لا تختلف غزة بعد الحرب، عن تلك التي ذاقت ويلات الحرب، هدير الدبابات يخنق صوتها وصورتها، حتى وإن خفت وهج النار، وفي قلب غزة ما يزيد عن مليون ونصف المليون نازح قصدوا منازلهم في غزة ورفح وخان يونس ودير البلح، يسود لديهم الاعتقاد بأنها خرجت بالفعل من دائرة النار، لكن في الحقيقة المرة، جحيم الحرب لا زال يداهمها.
لم تعد غزة تقف عند حدود الاحتمالات، بل غدت تعيش في قلبها، فالحرب التي بدت وكأنها توارت بفعل اتفاق 9 أكتوبر، عادت لتطل على الغزيين من جديد، لا كاحتمال وارد، بل كخطر داهم وإن ببطء، ولغة أصبحت تتأرجح بين القصف وطاولة مفاوضات تبدو مرنة.
المراقبون يقولون، إن غزة أصبحت تحت سقف مشدود، وتغييرات جيوسياسية فرضتها الحرب وما تفرع عنها، ويبدو أنه لا مناص منها، لأن البديل عودة الحرب، وهذا ما لا يريده أهل غزة، فالجملة الأكثر شيوعاً والتي يرددها الغزيون بكرة وعشيا، وتختصر مزاجهم العام "لا طاقة لنا بالحرب بعد اليوم".
وخلف مناورة الطرفين (حماس وإسرائيل) بشأن ولوج المرحلة الثانية من الخطة الأمريكية التي أفضت إلى وقف إطلاق النار، تقف أمريكا، العرّاب التاريخي للاتفاق الأخير بينهما، تارة تبدي ليونة تفاوضية مع حركة حماس، وأخرى تضغط على زر التهديد والوعيد، وهذه النبرة تعكس حجم الحرص على حماية خطتها، كما يقول مواكبون للاتفاق، والخروقات والأفخاخ التي تعترض ثبات التهدئة.
والواضح أن غزة تعيش بعد الحرب (من دون أن يغيب شبحها) واحدة من أدق مراحلها، فوقف إطلاق النار قد لا يعني وقف الحرب بشكل نهائي، هكذا على الأقل تقول المعطيات على الأرض، فالضربات الإسرائيلية التي أعقبت الحرب، أنهكت الغزيين في وقت هم أحوج ما يكون لالتقاط الأنفاس، وبهذا المعنى فغزة أصبحت معلّقة بين الحرب واللا حرب.
يقرأ الكاتب والمحلل السياسي هاني المصري ملامح غزة الجديدة، فيقول: إسرائيل حققت ما تريده من المرحلة الأولى للخطة الأمريكية، ولم يبق إلا القليل من جثث مختطفيها، وجاري البحث عنهم وتسليمهم، واحتفظت بحقها في الرد العسكري حينما تريد، والخروقات المستمرة لوقف إطلاق النار خير شاهد على ذلك، والمساعدات تدخل ببطء شديد، ولا زالت تمارس كل أنواع التأثير على ما يجري في غزة، ولا تضمن أن تحقق أهدافها ومصالحها في المرحلة الثانية، ولذلك وضعت العراقيل، ولم تفتح معبر رفح، وتتحكم بدخول المساعدات، وأمريكا أجازت لها ذلك، طالما توقفت "حرب الإبادة والتدمير الشامل" وفق تعبيره.
ويواصل: "المرحلة الثانية هي الأهم، لأنها هي من ستحدد ليس فقط مصير غزة، وإنما مصير القضية الفلسطينية برمتها، وهنالك خلافات بين الأطراف المختلفة، فما تريده أمريكا وإسرائيل، غير ما تريده الدول العربية والإسلامية والأوروبية، وخصوصاً لجهة عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة، ومشروع الدولة الفلسطينية".
فماذا ينتظر غزة؟ هل سيكون هناك مجلس وصاية؟ أم حكم فلسطيني برقابة وإشراف دولي؟ وهل تشارك السلطة الفلسطينية في إدارة القطاع؟ أم سيتم التعامل مع غزة كوكالة من غير صاحب أوعنوان؟ وهل سيتم سحب السلاح بدون دولة فلسطينية وأفق سياسي؟ وهل سيتم إعادة إعمار غزة وفقاً لاحتياجات أهل غزة؟ أم وفقاً لاحتياجات مجلس السلام الذي يقوده الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؟.
غزة تعيد تموضعها أمام هذه الأسئلة الضاغطة سياسياً، ما يجعلها تسير بين نارين: الضغط الإسرائيلي لتنفيذ الاتفاق تحت النار، وتوقعات مفتوحة على خلفية للحرب، تبدو أنها لا تقل خطورة عن الحرب.
