التصعيد الأمريكي ضد فنزويلا.. ردع أم مواجهة؟

في لحظة دولية يتصاعد فيها التنافس بين القوى الكبرى، يعود التوتر بين الولايات المتحدة وفنزويلا إلى واجهة المشهد الجيوسياسي، لكن هذه المرة بأدوات أكثر حدة وإشارات أكثر التباساً.

الأزمة لم تعد مجرد خلاف سياسي مزمن أو ملف عقوبات تقليدي، بل تحولت إلى اختبار عملي لحدود القوة، ولمدى قدرة الردع غير المباشر على إدارة الأزمات دون الانزلاق إلى مواجهات عسكرية مفتوحة.وبين تحركات بحرية وجوية محسوبة، وإجراءات قانونية واقتصادية مشددة، وخطابات سيادية متصلبة، يبرز سؤال جوهري: هل تُدار هذه الأزمة بعقل بارد ضمن قواعد لعبة محسوبة، أم أنها تسير تدريجياً نحو مسار تصعيدي قد يخرج عن السيطرة.

التساؤلات لا تتوقف عند نيات واشنطن أو ردود كراكاس، بل تمتد إلى الإقليم برمته: إلى أي حد تستطيع الولايات المتحدة فرض قواعد سلوك جديدة في فضائها القريب بأمريكا اللاتينية؟ وهل تملك فنزويلا هامش المناورة الكافي لتحويل الضغط الخارجي إلى ورقة صمود داخلي؟ثم ماذا عن دول الجوار التي تجد نفسها عالقة بين منطق الاستقطاب ومتطلبات الاستقرار؟

وفي ظل غياب مبادرة إقليمية جماعية فاعلة، يصبح الصمت الدبلوماسي بحد ذاته مؤشراً مقلقاً على هشاشة التوازن القائم.هنا، لا تُطرح الأزمة بوصفها مواجهة ثنائية فحسب، بل مرآة لتحولات أعمق في النظام الدولي، حيث لم تعد القوة العسكرية أداة حسم نهائي، ولا الدبلوماسية وحدها قادرة على الاحتواء. وبين الردع والتفادي، تتشكل أزمة مفتوحة على احتمالات متعددة، تتقدم ببطء.. لكن بثقل استراتيجي كبير.

الدور الأمريكي

يرى خبراء في شؤون أمريكا اللاتينية أن التصعيد الأخير بين الولايات المتحدة وفنزويلا لا يمكن قراءته بوصفه اندفاعاً عسكرياً تقليدياً، بل باعتباره إعادة تعريف مدروسة لدور واشنطن في نصف الكرة الغربي. فالإجراءات الأمريكية المتصاعدة، من تضييق جوي وبحري، إلى تشديد قانوني ومالي، تعكس مقاربة «الضغط الذكي» بدلاً من التدخل العسكري المباشر.

ووفق هذا المنطق، تسعى الولايات المتحدة إلى إعادة ضبط ميزان القوة وإرسال رسائل ردع واضحة، دون تحمل كلفة الحرب المفتوحة أو تبعاتها السياسية والإنسانية.ويشير الخبراء إلى أن هذه المقاربة تأتي في وقت باتت فيه واشنطن أكثر حذراً من التورط العسكري الخارجي، بعد تجارب طويلة ومكلفة في الشرق الأوسط. ومن هنا، تُستخدم فنزويلا نموذجاً لإيصال رسالة أوسع إلى دول المنطقة مفادها أن الخروج عن الفلك الأمريكي لا يمر دون أثمان سياسية واقتصادية متراكمة، حتى وإن لم يصل إلى حد المواجهة العسكرية المباشرة.

عقدة فنزويلا الداخلية

ويؤكد محللون أن واشنطن لم تخلق الأزمة الفنزويلية، لكنها تُحسن استثمارها. ففنزويلا تعاني أصلاً من هشاشة اقتصادية عميقة، واستقطاب سياسي حاد، وأزمة ثقة داخلية ممتدة، ما يجعلها ساحة مفتوحة للضغط الخارجي. ومن ثم يعتمد النظام في كراكاس، بقيادة نيكولاس مادورو، خطاب «المواجهة مع الإمبريالية» لتعزيز التماسك الداخلي، في حين تعتمد واشنطن خطاب «استعادة الديمقراطية» و«حماية الأمن الإقليمي» لتبرير سياساتها.

وفي هذا الاشتباك الخطابي، تتحول الأزمة من صراع سياسي إلى حالة استقطاب رمزي، تُستثمر فيها معاناة الداخل الفنزويلي كورقة ضغط في لعبة أكبر من حدود الدولة نفسها، وتُدار فيها الأزمة باعتبارها ملفاً إقليمياً لا شأناً داخلياً محضاً.توقيت التصعيد بحسب الخبراء،

لا يمكن فصل التصعيد الأمريكي عن لحظة دولية أوسع تشهد إعادة تشكيل للنظام العالمي. فمع تراجع القدرة الأمريكية على فرض إرادتها منفردة، وتمدد أدوار قوى منافسة في أمريكا اللاتينية، تعود المنطقة لتتصدر الحسابات الاستراتيجية. كما أن عودة النفط إلى قلب المعادلات الجيوسياسية تجعل فنزويلا، بما تملكه من احتياطيات ضخمة، عنصراً لا يمكن تجاهله.

ويذهب بعض المحللين إلى أن واشنطن لا تسعى بالضرورة إلى إسقاط النظام الفنزويلي، بقدر ما تسعى إلى إبقائه تحت السيطرة ومنع تحوله إلى منصة نفوذ لقوى دولية منافسة. وعليه، فإن السيناريو المرجّح ليس الحرب، بل استمرار «التصعيد دون انفجار»، أي إبقاء فنزويلا في حالة ضغط دائم يحد من قدرتها على المناورة الاستراتيجية.

شرطي عالمي أم قوة قلقة؟

حول شرعية الدور الأمريكي، ينقسم الخبراء في التوصيف لا في التشخيص. فبينما تبدو الولايات المتحدة وكأنها تمارس دور «الشرطي العالمي»، يعكس سلوكها، وفق هذا التحليل، قلق قوة كبرى أكثر مما يعكس غطرسة مطلقة. فاللجوء إلى العقوبات والضغط غير المباشر بدلاً من التدخل العسكري يكشف إدراك واشنطن تآكل قدرتها على فرض الحلول بالقوة الصلبة.وفي المقابل، يطرح هذا النهج تساؤلات قانونية وأخلاقية حول حدود التدخل، واحترام سيادة الدول، ومستقبل النظام الدولي القائم على القواعد.

 ةفي هذا السياق، يرى د. محمد عطيف، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة شعيب الدكالي بالجديدة في المغرب، أن التوتر القائم يعكس تحوّلاً واضحاً في أدوات إدارة الخلاف بين واشنطن وكراكاس.

ويوضح أن الولايات المتحدة لم تعد تعتمد فقط على الضغط الدبلوماسي والاقتصادي، بل باتت تُدرج البعد العسكري ضمن منظومة الردع وضبط السلوك السياسي، دون أن يصل ذلك إلى مستوى قرار التدخل العسكري الشامل.

ويقول عطيف إن التحركات البحرية الأمريكية، والإجراءات ذات الطابع العسكري غير المباشر، تندرج ضمن منطق «التصعيد المحدود»، وهو نمط شائع في إدارة الأزمات الدولية عندما تسعى قوة كبرى إلى تعديل موازين القوة دون تحمل كلفة الحرب المفتوحة.

ويضيف أن هذا السلوك يرتبط باعتبارات استراتيجية متداخلة تتعلق بأمن حوض الكاريبي، واستقرار طرق الطاقة، ومكانة الولايات المتحدة في نظام دولي يشهد تصاعد التنافس بين القوى الكبرى.

وفي المقابل، يؤكد أن فنزويلا تنظر إلى هذه التحركات بوصفها تهديداً مباشراً لسيادتها، ما يدفعها إلى تعزيز خطاب الصمود والبحث عن دعم خارجي، الأمر الذي يرفع منسوب الاستقطاب بدل احتوائه.

تطور نوعي غير مسبوق

من جانبها، تقول د. صدفة محمد محمود، الباحثة المتخصصة في شؤون أمريكا اللاتينية، إن التصعيد العسكري الأمريكي ضد فنزويلا يمثل تطوراً نوعياً وغير مسبوق منذ سنوات في تاريخ العلاقات بين البلدين، ويعكس تصاعداً لافتاً في مستوى الحضور العسكري الأمريكي في منطقة الكاريبي، خاصة خلال الدورة الرئاسية الثانية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

وتوضح أن واشنطن نفذت خلال الأشهر الماضية تحركات عسكرية واسعة، شملت نشر نحو 15 ألف جندي، وإرسال حاملة الطائرات «فورد»، إلى جانب توقيع اتفاقيات تعاون أمني سمحت بتوسيع الانتشار العسكري في دول الجوار، ولا سيما كولومبيا، فضلاً على تكثيف التحليق البحري والجوي قرب السواحل الفنزويلية.

وتؤكد أن التصعيد لم يقتصر على الجانب العسكري، بل ترافق مع إجراءات سياسية وقانونية شديدة، من بينها تصنيف الرئيس الفنزويلي وعدد من أعضاء حكومته ضمن «منظمات إرهابية أجنبية»، وفرض عقوبات على أفراد من عائلة مادورو وقيادات مقربة منه،

كما شهدت الفترة الأخيرة تصعيداً اقتصادياً تمثل في مصادرة ناقلات نفط، وفرض قيود على المجال الجوي، وتشديد الخناق على صادرات النفط، في محاولة واضحة لخنق الاقتصاد الفنزويلي وحرمان النظام من موارده الأساسية.

وتشير الباحثة إلى أن كراكاس ردت بتحركات دبلوماسية واسعة، شملت اللجوء إلى الأمم المتحدة، ومنظمة أوبك، والمنظمة البحرية الدولية، فضلاً على تعزيز علاقاتها مع روسيا والصين وإيران. لكنها ترى أن الأهداف الأمريكية الحقيقية تتجاوز خطاب مكافحة المخدرات، لتشمل الحد من نفوذ هذه القوى، وإعادة ترسيخ الحضور الأمريكي في أمريكا اللاتينية، فضلاً على البعد النفطي المرتبط بالسيطرة على موارد فنزويلا الاستراتيجية.

وتخلص الباحثة د. صدفة محمد محمود إلى أن العلاقات بين الطرفين تتجه على الأرجح نحو مزيد من التوتر والتصعيد، بما قد ينعكس سلباً على استقرار أمريكا اللاتينية ككل، إلا أن مستقبل الصراع سيظل مرهوناً بعوامل عدة، في مقدمتها الموقف الأمريكي وحدود استعداده للانتقال من الضغط إلى التدخل العسكري المباشر، سواء عبر عمليات برية، أو ضربات دقيقة تستهدف مصالح أو أصولاً تابعة للنظام الفنزويلي.