسكرية والقادة المتسلطين، فهو يود أن يدخل التاريخ كالرئيس الصانع للسلام، طامحاً لنيل جائزة نوبل للسلام. لكن غاريت مارتن يشير إلى أن "التفاوض على اتفاقات سلام أمر معقد، وكذلك ضمان احترامها".
ومن المقرر أن يضاعف الرئيس الجولات الداخلية العام المقبل للترويج لسياسته الاقتصادية دعماً للمعسكر الجمهوري.
هل ينجح ترامب في استنهاض حماسة تجمعات حملته الانتخابية؟ أم يتحول إلى "بطة عرجاء" مع فقدان رصيده السياسي في ظل دستور يحظر عليه الترشح لولاية ثالثة؟
ويبقى الرئيس، الذي يُعد الأكبر سناً الذي تم تنصيبه في تاريخ الولايات المتحدة، رغم كل ما سبق عاجزاً عن السيطرة على عامل الزمن، حيث سيواجه حتماً أسئلة تزداد إلحاحاً حول سنه وقدراته الذهنية وقد بلغ التاسعة والسبعين.
