في تطوّر لافت أثار اهتمام الأوساط السياسية الروسية والدولية، غاب وزير الخارجية الروسي المخضرم سيرجي لافروف عن اجتماع مهم في الكرملين الأسبوع الماضي، ما فتح باباً واسعاً من التكهنات حول ما يجري خلف الكواليس في دوائر صنع القرار في موسكو، خصوصاً أن الوزير، البالغ من العمر 75 عاماً، يُعدّ أحد أبرز الشخصيات الثابتة في منظومة الحكم منذ أكثر من عقدين.
ويأتي غياب لافروف عن جلسة مجلس الأمن الروسي، التي أصدر خلالها الرئيس فلاديمير بوتين تعليماته للمسؤولين بدراسة مقترحات بشأن الاستئناف المحتمل للتجارب النووية، ليزيد علامات الاستفهام، خصوصاً أنه كان العضو الدائم الوحيد الغائب عن الاجتماع.
صحيفة «كوميرسانت» الروسية، المعروفة بقربها من الدوائر الحكومية، نقلت أن الغياب «تم الاتفاق عليه مسبقاً»، غير أن ذلك لم يمنع تصاعد التساؤلات، خاصة بعد استبعاد لافروف من وفد روسيا إلى قمة مجموعة العشرين المقبلة في جنوب أفريقيا، وتعيين مسؤول أقل رتبة لتمثيل بلاده بدلاً منه.
وتزامن هذا الغياب المزدوج مع أجواء سياسية متوترة في موسكو، ما دفع مراقبين إلى القول إن «هناك شيئاً ما غير طبيعي يجري خلف الأبواب المغلقة»، في وقت تحاول فيه روسيا إعادة صياغة موقعها الدولي وسط تحولات جيوسياسية متسارعة.
تطمينات من الكرملين
سارع الكرملين إلى احتواء موجة التكهنات، حيث نفى المتحدث باسم الرئاسة الروسية، دميتري بيسكوف، وجود أي مؤشرات على تراجع ثقة بوتين بوزير خارجيته، واصفاً الأخبار المتداولة بأنها «غير صحيحة على الإطلاق»، مؤكداً أن «كل شيء يسير على ما يرام».
لكن هذه التطمينات لم تُنهِ الجدل، خصوصاً أن ما جرى جاء بعد تقارير إعلامية أشارت إلى أن إلغاء القمة التي كان يفترض أن تجمع بوتين بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب في بودابست، جاء إثر مكالمة «متوترة» بين لافروف ووزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو.
وقالت مصادر أمريكية إن لهجة لافروف «كانت متشددة للغاية» خلال حديثه مع روبيو، وإن موقفه الصارم في ملف الحرب الأوكرانية دفع واشنطن إلى الاعتقاد بأن القمة لن تحقق أي اختراق.
هواجس داخلية
مسؤول روسي رفيع سابق، تحدث لصحيفة «الغارديان» البريطانية بشرط عدم الكشف عن هويته، أكد أنه لا توجد مؤشرات على إبعاد لافروف عن دوائر القرار، لكنه أشار إلى أن الوزير أساء التعامل مع محادثاته الأخيرة مع واشنطن، وأثار فوضى دبلوماسية غير مرغوبة.
وأضاف المصدر أن لافروف، الذي حاول تبنّي مواقف متشددة لإظهار قوة موقفه أمام القيادة الروسية، ربما لم يحسب تأثير هذه المقاربة في اللحظة السياسية الراهنة، مشيراً إلى أن بوتين كان منزعجاً في مناسبات سابقة من لهجة لافروف العدوانية، التي اعتبر أنها باتت تطغى على قدرة الوزير التاريخية في إظهار الدهاء الدبلوماسي.
ومنذ انضمامه إلى السلك الدبلوماسي السوفييتي عام 1972، وتعيينه وزيراً للخارجية في عام 2004، عرف لافروف بمواجهة حادة مع الغرب في ملفات حساسة، من العراق إلى سوريا، مروراً بضم القرم، ووصولاً إلى الحرب الروسية الأوكرانية، وكان الغرب ينظر إليه سابقاً باعتباره «دبلوماسياً براجماتياً»، قبل أن يتحول خطابه في السنوات الأخيرة إلى لهجة أقرب إلى «الخطاب الهجومي».
تراجع نفوذ لافروف
تشير مصادر مطلعة في موسكو إلى أن نفوذ لافروف تراجع فعلياً خلال السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، والتي لم يكن الوزير جزءاً من دائرتها الضيقة. كما واجه لافروف تحدياً آخر بعد إعادة انتخاب ترامب في 2024، حيث بدأ كيريل دميترييف، رئيس صندوق الثروة السيادية الروسي والمقرّب من عائلة بوتين، بإجراء محادثات مباشرة مع شخصيات بارزة في الدائرة المحيطة بترامب، متجاوزاً الدور التقليدي لوزارة الخارجية.
وتوترت العلاقة بين لافروف ودميترييف على نحو غير مسبوق، ووصل الخلاف إلى العلن في بعض الأحيان، وفي إحدى الحوادث التي جرت خلال محادثات السلام في الرياض، حاول لافروف، وفق مصادر متعددة، إزاحة دميترييف من الاجتماع عبر إزالة المقعد المخصص له، قبل أن يتدخل بوتين لإعادته.
دفاع محسوب
في محاولة لوقف الشائعات، ظهر لافروف في مقابلة مع وكالة «ريا نوفوستي» الحكومية، أكد خلالها أن بعض الصعوبات ظهرت في المحادثات مع واشنطن، دون أن يوضح ما إذا كان لهذه الصعوبات علاقة بإلغاء اجتماع بوتين وترامب.
ويرى محللون أن ظهور لافروف الأخير جاء في إطار محاولة محسوبة لطمأنة الداخل الروسي، وإظهار أن علاقته بالقيادة ما تزال مستقرة، لكنهم يشيرون في الوقت ذاته إلى أن بوادر إعادة تشكيل دوائر القوة في موسكو أصبحت أوضح من أي وقت مضى.
خلف الكواليس
وفي حين يحرص الكرملين على الإبقاء على مظهر الانسجام داخل مؤسسة الحكم، يقول خبراء في الشأن الروسي إن غياب لافروف عن مناسبتين مهمتين وتهميشه في ملف مجموعة العشرين يمثلان «مؤشرات لا يمكن تجاهلها»، خصوصاً أنه لطالما كان يمثل الواجهة الدبلوماسية الأبرز للسياسية الخارجية الروسية.
وبين النفي الرسمي والتكهنات المتصاعدة، يبقى غياب لافروف علامة فارقة تستدعي المتابعة، في وقت يتسم بالتحولات السريعة والتغيرات العميقة في السياسة الدولية.