«كنائس غزة» تشتاق لصوت أجراسها

رغم إعلان وقف إطلاق النار قبل أشهر، ما زالت جروح الفلسطينيين، بمن فيهم المجتمع المسيحي، غائرة، والدمار يحيط بهم من كل جانب، لتقتصر احتفالات هذا العام على الصلوات والقداس داخل الكنائس، وعلى الدعوات لتحقيق السلام وإنهاء الألم والوجع.في مدينة اعتادت أن تصحو على الألم، لا على التراتيل، تقف كنائس غزة اليوم صامتة، كأنها تحبس أنفاسها بانتظار معجزة، ومع اقتراب حلول أعياد الميلاد المجيدة، لا شيء يعلو فوق الركام سوى الشوق،

شوق الكنائس لصوت أجراسها، وشوق الناس لفرح مؤجل منذ سنوات، لكنه هذا العام أكثر وجعاً من أي وقت مضى.في حي الزيتون بمدينة غزة تقف كنيسة القديس برفيريوس، أقدم كنائس غزة، وثالث أقدم كنيسة في العالم، شاهدة على مأساة إنسانية جديدة، أضيفت إلى سجلها الطويل من الصمود.اليوم، ومع اقتراب أعياد الميلاد المجيدة، تشتاق هذه الكنيسة، ومعها كنائس غزة كافة، إلى قرع أجراس الفرح التي اعتادت أن تعلن ميلاد السلام، لا عد ضحايا حرب.

تعود كنيسة القديس برفيريوس إلى القرن الخامس الميلادي، وتحمل اسم القديس الذي كان أسقفاً لغزة، وعرف بدعوته للتسامح والسلام.على مدار أكثر من 1600 عام، صمدت الكنيسة في وجه الزلازل والحروب وتعاقب الإمبراطوريات، وبقيت جزءاً أصيلاً من النسيج الروحي والاجتماعي للمدينة.

لم تكن الكنيسة يوماً حكراً على طائفة، بل كانت بيتاً مفتوحاً لكل محتاج، ومكاناً يختصر معنى التعايش الذي ميز غزة عبر تاريخها. ملاذ للنازحينمع اشتداد الحرب الأخيرة على قطاع غزة، تحولت الكنيسة إلى مأوى اضطراري لعشرات العائلات النازحة، مسلمين ومسيحيين، هربوا من الموت الذي لاحقهم في بيوتهم، داخل أسوارها، افترش الأطفال أرضية الكنيسة، وتقاسمت العائلات القليل من الطعام والماء، وهم يعتقدون أن قدسية المكان ستحميهم من الموت.غير أن القصف طال الكنيسة، مخلفاً دماراً واسعاً في محيطها، وسقوط قتلى من المدنيين الذين احتموا به.

في لحظة واحدة، تحول الملاذ إلى مأساة، وامتزج صوت الدعاء بأنين الجرحى، وساد صمت ثقيل لم تعرفه الكنيسة منذ قرون.تشققت الجدران الحجرية التي شهدت طقوس التعميد والزواج والجنائز، وتناثرت النوافذ الملونة التي كانت تعكس ضوء الشمس على الأيقونات القديمة.

حتى الأجراس، التي طالما أعلنت الفرح والأعياد، خيم عليها الصمت.أعياد بلا فرحلم تكن كنيسة القديس برفيريوس وحدها في هذا المصير، فكنائس غزة، التي لا يتجاوز عددها أصابع اليد، تعرضت لأضرار متفاوتة، وفقدت قدرتها على أداء طقوسها الدينية المعتادة،

ومع اقتراب عيد الميلاد، لا أشجار مزينة، ولا قداديس مكتملة، ولا تجمعات عائلية كما جرت العادة.بدلاً من ذلك، تحضر صور  القتلى، وأسماء المفقودين، وذكريات النزوح التي سرقت من الأطفال فرحتهم الأولى بالعيد.

كامل اسبيرو عياد، مدير العلاقات العامة بالكنيسة الأرثودكسية بغزة يؤكد لـ «البيان» أن العيد للعام الثالث على التوالي يأتي مثقلاً بالحزن، لكنه لا يخلو من الرجاء، فالميلاد هو رسالة صمود، وإيمان يولد من رحم الألم.

ويتابع بألم، سنحتفل بالصلاة، حتى لو بلا أجراس، لأن الإيمان في غزة لا يقصف، والتعايش الذي جمع المسلمين والمسيحيين تحت سقف واحد لن تهزمه الحرب، هذا التعايش لم يكن استثناءً فرضته ظروف النزوح، بل امتداداً لعلاقة تاريخية في غزة، حيث عاش المسلمون والمسيحيون جنباً إلى جنبوتشاركوا الأفراح والأتراح.في غزة، لا تشتاق الكنائس وحدها لقرع أجراس الفرح،

  الناس جميعهم يشتاقون لصوت يقول: إن معاناة الحرب قد انتهت، وإن الميلاد عاد، وإن هذه الأرض التي جمعت الأديان تحت سمائها، ما زالت قادرة على الفرح.