لم تعد الحروب تُخاض بالدبابات وحدها، ولا تُحسم بالحدود والجغرافيا فقط، بل باتت تُدار عبر مختبرات الرقائق الإلكترونية، ومناجم المعادن الأرضية النادرة. وفي هذا السياق المتحوّل، يطل تحالف «باكس سيليكا» بوصفه محاولة أمريكية لإعادة رسم خريطة القوة العالمية، حيث تتقاطع التكنولوجيا مع السياسة، والاقتصاد مع الأمن القومي.
مبادرة تقول واشنطن إنها تسعى إلى «السلام التكنولوجي»، خاصة مع اختيار الدول المشاركة بعناية.. ما يطرح سؤالاً ملحاً: هل نحن أمام نظام تعاون دولي جديد، أم بداية حرب باردة رقمية تُدار بالسيليكون بدل الصواريخ؟
يرى خبراء دوليون أن إطلاق مبادرة «باكس سيليكا» يعكس تحوّلاً استراتيجياً في مقاربة الولايات المتحدة وحلفائها لملف التكنولوجيا المتقدمة، لا سيما الذكاء الاصطناعي والعناصر الأرضية النادرة، بعد سنوات من الاعتماد المكثف على سلاسل توريد تهيمن عليها الصين.
تقليص المخاطر
ويؤكد الخبراء أن الدافع الأساسي وراء التحالف يتمثل في تقليص المخاطر الجيوسياسية والاقتصادية المرتبطة بتركيز الموارد الحيوية في يد دولة واحدة، خاصة في ظل تصاعد التوترات التجارية والتكنولوجية عالمياً.
كما يلفتون إلى أن الذكاء الاصطناعي بات عنصراً حاسماً في موازين القوة الدولية، ما يجعل تأمين مواده الخام وبنيته التحتية الرقمية أولوية تتجاوز الاعتبارات الاقتصادية إلى اعتبارات الأمن القومي.
ويشير الخبراء إلى أن اختيار الدول المشاركة في «باكس سيليكا» لم يكن عشوائياً، بل جاء بناءً على تكامل أدوارها داخل منظومة التكنولوجيا العالمية. فاليابان وكوريا الجنوبية تمثلان قلب الصناعات الإلكترونية المتقدمة، بينما توفر هولندا مفاتيح حيوية في مجال معدات تصنيع الرقائق، وتضيف المملكة المتحدة وإسرائيل زخماً بحثياً وابتكارياً عالي المستوى.
دور محوري للإمارات
ويؤكد الخبراء أن دولة الإمارات تبرز بوصفها لاعباً صاعداً في الاقتصاد الرقمي والاستثمارات التكنولوجية، مع قدرة واضحة على الربط بين رأس المال، والبنية التحتية المتقدمة، والبيئة التنظيمية الجاذبة.
ويرى الخبراء أن وجود الإمارات يعكس إدراكاً دولياً لدورها كمركز إقليمي وعالمي قادر على دعم سلاسل التوريد الجديدة، واستضافة مشاريع بحثية وصناعية مرتبطة بالذكاء الاصطناعي.
أما على صعيد الأهداف، فيؤكد الخبراء أن التحالف يسعى إلى بناء منظومة متكاملة تبدأ من استخراج ومعالجة العناصر الأرضية النادرة، ولا تنتهي عند تطوير الرقائق الإلكترونية وتطبيقات الذكاء الاصطناعي المتقدمة.
ويضيفون أن «باكس سيليكا» لا يستهدف فقط منافسة الصين اقتصادياً، بل يسعى أيضاً إلى وضع معايير جديدة للحوكمة التكنولوجية، تشمل الشفافية، وأمن البيانات، والاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي.
فرص وتحديات
كما يلفتون إلى أن المبادرة تحمل بعداً استثمارياً طويل الأمد، من خلال تحفيز رؤوس الأموال المشتركة، وتوطين الصناعات الحساسة داخل دول موثوقة سياسياً، بما يقلل من الصدمات المحتملة في حال حدوث أزمات دولية أو قيود تصدير مفاجئة.
وحول فرص النجاح، يرى الخبراء أن التحدي الأكبر يتمثل في قدرة دول التحالف على تنسيق سياساتها الصناعية والتجارية بوتيرة سريعة، في ظل اختلاف أولوياتها الاقتصادية.
ومع ذلك، يؤكدون أن فرص النجاح تبقى مرتفعة نسبياً، نظراً لما تمتلكه هذه الدول من ثقل تكنولوجي ومالي، إضافة إلى الإرادة السياسية الواضحة لتنويع سلاسل التوريد العالمية.
ويخلص الخبراء إلى أن مشاركة دول مثل الإمارات وأستراليا تمنح التحالف عمقاً جغرافياً واستثمارياً، ما يعزز مرونته وقدرته على الاستدامة.
وأنه في حال نجح «باكس سيليكا» في تحقيق أهدافه، فقد يشكل نقطة تحول في النظام التكنولوجي العالمي، وينقل مركز الثقل في الذكاء الاصطناعي من الاحتكار إلى الشراكة متعددة الأطراف.
تحولات القوة العالمية
في هذا الإطار، يقول الدكتور محمد بوبوش، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة محمد الأول في وجدة بالمغرب، إن إطلاق إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتحالف «باكس سيليكا» لا يخرج عن نمطها المعروف في كسر القوالب التقليدية في إدارة العلاقات الدولية، لكنه في الوقت نفسه يعكس إدراكاً متقدماً لطبيعة التحولات الجارية في بنية القوة العالمية.
ويوضح أن التحالف، الذي أُعلن عنه خلال يومي 11 و12 ديسمبر الجاري، يهدف أساساً إلى بناء سلاسل توريد آمنة للسيليكون والمعادن الأرضية النادرة والتقنيات المتقدمة، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات، في مواجهة الهيمنة الصينية التي تسيطر على ما بين 85 و90 في المئة من عمليات معالجة هذه الموارد الحيوية عالمياً.
ويضيف بوبوش أن تركيبة التحالف، التي تضم الولايات المتحدة إلى جانب الإمارات واليابان وإسرائيل وأستراليا وسنغافورة وكوريا الجنوبية، مع انفتاحه منذ القمة الأولى على الاتحاد الأوروبي وكندا وهولندا، تعكس سعياً أمريكياً لبناء تكتل تكنولوجي–اقتصادي عابر للأقاليم، وليس مجرد تحالف سياسي تقليدي.
ويرى أن تقديم «باكس سيليكا» بوصفه مشروعاً لدمج التكنولوجيا المتقدمة – مثل الذكاء الاصطناعي والطائرات من دون طيار والأقمار الصناعية – في آليات حفظ السلام العالمي، يندرج ضمن خطاب جديد تسوّق له إدارة ترامب تحت مسمى «تكنولوجيا السلام»، في محاولة لإقناع المجتمع الدولي بأن الصراعات المستقبلية يمكن إدارتها، بل وحلها، عبر الأدوات التكنولوجية بدل الحروب التقليدية، مستندة في ذلك إلى تجارب سابقة مثل اتفاقيات أبراهام.
«ستار سيليكوني»
لكن بوبوش يشدد على أن هذا الطرح لا يمكن فصله عن السياق الجيوسياسي الأوسع للصراع الأمريكي–الصيني، موضحاً أنه إذا كان القرن العشرون قد شهد إسدال «الستار الحديدي» الذي قسّم العالم أيديولوجياً، فإن ما نشهده اليوم هو بداية تشكل «ستار سيليكوني» جديد، تقوده واشنطن في مواجهة بكين.
ويؤكد أن الربط الذي يطرحه التحالف بين أمن التكنولوجيا والوصول إلى المعادن الأرضية النادرة ليس مجرد ربط نظري، بل يعكس حقيقة بنيوية في الاقتصاد العالمي الجديد، حيث تُعد هذه العناصر العمود الفقري للمغناطيسات المتقدمة، وأجهزة الاستشعار، والإلكترونيات عالية الأداء، وأنظمة الدفاع، وكلها تشكل الأساس المادي لتطور الذكاء الاصطناعي والروبوتات والتقنيات العسكرية المتقدمة.
ويوضح أستاذ العلاقات الدولية أن الدافع الحقيقي وراء «باكس سيليكا» يتمثل في السعي إلى كسر السيطرة الصينية شبه المطلقة على المعادن الأرضية النادرة، التي لا غنى عنها في الصناعات المدنية والعسكرية على حد سواء.
ويضيف أن هذا الدافع يتعزز في ظل الاستثمارات الضخمة التي ضختها بكين خلال السنوات الأخيرة في مجالات الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية، ما منحها تفوقاً استراتيجياً مؤثراً على مستوى النظام الدولي، وميزة تنافسية حاسمة في اقتصاد القرن الحادي والعشرين.
ويرى أن تنويع سلاسل الإمداد لم يعد خياراً بالنسبة لواشنطن وشركائها، بل ضرورة استراتيجية، يسعى التحالف إلى تأطيرها مؤسسياً عبر تطوير موردين ومصنعين بديلين يقللون، تدريجياً، من الاعتماد البنيوي على الصين.
ويشير بوبوش إلى أن مشروع «باكس سيليكا» لا يقتصر على الجانب الصناعي أو التقني، بل يهدف أيضاً إلى تعزيز الابتكار والاستقلال الاقتصادي من خلال شراكات واسعة في مجالات التصنيع المتقدم، واللوجستيات، والبنية التحتية للطاقة، ضمن مقاربة تعتمد على الاستثمار الخاص والدبلوماسية الاقتصادية.
ويعتبر أن التحالف يُقدَّم بوصفه محاولة لبناء «نظام اقتصادي دائم» يضمن الازدهار في عصر الذكاء الاصطناعي، مع تركيز خاص على القضايا الحساسة مثل فصل المعادن وإنتاج المغناطيسات، وهي حلقات طالما شكلت نقطة قوة مركزية للصين في سلاسل القيمة العالمية.
فرص النجاح
وفي ما يتعلق بفرص النجاح، يرى بوبوش أن قوة التحالف تكمن في الطبيعة التكميلية لقدرات أعضائه، حيث تمتلك دول مثل أستراليا وفرة في الموارد المعدنية، بينما تتصدر اليابان وكوريا الجنوبية صناعة أشباه الموصلات، في حين تحظى إسرائيل بمكانة متقدمة في التقنيات الدفاعية.
ويضيف أن مشاركة الإمارات تمنح التحالف بعداً لوجستياً واستثمارياً مهماً، نظراً لموقعها كمركز عالمي للطاقة والنقل، واستثماراتها الواسعة في البنية التحتية الرقمية والذكاء الاصطناعي، فضلاً عن قدرتها على لعب دور محوري في بناء سلاسل توريد آمنة للسيليكون والمعادن النادرة وأشباه الموصلات.
وفي المقابل، يحذر بوبوش من جملة تحديات قد تعيق مسار التحالف، في مقدمتها النفوذ الصيني الواسع، إذ لا تزال بكين تسيطر على نحو 70 في المئة من إنتاج المعادن الأرضية النادرة ونحو 95 في المئة من عمليات معالجتها، ما يمنحها قدرة كبيرة على استخدام القيود التصديرية كسلاح جيوسياسي.
كما يلفت إلى غياب قوى كبرى مثل الهند عن التحالف، رغم وجود محادثات تجارية، وإلى التساؤلات المطروحة حول انضمام دول أخرى مثل تركيا، التي تمتلك احتياطيات ضخمة من العناصر النادرة لكنها تفتقر إلى القدرات الصناعية اللازمة لمعالجتها، ما يحد من ترجمة هذه الموارد إلى نفوذ استراتيجي فعلي.
ويخلص بوبوش إلى أن «باكس سيليكا» يعكس تحولاً واضحاً في مفهوم القوة الناعمة، من الدبلوماسية التقليدية إلى «القوة التقنية»، لكنه في الوقت نفسه يتجاهل الجذور السياسية العميقة للنزاعات الدولية.
ويرى أن نجاح التحالف قد يؤدي إلى إعادة تشكيل النظام الدولي والمؤسسات متعددة الأطراف وفق نموذج تكنولوجي ذي هيمنة أمريكية، بينما قد يفضي فشله إلى تكريس منطق «الحرب الباردة الرقمية»، حيث تصبح التكنولوجيا امتيازاً للنخب والدول المنضوية في التكتلات الكبرى، لا حقاً إنسانياً مشتركاً يقوم على العدالة والحوار.
دول متفوقة
بدوره، يقول خبير الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي د. أحمد بانافع، إن التحالف المقترح تحت مسمى «باكس سيليكا – Pax Silica» يعكس توجهاً جديداً في التفكير الجيوسياسي والتقني، حيث لم تعد التحالفات تُبنى على أساس عسكري أو أيديولوجي فقط، بل على أساس السيطرة على مفاصل التكنولوجيا المتقدمة وسلاسل التوريد المرتبطة بها. ويضيف أن تشكيل الدول المشاركة يكشف الكثير عن طبيعة التحالف وأهدافه.
ويوضح د. بانافع أن التركيبة الحالية للتحالف تمثل مزيجاً محسوباً بعناية بين دول متفوقة تقنياً وعلمياً، وأخرى تمتلك الموارد أو القدرة التمويلية والبنية التحتية.
فالدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، اليابان، كوريا الجنوبية، هولندا، والمملكة المتحدة، تتحكم في مراحل حساسة من صناعة أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي، فيما تلعب أستراليا دوراً محورياً في توفير المعادن الحرجة والعناصر الأرضية النادرة.
الإمارات مركز استثماري وتقني
ويتابع: تبرز الإمارات مركزاً استثمارياً وتقنياً يسعى لترسيخ مكانته في مراكز البيانات والذكاء الاصطناعي، بينما تمثل إسرائيل وسنغافورة نموذج الابتكار العالي في التطبيقات الأمنية والتجارية. ويشير إلى أن هذه التركيبة تمنح التحالف سيطرة فعلية على نقاط الاختناق في سلسلة التوريد العالمية.
ويرى د. بانافع أن الهدف المعلن هو تقليل الاعتماد على الصين في مجال العناصر الأرضية النادرة وتطوير التقنيات المتقدمة، لكن الهدف العميق يكمن في إعادة رسم خريطة القوة التقنية عالمياً. يشمل ذلك تأمين مصادر بديلة للمعادن الاستراتيجية، وبناء منظومة متكاملة لصناعة الرقائق خارج النفوذ الصيني، وتطوير الذكاء الاصطناعي في بيئة تعتبرها الدول الغربية أكثر أماناً سياسياً واستراتيجياً.
التحديات
ويشير د. بانافع إلى أن التحالف يمتلك عناصر قوة حقيقية مثل التفوق البحثي ورأس المال ومعدات تصنيع الرقائق، لكن التحديات كبيرة، منها الوقت والتكلفة المطلوبة لتطوير سلاسل توريد بديلة، ووجود دول تحافظ على علاقات اقتصادية مع الصين، ما قد يدفعها إلى سياسة توازن. لذلك، من المرجح أن يتحقق التقدم تدريجياً، عبر تقليل الاعتماد على الصين وليس الانفصال الكامل والسريع.
