عامان ثقيلان.. حرب غزة حركت العالم دون أن تتحرك!

لا توجد كلمات يمكن أن تصف الحرب الطاحنة التي دارت رحاها في غزة على مدار العامين الماضيين، فكل المفردات على نحو: حرب، مجزرة، إبادة، محو، تهجير، تطهير.. كلها استنفدت، ولم يبق مصطلحات تدخل في عالم الحروب: صواريخ، مسيّرات، قذائف، طيران.. جميعها استهلكت.

لقد تداعت على غزة حروب عدة، وتعاقبت عليها ملمات، لكن هذه الحرب الطاحنة، التي تدور رحاها منذ 7 أكتوبر 2023، ليست ككل الحروب، أحياء كاملة سويت بالأرض، وشوارع تحولت إلى تلال من ركام، الرعب والخوف يخيمان في ذلك المشهد الدامي، ولم يعد في غزة غير انعدام الحياة، حيث قتلت إسرائيل أكثر من 67 ألفاً من أهالي القطاع وجرحت نحو 170 ألفاً آخرين.

غارت عيون غزة في جسدها الذي أنهكته الحرب، وذوى شجرها وذاب حجرها، وقتل أهلها وهجروا، هدمت المنازل، وتمزقت الخيام، وأصاب النازحين ما أصابهم من ويلات القصف، حتى بدا دوي الصدمة يطغى عما سواه، فالحرب حرّكت العالم بأسره، لكنها أبت أن تتحرك قبل أن تطفئ شمعتها الثانية.

ارتحل الأطفال والنساء والرجال والشيوخ غير مرة، تارة وهم يرتجفون تحت وطأة البرد، وأخرى وهم يتصببون عرقاً تحت لهيب الشمس، وناحت العجائز على ما أصاب غزة، وقد تجمدت الدموع في العيون، ولم تعد المقابر تتسع لأعداد الضحايا، بينما بدت المستشفيات عاجزة عن علاج الجرحى والمصابين، وأكل الناس أوراق الشجر، واصطفت الطوابير أمام التكايا، للحصول على جرعة ماء، أو طبق حساء.

ظلمات بعضها فوق بعض، عتمة غزة، وظلام الحرب، ودخان الغارات، وانسداد المسارات السياسية على مدار عامين، لم يعد أحد يميز بين الليل والنهار، فماذا بقي من لغات يستطيع أهل غزة مخاطبة العالم بها؟ بعد أن نفدت كل النداءات والاستغاثات والمناشدات لوقف الحرب الهستيرية، التي نجحت إسرائيل في اعتمادها لغة للعقاب الجماعي ودوافع الانتقام من مدنيين عزل، رغم كل القرارات الدولية والحراكات العالمية.

بين يدي هذا الملف، تتناول «البيان» المآسي التي حلت بسكان قطاع غزة، ولا زال الضحايا يتساقطون بالعشرات وأحياناً المئات، وبشكل يومي، فمن نجا من الغارة الأولى، فسيكون القتل بانتظاره في الثانية، ومن نجا من الثانية فسيرث الموت من الثالثة. يصف النازح وسام النجار المشهد في غزة بعد عامين على الحرب، فيقول: أي حال هذا الذي وصل إليه أهل غزة، لقد مللنا النزوح والتشريد والبحث عن رمق الحياة، ونعيش في مسلسل قتل يومي، تختار فيه الطائرات الإسرائيلية المقاتلة أهدافاً عشوائية داخل مراكز النزوح وخيام النازحين، فتضرب وتقصف بعنف، فيسقط الأبرياء، وتتكرر أسطوانة القتل على مدار الساعة.

ويواصل لـ«البيان»: عجز أهل غزة من كل حلول الأرض، والحل فقط من رب السماء، الكل هنا يلهج بالدعاء بأن تتحقق المعجزة وأن تتكلل المساعي الأخيرة بوقف الحرب، بعد أن عجزت كل المنظمات والهيئات الدولية عن إلزام إسرائيل بوقف الجحيم.. نعم لقد عجزنا عن الحلول الدنيوية، ولم يعد لدينا الأمل إلا برب السماء.

وتابع: منذ عامين، لم نذق طعماً للراحة ولم نشعر بالحياة، أفواج من النازحين مرت علينا، وأصوات الطائرات تصم الآذان، ورائحة الموت تنبعث من كل مكان، والكل هنا يترقب لحظة الإعلان عن وقف الحرب، ولا شيء غير ذلك.

لا مدارس.. لا مستشفيات

بينما يروي النازح سالم عليان مشاهد مرعبة، تنوعت بين النزوح والبحث عن الطعام، موضحاً: «أحياناً في اليوم الواحد نفقد 80 أو 100 مواطن، أطفال وشباب في مقتبل العمر قضوا بفعل الحرب، لم يبق منازل ولا مدارس ولا مستشفيات ولا مساجد، والكل ينتظر دوره في طوابير الموت».

ويضيف: تكررت ألفاظ «التهدئة» و«الصفقة» آلاف المرات، لكن ظلت الحرب تفتك بأهل غزة، لقد اعتدنا مشاهد القصف والقتل والدمار، ونتطلع ليوم يرفع فيه هذا الظلم عن أهل غزة.

أهوال ومقارنات

وفق تقرير استخباراتي أمريكي، فقد ضربت إسرائيل قطاع غزة بما يعادل ما ألقي على هيروشيما 8 مرات، مع ملاحظة أن مساحة المدينة اليابانية 900 كيلومتر مربع، بينما مساحة غزة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، بينما تفوق القوة النارية التي ضرب غزة مجموع حربي العراق وأفغانستان مجتمعتين، مشيراً إلى أن نصف ذخائر إسرائيل التي استخدمتها في حربها على قطاع غزة كانت عبارة عن قنابل «غبية» أي غير موجهة.

وفي الإطار، قال المركز الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، إن كمية المتفجرات التي ألقيت على غزة تمثل أكثر من 30 ألف طن من المتفجرات بقنبلة واحدة، حيث استعملت إسرائيل خليطاً يعادل أكثر من 1.34 من مادة «تي أن تي» التفجيرية المعروفة، وأن إسرائيل أسقطت أكثر من 200 ألف طن من المتفجرات على غزة.

وقد تبدو الأرقام مجردة وصمّاء، ولكن لدى مقارنتها بالحروب والتاريخ، تتضح الصورة أكثر، بأن قطاع غزة تعرض لواحدة من أشد الحروب في العصر الحديث، وهي حرب أعادت تشكيل المشهد الغزي، وفاقت حدود المعاناة الإنسانية، إذ كمية القوة النارية التي انصبت على قطاع غزة، نادراً ما أُطلقت على منطقة واحدة عبر التاريخ، وهي غير مسبوقة في بقعة جغرافية صغيرة ومكتظة بالسكان كقطاع غزة، الذي تعرض لمستويات من الغارات تضاهي حروب منتصف القرن العشرين كاملة.

دمار

في المنطق العسكري الإسرائيلي، يُبرر مسؤولون إسرائيليون الحرب على غزة، بأنها تستهدف البنية التحتية لحركة «حماس»، بأسلحتها وأنفاقها، وتصفية قادتها، إلا أن حجم الدمار الذي لحق بقطاع غزة، يتجاوز بكثير الضرورة التكتيكية هذه، فماذا يعني استهداف الأبراج السكنية، والأحياء الشعبية ومخيمات النزوح؟

يجيب المحلل السياسي محمـد دراغمة، إن الهدف الاستراتيجي لرئيس الحكومة الإسرائيلية هو «حرب بلا نهاية» على قطاع غزة، ويعكس الاستخدام المكثف للقنابل والصواريخ الفتاكة، حسابات نتانياهو الشخصية والسياسية والحزبية، ولذا أصبحت مشاهد هدم الأبراج الشاهقة في غزة، وتدمير مختلف المرافق الحيوية، تأخذ شكل الحرب الاستعراضية.

ويضيف: مشاهد استهداف النازحين العزل، تكررت مراراً، وكل مكان يفرون إليه يجدون القتل يتربص بهم.. هي لعبة القتل، والنزوح تحت تهديد السلاح، والتهجير من خلال التدمير التي انتهجتها إسرائيل، إلى جانب بعض الأهداف العسكرية المحدودة، وفي ذلك رسالة للغزيين، باستحالة العيش على هذه الأرض، بعد أن فتحت عليها أبواب الجحيم.

الحرب على غزة، تبدو وكأنها غير مصممة للانتهاء، هكذا يقرأ مراقبون، الأوضاع في القطاع المنكوب، مع طي السنة الثانية للحرب، التي استهدفت الوجود الفلسطيني، لكن صبر واشنطن بدأ ينفد، فهل يبقى قرار الحرب في يد إسرائيل، أم سنشهد نهاية لهذا الاستهتار بحياة البشر، وتولد غزة من جديد؟

الكاتب والمحلل السياسي هاني المصري، يستعرض السيناريوهات المطروحة، مبيناً أن الـ«النعم» الواضحة والكبيرة التي قالتها حماس للخطة الأمريكية، تبقي الأبواب مفتوحة أمام الحل، منوهاً بأن من بين المسائل التي ستبرز لاحقاً، تراجع دور حركة «حماس» كطرف أساسي في المفاوضات فور إنجاز صفقة التبادل، في ظل وجود موقف إقليمي ودولي يطالب بإخراجها من الحكم، وموافقتها المبدئية على ذلك.

ويرى المصري، أن المضي بتنفيذ صفقة تبادل الأسرى ووقف الحرب، بات السيناريو الأقرب، حيث يرتكز الرئيس الأمريكي على إنجاز ملموس وسريع، يعزز صورته كصانع سلام، من دون الغوص في تفاصيل الاتفاق، كما أن هذا السيناريو يحقق مكاسب إنسانية مباشرة، وأهمها الإفراج عن الأسرى، ووقف الحرب.