من غزة إلى كشمير.. اتفاقات السلام "جسور معلقة" فوق نار الأزمات

في عالم يموج بالصراعات المتشابكة، لا تبدو اتفاقات السلام سوى جسور معلّقة فوق هواء سياسي متقلّب؛ تُشيَّد تحت ضغط اللحظة، ثم تُترك في مواجهة رياح الحسابات المتغيرة.

من غزة إلى كشمير، ومن حدود كمبوديا وتايلاند إلى التخوم الوعرة بين باكستان وأفغانستان، تتكرر القصة ذاتها: توقيع احتفالي يُبشر بمرحلة هادئة، ثم سلسلة خروقات تعيد المشهد إلى بداياته.

وبينما تنتظر الشعوب نهاية للصراعات، يكشف الواقع أن كثيراً من الاتفاقات لا تزال حبيسة الهشاشة والفشل، لا تحتمل زلّة ميدانية ولا تبدّلاً سياسياً طفيفاً. فما الأسباب التي تجعل هذه التفاهمات في مهبّ الريح، وعرضةً للفشل في أي لحظة؟

يرى خبراء في النزاعات الدولية أن اتفاقات التهدئة الخاصة بغزة تمثّل أحد أكثر النماذج وضوحاً لعدم قدرة الاتفاقات على الصمود أمام الضغوط الميدانية.

الصراع في غزة غير متكافئ بطبيعته، حيث يمتلك الجيش الاسرائيلي القوة العسكرية والسياسية الأكبر، ما يسمح له بتغيير قواعد الاشتباك أو خرق التفاهمات متى شاء، وفق حساباته الأمنية. ويؤكد الخبراء أن اتفاقات غزة غالباً ما تُبرم تحت ضغط دولي أو إنساني، وليس لأنها تسويات سياسية حقيقية.

ولهذا، فإن أي حادث بسيط، أو حتى تقدير استخباراتي داخل إسرائيل، كفيل بإسقاط التفاهمات وإعادة المنطقة إلى نقطة الصفر. كما أن غياب المسار السياسي المستدام يجعل هذه الاتفاقات مجرد ترتيبات مؤقتة لإدارة الأزمة، وليست حلولاً دائمة قادرة على الصمود.

شكوك عميقة

وفي حالة الهند وباكستان، يوضح الخبراء أن هشاشة الاتفاقات لا ترتبط بضعف داخلي لدى الدولتين، فهما قوتان نوويتان تمتلكان مؤسسات قوية وجيوشاً منظمة، بل بسبب طبيعة الخلاف نفسه وامتداده التاريخي والقومي.

فملف كشمير يظل الجرح المفتوح الذي يُغذي الشكوك العميقة بين الجانبين، ويجعل أي اتفاق هشّاً أمام التوترات أو الاستفزازات على خط المراقبة. كما أن وجود جيوش كبيرة ومواقع استراتيجية حساسة يجعل أي احتكاك، ولو محدوداً، قادراً على التصعيد بسرعة تفوق قدرة الدبلوماسية على الاحتواء.

ويرى المختصون أن الاتفاقات بين البلدين غالباً ما تُبنى على التهدئة الظرفية وليس على معالجة جذور الأزمة.

روايات قومية مختلفة

أما في كمبوديا وتايلاند، فيشير الخبراء إلى أن سبب هشاشة التفاهمات بين البلدين يتعلق بطبيعة النزاع القائم حول الحدود والمعالم التاريخية، حيث يستند كل طرف إلى روايات قومية مختلفة بشأن المعابد والمناطق المتنازع عليها.

ويُضاف إلى ذلك أن الجيوش على جانبي الحدود تتعامل بحساسية شديدة مع أي شأن يخص السيادة، ما يجعل الاحتكاكات العسكرية واردة حتى في ظل وجود اتفاقات تهدئة.

كما أن تغيّر الحكومات أو تصاعد النزعات القومية في أي من البلدين قد يؤدي إلى إعادة إشعال الخلافات ولو كانت خامدة، وهو ما حدث مراراً خلال العقدين الماضيين. لذلك، يرى الخبراء أن الاتفاقات بين الطرفين تبقى قابلة للاهتزاز؛ لأنها مبنية على تفاصيل حساسة تتغير بتغير المناخ السياسي الداخلي، وليس على اتفاق شامل يرسم مستقبلاً نهائياً للحدود.

عوامل داخلية وخارجية

وفي حالات مثل باكستان وأفغانستان، يوضح الخبراء أن التفاهمات غالباً ما تتعرض للاختراق بسبب تداخل عوامل داخلية وخارجية في آن واحد.

فـ«خط ديورند» نفسه يمثل نقطة خلاف تاريخية لم يتم حسمها، بينما تعمل جماعات مسلحة على جانبي الحدود خارج سيطرة الدولة أحياناً، ما يجعل الالتزام بتفاهمات أمنية أمراً شديد الصعوبة.

الانحياز

في هذا السياق، يرى الخبير الإعلامي المتخصص في العلاقات الدولية، نبيل نجم الدين، أن فشل العديد من اتفاقات السلام يعود أساساً لخلل بنيوي في طبيعة الوساطة الدولية التي تُفترض أن تكون ضامناً للطرف الأضعف، لكنها في كثير من الحالات تتحول إلى طرف غير محايد.

ويشير نجم الدين إلى أن الحالة الأكثر وضوحاً تتمثل في غزة، حيث تلعب الولايات المتحدة دور الوسيط «الحصري» الذي يُفترض أن يمارس ضغطاً متوازناً على الطرفين، لكنه ينحاز سياسياً واستراتيجياً وأمنياً لصالح إسرائيل، ما يفقد الاتفاقات مضمونها العادل، ويجعلها مجرد ترتيبات فرضتها لحظة عسكرية وليس رغبة حقيقية في تسوية دائمة.

أبعاد

ويضيف نجم الدين أن بعض الاتفاقات تفشل لأسباب تختلف جوهرياً عن حالة غزة، كما في المثال النمطي بين الهند وباكستان. فهنا لا يتعلق الأمر بوسيط منحاز بقدر ما يرتبط بجذور صراع ممتد يستند إلى أبعاد دينية وهوياتية متجذرة يصعب تجاوزها عبر اتفاقات تقنية أو ترتيبات حدودية.

ويشير إلى أن ملف كشمير ليس خلافاً سياسياً عابراً، بل هو قضية تُلامس وجدان الهوية الوطنية والدينية لكلا البلدين، وهو ما يجعل أي اتفاق هشاً أمام أي توتر أو حادث بسيط على خط المراقبة. فحتى وجود سلاح نووي لدى الطرفين لم ينجح في خلق توازن يدعم السلام، بل أسهم في خلق ردع عسكري دون أن ينتج عنه ردع سياسي يمنع الخروقات.

ويختتم الخبير بأن أي اتفاق سلام لا يحظى بوسيط ضاغط، ولا يلامس جذور الصراع ولا يمتلك أدوات إلزام واضحة، سيظل في مهبّ الريح مهما بدا قوياً على الورق.

مؤكداً أن الاستدامة ليست نتاج التوقيع، بل نتاج الإرادة، والثقة، والضمانات الفعلية، وهي عناصر نادراً ما تجتمع في هذه البؤر الملتهبة.

جذور الصراع

بدوره، يرى الباحث السياسي وخبير العلاقات الدولية عامر تمام، أن كل اتفاق سلام له ظروفه الخاصة، ولا يمكن جمع أسباب الاختراق في كل الحالات بشكل موحد. فلكل طرف تاريخ سياسي وجيوسياسي مختلف، وخلفيات متباينة تؤثر على مسار أي اتفاق، لذلك فإن تقييم فشل أو اختراق أي اتفاق يجب أن يأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل حالة على حدة.

وبشكل عام، يشير عامر تمام إلى أن أحد أبرز أسباب عدم صمود اتفاقات السلام هو عدم معالجة جذور الصراع نفسها. بمعنى أن هذه الاتفاقات غالباً ما تضع حداً مؤقتاً للنزاع القائم، لكنها لا تعالج الأسباب العميقة التي أدت إليه، مثل النزاعات الحدودية، أو الأبعاد الدينية والهوية الوطنية. وبالتالي، تظل هذه الأسباب قائمة، وينفجر الصراع مرة أخرى عندما تتوافر ظروف أو أسباب جديدة تسمح بتجدده.

في حالة غزة، يوضح عامر تمام أن الاتفاقات الحالية لم تعالج جذور الصراع الفلسطيني. فالشعب الفلسطيني يناضل منذ أكثر من سبعين عاماً من أجل إقامة دولته المستقلة والحصول على حقوقه التاريخية وحق تقرير المصير.

الاتفاقات التي أعلن عنها، وفق قوله، اقتصرت على المرحلة الأولى البسيطة، دون الدخول في التفاصيل الأكثر تعقيداً للمرحلة الثانية، والتي تُعد الأكثر حساسية. وحتى في المرحلة الأولى، لم يتم وضع خارطة طريق واضحة لتنفيذ قرارات مجلس الأمن الخاصة بإنشاء دولة فلسطينية على حدود عام 1967.

ويضيف أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو أكد مراراً أنه لن يسمح بإقامة دولة فلسطينية، ما يجعل أي اتفاق سلام في غزة هشاً للغاية.

من وجهة نظره، فإن الاتفاقات القائمة لا تمثل سلاماً حقيقياً، بل محاولة فرض إرادة الطرف القوي على الطرف الأضعف، وبالتالي فهي مجرد هدنة مؤقتة ستتجدد فيها النزاعات طالما بقي الاحتلال قائماً.

هدن مؤقتة!

أما بالنسبة لقضايا أخرى، مثل الهند وباكستان، أو كمبوديا وتايلاند، أو باكستان وأفغانستان، فيرى عامر تمام أن كل قضية لها أبعادها الخاصة. على سبيل المثال، نزاع كشمير بين الهند وباكستان لم يُحل بعد، ما يجعل احتمالات تجدد الصراع قائمة دائماً.

أما في باكستان وأفغانستان، فهناك مشاكل أمنية وحدودية، لكنها أقل تعقيداً مقارنة بمسألة كشمير. وفي جميع هذه الحالات، غالباً ما يتم التوصل إلى اتفاقات لوقف إطلاق النار أو هدنة مؤقتة، لكنها لا تعالج جذور الصراع الأساسية، ولا يُعرض الحل على الطرفين بشكل يضمن قبولهما الكامل بمخرجاته.

ويضيف عامر تمام أن الاتفاقات الحديثة غالباً ما تفتقر إلى آليات لحل النزاعات في حال تجددها، فلا توجد خطوط اتصال مباشرة، ولا يوجد حرص حقيقي من الطرفين على عدم الإضرار بمصالح الآخر.

لذلك، يرى أن أي خروقات لهذه الاتفاقات، سواء في غزة أو في حالات الهند وباكستان، كمبوديا وتايلاند، أو باكستان وأفغانستان، تُعزى إلى عدم التوصل إلى حلول جوهرية لإنهاء النزاع، وغياب آليات فعالة لإدارة النزاعات، وهو ما يجعل هذه الاتفاقات عرضة للاختراق وتجدد النزاعات والحروب.

ويختم تمام حديثه لـ«البيان» بالقول: طالما لم يتم التوصل إلى اتفاق يعالج جذور الصراع، فإن ما يُسمى بـ«اتفاقات السلام» في هذه البؤر لا يمكن اعتبارها أكثر من هدن مؤقتة.