سوريا ما بعد الأسد.. تحدي التوافق لفرض دولة القانون والحفاظ على السيادة

السوريون يأملون في غد أفضل | أرشيفية
السوريون يأملون في غد أفضل | أرشيفية

قبل أن يطوي العام 2024 أيامه الأخيرة، شهدت سوريا نقطة تحول تاريخية مع سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، وسيطرة فصائل المعارضة على مقاليد الحكم بالبلاد، عبر حكومة انتقالية مؤقتة. بينما يبقى المشهد السوري محاطاً بتعقيدات هائلة، وبما يضع البلاد أمام مفترق طرق حاسم.

بين أمل الانتقال السياسي السلس وشبح الفوضى الذي يهدد بإعادة دمشق إلى مستنقع الصراعات، تبدو السيناريوهات مفتوحة على احتمالات متعددة.

تمثل الأوضاع الداخلية في سوريا تحدياً بالغ الصعوبة؛ في وقت تظل فيه البلاد مقسمة بفعل عقود من الصراعات. كما تعاني المؤسسات الوطنية من انهيار شبه كامل، بينما تواجه الحكومة الانتقالية مهمة إعادة سيطرة الدولة وسط انعدام الثقة بين المكونات الاجتماعية والسياسية.

الوضع الاقتصادي

وتعد الأوضاع الاقتصادية تحدياً جذرياً؛ فالبنية التحتية شبه مدمرة، والعملة السورية «صارت بلا قيمة» عملياً، مما يعمق الأزمات المعيشية. كما تواجه الحكومة الانتقالية معضلة إعادة النازحين واللاجئين إلى مناطقهم الأصلية، وهو ملف حساس يهدد بتفجير صراعات جديدة ما لم يدار بحكمة ودقة.

على الصعيد الإقليمي، تواجه سوريا خطر التدخلات مما يجعل الانتقال السياسي رهيناً لتفاهمات إقليمية ودولية معقدة.

عملية الدعم

أما على المستوى الدولي، فإن المجتمع الدولي يدعم الحكومة الانتقالية مبدئياً، لكنه يبقى متردداً في تقديم خطوات جادة وعملية للدعم دون ضمانات واضحة بشأن تحقيق الاستقرار. وقد يؤدي هذا الموقف إلى إبطاء عملية إعادة الإعمار وتأخير التعافي الاقتصادي، مما يعزز احتمالات تفاقم الأزمات.

وفي هذا السياق المعقد، تبزغ مجموعة من السيناريوهات المستقبلية، في مقدمتها سيناريو الانتقال السلس والمأمول، الذي يمني السوريون النفس به. فإذا تمكنت الحكومة الانتقالية من تحقيق توافق وطني، وإطلاق عملية سياسية شاملة تضمن تمثيل جميع المكونات السورية، فقد تشهد البلاد بداية لمرحلة استقرار نسبي. بينما سيتطلب ذلك دعماً دولياً واسع النطاق ومبادرات جريئة لإعادة الإعمار وبناء الثقة، حسب محللين في تصريحات متفرقة لـ«البيان».

أما السيناريو الأخطر، وهو سيناريو الفوضى والانقسام. ففي حال فشل الحكومة الانتقالية في تحقيق توافق داخلي، قد تنزلق البلاد إلى فوضى شاملة يمكن أن يؤدي ذلك إلى ظهور قوى متطرفة جديدة أو تجدد الصراع المسلح بين الفصائل المختلفة.

كذلك من بين السيناريوهات، فإنه مع نقص خبرة الحكومة الانتقالية، قد تسعى قوى إقليمية إلى استغلال الوضع لترسيخ نفوذها، مما يجعل سوريا ساحة صراع بالوكالة من جديد. وسيكون لهذا السيناريو تداعيات كارثية على وحدة البلاد ومستقبلها.

فرصة نادرة

وتقف سوريا اليوم أمام فرصة نادرة للتعافي من سنوات الدمار، لكنها في الوقت ذاته تواجه خطر الانزلاق نحو فوضى جديدة. بينما يتطلب تحقيق سيناريو الانتقال السلس قيادة رشيدة قادرة على تجاوز الانقسامات الداخلية، ودعماً دولياً حقيقياً يتجاوز حدود البيانات الدبلوماسية إلى تقديم مساعدات ملموسة.

كما أن نجاح التجربة السورية في الانتقال السياسي سيكون بمثابة اختبار للمجتمع الدولي وقدرته على دعم دولة خرجت للتو من أتون الصراع، بحسب محللين، شددوا على أن الأمل يبقى معقوداً على أن تتحول سوريا إلى نموذج للانتقال السلمي، بعيداً عن دائرة العنف التي التهمت أحلام أجيال بأكملها.

طي صفحة الماضي

يخضع الوضع في سوريا لمراقبة دقيقة من قبل قوى دولية وإقليمية، بما في ذلك الولايات المتحدة وأوروبا، إضافة إلى العالم العربي. والإدارة الأمريكية على وجه الخصوص تراقب عن كثب تطورات الوضع السوري، مشددة على ضرورة وجود أفعال ملموسة بدلاً من التصريحات الرنانة، وهو ما يشير إليه الكاتب والمحلل السياسي، شريف شحادة، في تصريحات لـ«البيان» شرح خلالها الوضع في بلاده والفرص والتحديات التي تواجهها.

ويوضح أن «قيادة فصائل المعارضة السورية» التي تمثل جزءاً من الحكومة السورية الجديدة، تواجه تحديات كبيرة في كسب ثقة السوريين في الداخل والخارج، خصوصاً مع مراقبة مشددة من المجتمع الدولي، محذراً من أن أي توجه ارتدادي، كما كان في عهد النظام السابق، لن يكون مجدياً ولن يحقق أي تقدم. وبالتالي من الضروري أن تكون شاملة في سياساتها، وأن تعمل على التسامح مع الشعب السوري، والعفو عما مضى، وفتح صفحة جديدة تشمل كل المكونات السورية.

في السيناريو الأخطر، الذي يحذر منه شحادة، فإن «الانزلاق نحو أعمال فردية أو استبدادية سيكون مكلفاً، في وقت يسعى فيه الشعب السوري إلى تحقيق الاستقرار والانفتاح الاقتصادي، وإقامة علاقات إيجابية مع العالم العربي».

وهو ما عبرت عنه مواقف الأطراف الدولية المختلفة، وبينما أشادت بالرسائل الإيجابية المبدئية الصادرة عن المعارضة السورية، إلا أنهم يرون ضرورة أن تترجم إلى واقع على الأرض، وأن تكون سوريا لكل السوريين.

وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، في أحدث تلك المواقف، «إن انهيار نظام الأسد يمنح أملاً جديداً للشعب السوري. لكن هذه اللحظة من التغيير تنطوي أيضاً على مخاطر وتجلب المصاعب». كذلك دعا رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، إلى ضرورة الحذر بشأن مستقبل سوريا بعد نهاية حكم بشار الأسد قائلاً إن البلاد بحاجة إلى «حكم يمكن الوثوق به يمثل جميع السوريين».

الوحدة

كما اعتبر السيناتور جيم ريش، وهو أبرز الجمهوريين في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، أنه من الضرورة بمكان التمهل طويلاً لمراقبة ما سيحدث (في سوريا)، موضحاً أن زعماء المعارضة أدلوا بتصريحات مشجعة حول الوحدة وحقوق الإنسان لكن يتعين التريث حتى تتضح طريقة سلوكهم، بحسب ما نقلته عنه رويترز. كذلك أبدت مجموعة السبع استعدادها لدعم عملية انتقال نحو حكومة «جامعة» في سوريا.

نقص الموارد المالية

وبالعودة لتصريحات شحادة، فإنه يشير إلى أن التحديات الاقتصادية في سوريا هائلة، وتشمل نقص الموارد المالية، وضعف البنية التحتية للخدمات اليومية كالماء والكهرباء والخبز، مؤكداً أن التعاون مع الدول العربية ضروري لتقديم الدعم المالي والاقتصادي، خصوصاً في ظل الظروف المالية الصعبة التي تمر بها سوريا.

ووصف رئيس الوزراء السوري الجديد، محمد البشير، الوضع الاقتصادي في البلاد بأنه «بالغ السوء»، وذلك في أول تصريحات له بعد توليه المهمة.

وفيما يتعلق بالحروب في سوريا، يشير شحادة إلى أنها قد انتهت بشكل كبير، لكن التحديات الأمنية لا تزال قائمة، وخصوصاً في مواجهة الاعتداءات الخارجية مثل الضربات الإسرائيلية. داعياً إلى الاستفادة من القنوات الدبلوماسية مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن لإدانة هذه الاعتداءات والدفاع عن السيادة السورية.

ويختتم تصريحاته بالتأكيد على أهمية التوافق بين السوريين أنفسهم، والعمل المشترك للوصول إلى حل شامل للأزمة السورية، بما يضمن استقرار البلاد وتحقيق انتصار حقيقي للشعب السوري.

سيناريوهات رئيسية

وفيما يرى خبير العلاقات الدولية من برلين، محمد الخفاجي، أن تشكيل حكومة الإنقاذ واتخاذ خطوات جادة لطمأنة الأقليات قد يشكل فرصة لبداية استقرار نسبي في البلاد يشدد لدى حديثه مع «البيان» على أن هذا الاستقرار يبقى مرهوناً بالتغلب على تحديات سياسية واجتماعية عميقة، مبرزاً سيناريوهين اثنين بالنسبة للمشهد السوري المعقد.

السيناريو الأول (الانتقال السلس)، ويفترض هذا السيناريو تمكن حكومة الإنقاذ من تعزيز مصداقيتها من خلال تقديم خدمات فعالة وضمان الحقوق، كما حدث في إدلب، فإن سوريا قد تكون أمام نموذج حكم مستقر. وتأكيداً على ذلك، أظهرت الحكومة استعداداً لتحسين العلاقات مع الأقليات من خلال خطوات ملموسة (..) مما يبعث برسائل إيجابية حول تعزيز التعايش واحترام الحريات الدينية.

بينما السيناريو الثاني، وفق الخفاجي، فهو سيناريو (الانزلاق نحو الفوضى)، ذلك أن ثمة مخاطر من تصاعد الضغوط من قبل التيارات المتشددة داخل المعارضة السورية، والتي قد تعيد فرض سياسات صارمة (..). هذا السيناريو قد يضعف الثقة بين السكان المحليين ويؤدي إلى مزيد من الصراعات الداخلية. ومع ذلك، فإن التصريحات الأخيرة لقيادة المعارضة التي أكدت على الحريات الشخصية وخفضت من المخاوف بشأن التشدد قد تكون مؤشراً إيجابياً.
ويضيف: «رغم التصريحات المطمئنة والخطوات العملية، تظل الأقليات متوجسة من العودة إلى سياسات القمع أو الإقصاء بسبب التاريخ السابق»، مؤكداً أن تحقيق التعددية وطمأنة المجتمع الدولي يتطلب خطوات أعمق وأكثر شفافية، بما في ذلك ضمان حماية الأقليات وإشراكها الفعلي في الحياة العامة.

ويختتم خبير العلاقات الدولية حديثه، بالإشارة إلى أن حكومة الإنقاذ أمام فرصة حقيقية لتحسين الوضع في سوريا، ولكن نجاحها يعتمد على مدى قدرتها على تعزيز التعايش وضمان الحقوق، مع ضبط الضغوط الداخلية. وأكد أن تهيئة الأجواء لانتخابات حرة وصياغة دستور جديد يصوت عليه الشعب سيكونان أساسيين لتحقيق مستقبل مستقر وشامل.

وتستمر حكومة محمد البشير، كحكومة انتقالية حتى شهر مارس المقبل، ضمن عملية انتقال السلطة، وذلك بعد حرب استمرت منذ العام 2011 أنهت في الأخير حكم عائلة الأسد لسوريا.

وفيما يتطلع السوريون إلى المستقبل والمضي قدماً نحو انتقال سلس للسلطة في بلادهم، فإن المشهدين الداخلي المأزوم والخارجي المعقد، يهددان بمزيدٍ من التحديات وانتقال «صعب» في البلاد التي ترزح تحت وطأة أزمات غير مسبوقة على الصعد كافة.

تحذير

مؤسس مركز بروجن للدراسات، خبير العلاقات الدولية، رضوان قاسم، يرى أن سوريا «دخلت نفقاً مظلماً» يحمل في طياته احتمالات خطيرة قد تقود نحو تقسيم البلاد، في وقت تتوالى فيه المؤشرات على الأرض لتؤكد أن عوامل ذلك باتت أكثر وضوحاً وتعقيداً، مما يعمق الأزمة السورية ويجعلها أشد تأثيراً على دول الجوار، على حد وصفه.

ولدى حديثه مع «البيان» يشير إلى أن: «انهيار الدولة لا يعني سقوط النظام فقط، بل فقدان الشعب السوري لمقومات الاستقرار، وتحوله إلى ضحية في صراع القوى الدولية والإقليمية».

ويحذر على الجانب الآخر من شعارات «الانتقام» و«ارتكاب انتهاكات بحق المدنيين» بما قد يقود إلى تدهور الوضع الإنساني وتفاقم معاناة الشعب السوري (..) كما يحذر من تصاعد النزعات الانفصالية (..)، معتبراً أن الوضع الراهن يثير مخاوف كبيرة أيضاً على الدول المجاورة، مثل الأردن، الذي قد يجد نفسه في مواجهة تداعيات مباشرة لهذه الفوضى، خصوصاً في ظل طموحات إسرائيلية قديمة للتوسع.

ويختتم حديثه بالإشارة إلى أن سوريا في النهاية تبدو ضحية لصراع المصالح الدولية والإقليمية، حيث تستغل الدول الكبرى والإقليمية هذا النزاع لتحقيق أهدافها الخاصة، دون اكتراث بما يترتب على ذلك من مآسٍ للشعب السوري أو تهديد لاستقرار المنطقة بأكملها، مشدداً على أن الخروج من هذا الوضع يتطلب إرادة حقيقية من كل الأطراف للعودة إلى طاولة الحوار وإيجاد حل سياسي شامل يعيد لسوريا وحدتها واستقرارها ويجنب المنطقة مزيداً من التصعيد والصراعات، كما أنه رغم قتامة المشهد يبقى الأمل معقوداً على دور عربي وإقليمي مسؤول يدعم جهود السلام ويضع حداً لهذه المأساة المستمرة.