توترات روسيا والغرب.. هل اقترب الصراع في أوروبا الشرقية؟

تشهد الساحة الأوروبية حالة من الاحتقان المتزايد مع تصاعد الاتهامات الغربية لموسكو بانتهاك أجواء دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بالتزامن مع تصعيد في وتيرة الهجمات بالطائرات المسيرة داخل أوكرانيا، وجميعها تطورات تضع المنطقة على مسار أكثر هشاشة، مع تقاطع البعد العسكري المباشر وحسابات جيوسياسية معقدة ترتبط بتوازن الردع بين الشرق والغرب.

ويعكس التحرك السريع لحلف الناتو من خلال إطلاق عملية «الحارس الشرقي» في 12 سبتمبر الجاري، إدراك الحلف لحساسية المرحلة وخطورة استمرار الخروقات. وتأتي تلك العملية، التي تشمل دوريات مشتركة ومراقبة مكثفة للأجواء، رسالة مزدوجة، فهي تهدف إلى طمأنة دول الجناح الشرقي من جهة، وإظهار التزام واشنطن وبروكسل بالرد على أي انتهاك محتمل من جهة أخرى.

وفي المقابل، تصر موسكو على أن هذه التحركات جزء من سياسة تطويق تستهدف أمنها القومي، وتتعامل معها بوصفها تهديداً مباشراً.

في هذا السياق، يبرز السؤال المحوري: هل يسعى الطرفان إلى تجنب مواجهة مفتوحة، أم أن كثافة التحركات الجوية والتدريبات العسكرية قد تخلق «خطأ استراتيجياً» يقود إلى صراع غير مرغوب فيه؟

ضغط نفسي

لا يرجح الأستاذ بكلية موسكو العليا، الدكتور رامي القليوبي احتمال مواجهة عسكرية، موضحاً لدى حديثه مع «البيان» أن «ما يحدث هو بالدرجة الأولى أداة للضغط النفسي، الهدف منها منع روسيا من المساس بالمصالح الأوروبية وحلف الناتو».

ويشير إلى أن «موسكو تختبر مدى جاهزية الاتحاد الأوروبي والحلف للرد، وقد نجحت إلى حد كبير في كشف هشاشة الموقف، خصوصاً بعد أن لم يتم التعامل مع الاستنجاد البولندي بالجدية المطلوبة، وهو ما فضح ضعف قناعة الناتو بالدفاع الفعلي عن أعضائه».

ويتهم الكرملين الغرب بالتصعيد، منتقداً ما وصفه بالجهود الروسية للتوصل إلى اتفاق سلام في أوكرانيا. فيما قد فشلت مساعٍ أمريكية أخيراً في إحلال ذلك السلام الذي كان الموضوع الرئيسي على طاولة الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين في لقائهما الاستثنائي الأخير.

مواجهة عسكرية

على الجانب الآخر، يعتقد المحلل السياسي من موسكو، ديمتري بريجع، في تصريحات لـ «البيان» بأن هناك احتمالاً لتوسع المعركة بين روسيا وأوكرانيا إلى دول الجوار، وتحديداً دول شرق أوروبا والدول التي كانت ضمن الاتحاد السوفييتي سابقاً، والتي أصبحت دولاً مستقلة بعد انهياره عام 1991.

هذه الدول تواجه تحديات داخلية كبيرة بسبب الانقسامات السياسية، ذلك أن هناك تيارات تدعم التقارب مع روسيا وعدم مساندة أوكرانيا، في مقابل تيارات أخرى ترى ضرورة الاستمرار في دعم كييف، باعتبارها الجبهة الأمامية لأوروبا، وأن سقوطها يعني تهديد أمن دول أوروبية أخرى وسقوطها في يد روسيا. ويضيف: «المسألة هنا ليست مجرد خلاف سياسي، بل قضية أمن قومي أوروبي، في ظل غياب أي حلول سياسية للأزمة الأوكرانية»، مشيراً إلى أن «التصعيد بات سيد الموقف، خصوصاً مع رسائل واضحة من الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو تؤكد الاستعداد لمواجهة روسيا، مقابل تعزيز موسكو لتحالفها مع بيلاروسيا، التي تمثل خط الدفاع الأول لها».

ويرى أن «الاستهدافات الأخيرة للمسيرات الروسية التي طالت مناطق شرق بولندا ودولاً أخرى، توحي بأن المعركة قد تمتد تدريجياً إلى دول الجوار، رغم نفي موسكو استهداف أي أراضٍ غير أوكرانية وتأكيدها أن ضرباتها تقتصر على منشآت عسكرية في الداخل الأوكراني».

توازن دقيق

من جانبه، يوضح الباحث المتخصص في العلاقات الدولية وتحليل السياسات العامة، أبو بكر الديب لـ «البيان» أن الوضع العسكري الراهن يعكس توازناً دقيقاً؛ فبينما تمتلك روسيا قدرات جوية متقدمة وأنظمة دفاع قوية، يعتمد الناتو على سرعة الانتشار والرد الجماعي، ما يجعل احتمالات المواجهة المباشرة «محدودة» لكنها تبقى قائمة في حال وقوع حادث تكتيكي غير محسوب.

ويشير إلى أن هذه التوترات تمتد إلى أبعاد دبلوماسية واستراتيجية تمس استقرار أوروبا؛ فالحوادث الجوية قد تتحول إلى أزمات سياسية أو عقوبات جديدة، وهو ما يجعل الحذر وإدارة التصعيد عاملين أساسيين في قرارات الطرفين، لافتاً في الوقت نفسه إلى أن الناتو يركز حالياً على تعزيز المراقبة الجوية، وتطوير قنوات الاتصال مع روسيا لتفادي سوء الفهم، مع الاستمرار في المناورات العسكرية كرسالة ردع. فيما تستخدم موسكو هذه التحركات أداة ضغط أكثر من كونها استعداداً لمواجهة عسكرية شاملة.

وبالتالي فإن أوروبا أمام اختبار حقيقي لإدارة هذا التوتر الاستراتيجي، والمطلوب هو الحفاظ على اليقظة وتجنب الانجرار إلى مواجهة مسلحة قد تكون عواقبها كارثية على أمن واستقرار القارة.