على امتداد أكثر من نصف قرن، شكّلت العلاقات بين دولة الإمارات العربية المتحدة وجمهورية السودان نموذجاً فريداً للتكامل العربي في أبعاده الإنسانية والتنموية والسياسية.
فمنذ السنوات الأولى لتأسيس الاتحاد عام 1971، وضع المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، لبنة صلبة لهذه العلاقة، مؤمناً بأن السودان، بما يمتلكه من موارد بشرية وخبرات علمية وزراعية، هو شريك طبيعي في مسيرة بناء الدولة الإماراتية الحديثة.
ولم تكن العلاقة بين الإمارات والسودان، وليدة اللحظة، أو عقب الإطاحة بنظام الرئيس المخلوع عمر البشير، بل بدأت منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي في مناخ صالح ابتدره الشيخ زايد، بمشروع طريق هيا بورتسودان، الذي يربط ولايات السودان المختلفة بمينائها الرئيسي، ثم توالت المشاريع الثنائية لتكرس شراكة حقيقية.
وفي المقابل، وجد السودان في الإمارات صديقاً مخلصاً وسنداً اقتصادياً وسياسياً فتح ذراعيه للدعم والمساندة في المحن، كما منح أبناءه فرصاً واسعة للمشاركة في نهضة الإمارات منذ عقودها الأولى.
ولأنّ التاريخ لا يُزوّر، فإنّ ما يجمع الإمارات والسودان من روابط ممتدة في الوجدان العربي والإسلامي، يظلّ أقوى من الأكاذيب العابرة، فالواقع أن الإمارات – كما أثبتت التجارب – كانت دوماً تدعم استقرار السودان ووحدة أراضيه، وتحرص على مساندة إرادة شعبه دون تدخل أو اصطفاف، إدراكاً منها بأن أمن السودان واستقراره جزء لا يتجزأ من الأمن العربي وأمن المنطقة بأسرها.
شراكة وبناء
بحسب الخبراء، فإن تاريخ العلاقات بين الإمارات والسودان هو في جوهره قصة شراكةٍ في البناء والتنمية، وحكاية إخلاصٍ إنساني بين شعبين جمعتهما القيم العربية الأصيلة، والتكامل الحضاري، والمصير المشترك.
إنها علاقة تجاوزت حدود الدبلوماسية إلى عمق إنساني وتاريخي متجذر في وجدان القيادتين والشعبين، حيث تعاقبت الأجيال على الإيمان بأن ما يجمع البلدين أكبر من المصالح العارضة، وأقوى من التحديات الطارئة.
ويؤكد الخبراء أن هذا التاريخ المشترك صمد أمام محاولات التفرقة والتشويه التي حاولت بعض الجهات بثّها عبر حملات تضليل إعلامي تستهدف زعزعة الثقة بين البلدين.
إلا أن الواقع أثبت أن العلاقات الإماراتية – السودانية قائمة على الثقة والاحترام والمودة الصادقة، وأنها تستمد قوتها من عمقها الشعبي وتاريخها الممتد في ميادين التنمية والعمل المشترك.
أرض عزيزة
ويرى الخبراء أن السودان لم يكن بالنسبة للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، دولةً شقيقة فحسب، بل كان أرضاً عزيزة قريبة من وجدانه واهتمامه.
ففي سنوات الاتحاد الأولى، كان الشيخ زايد يرى في السودان «سلة غذاء العرب» وأحد أعمدة الأمن القومي العربي، مؤمناً بضرورة الاستثمار في موارده الزراعية والبشرية لتحقيق الاكتفاء الذاتي للعالم العربي.
ومن هذا المنطلق، بادر الشيخ زايد إلى دعم مشروعات تنموية وزراعية في السودان، وفتح أبواب التعاون في مجالات التعليم والبنية التحتية، تأكيداً لإيمانه بوحدة المصير والمصلحة المشتركة بين البلدين.
ويشير الخبراء إلى أن العلاقات لم تكن يوماً ذات اتجاه واحد، بل كانت تبادلية في عطائها ومنافعها، إذ كان للسودانيين دورٌ بارز في المراحل الأولى لتأسيس دولة الإمارات الحديثة.
سياسة راسخة
ويؤكد الخبراء أن عدداً من الكفاءات السودانية ترك بصمات خالدة في المسيرة الإماراتية، إذ شاركوا في بناء الهياكل الإدارية الأولى، وأسهموا في وضع اللبنات المؤسسية لمرافق الدولة، وكان لهم دور بارز في نقل الخبرة السودانية إلى بيئة العمل الإماراتية الناشئة، وقد ظلّ عطاؤهم نموذجاً للعلاقة الأخوية التي قامت على الثقة والاحترام والتقدير المتبادل.
ويضيف الخبراء أن سياسة الإمارات تجاه السودان لم تتبدل بتبدّل القيادات أو تغيّر الظروف الإقليمية، فقد واصل الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رحمه الله، ومن بعده صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، النهج ذاته الذي أرساه القائد المؤسس في دعم السودان والوقوف إلى جانب شعبه.
فقد كانت الإمارات من أوائل الدول التي سارعت لتقديم المساعدات خلال فيضانات عام 1988، كما دعمت السودان اقتصادياً بعد انتهاء الحرب الأهلية في الجنوب، وأسهمت في مبادرات المصالحة بين الفرقاء السودانيين في مراحل متعددة.
شراكة تاريخية
يقول خبير الشؤون الأفريقية رامي زهدي إن العلاقات الإماراتية – السودانية تمتد منذ قيام الاتحاد عام 1971، إذ كانت الإمارات آنذاك دولة وليدة تبحث عن شركاء في التنمية، فوجدت في السودان بلداً شقيقاً قريباً ثقافياً وإنسانياً، وكانت الخرطوم من أوائل العواصم التي بادرت إلى إقامة علاقات رسمية معها.
ومنذ السبعينيات، تشكّلت جسور التعاون التقني والإنساني من خلال البعثات التعليمية والطبية والمشروعات التنموية، ما رسخ ثقة متبادلة بين مؤسسات البلدين، وجعل العلاقات بينهما تتجاوز الإطار الرسمي إلى روابط مجتمعية وشعبية عميقة.
وخلال العقود اللاحقة، تطورت العلاقة في مجالات الزراعة والموانئ والطاقة، وبرزت الجالية السودانية في الإمارات كركيزة بشرية في مسيرة التنمية، حيث مثلت جسراً إنسانياً واقتصادياً بين الشعبين.
وبعد سقوط نظام البشير عام 2019، دخل السودان مرحلة دقيقة تميزت بتعدد مراكز القرار في السودان وتباين المواقف بين الأجنحة المدنية والعسكرية، وظلت المواقف الإماراتية تستهدف مصلحة البلدين واستقرار المنطقة.
ويشير زهدي إلى أن العلاقات بين الشعبين الإماراتي والسوداني تستند إلى رصيد واسع من التعاون الدبلوماسي والإنساني، وإلى مساهمة آلاف الخبراء السودانيين في بناء مؤسسات إماراتية في قطاعات التعليم والصحة والإدارة. بل إن بعضهم عاد لاحقاً لتولي مناصب مهمة في السودان، مستفيداً من الخبرة المكتسبة في الإمارات.
ويؤكد أن هذه الديناميكية، تمثل شكلاً من القوة الناعمة الحديثة التي جعلت الإمارات قوة مؤثرة ليس فقط بثروتها المادية، بل بقدرتها على بناء شراكات بشرية ومؤسسية.
ويشير زهدي إلى أن هناك أطرافاً داخل السودان تسعى لتحقيق أهداف ضيقة، إضافة إلى عناصر تستفيد من استمرار الانقسام لتحقيق مآربها الخاصة، كذلك تسعى بعض القوى المتطرفة هناك لبث الفتن وضرب الثقة بين الشعبين.
ويختتم زهدي بأن العلاقات بين الإمارات والسودان راسخة بجذورها التاريخية والإنسانية، مع التوسع في مبادرات الشباب والثقافة والتعليم التي تُعيد للأذهان روح التعاون الصادق التي ربطت الشيخ زايد وشعبه بالشعب السوداني منذ بدايات الاتحاد واستمرت حتى اليوم.
وحدة السودان
ويؤكد الخبراء أن الإمارات التزمت دائماً بسياسة الحكمة والاتزان تجاه الشأن السوداني، فلم تتورط في أي اصطفاف داخلي أو دعم لطرف على حساب آخر، بل ظلت تدعو إلى وحدة السودان واستقراره وسيادته، وتساند كل ما من شأنه دعم مسار التنمية والسلام فيه.
كما كانت الدولة وجهةً آمنة لآلاف السودانيين الذين وجدوا فيها بيئة عمل كريمة وحياة مستقرة، وأسهموا في نهضتها كما أسهمت هي في إعانتهم ومساندتهم في أوقات الأزمات.
ويرى الخبراء أن العلاقات بين الإمارات والسودان تمثل نموذجاً فريداً في العلاقات العربية – العربية، لأنها تجاوزت منطق المصالح الضيقة إلى منطق الشراكة الصادقة القائمة على الأخوّة والاحترام.
فالإمارات تنظر إلى السودان باعتباره بلداً محورياً في أفريقيا والعالم العربي، يتمتع بموارد بشرية وزراعية ضخمة، فيما يرى السودان في الإمارات شريكاً صادقاً أثبت وفاءه في المواقف الصعبة وسنده في أوقات الشدة.
حقائق التاريخ
ويشير الخبراء إلى أن محاولات التشويش الإعلامي أو الحملات المغرضة، إنما هي محاولات قصيرة الأمد تصطدم بحقائق التاريخ وبسجل طويل من الدعم المتبادل والمواقف المشرفة.
فالإمارات لم تنخرط في أي صراعات داخلية، بل سعت دائماً إلى تقريب وجهات النظر وتشجيع الحلول السياسية والحوار الوطني.
ويخلص الخبراء إلى أن العلاقة الإماراتية – السودانية هي تاريخ يتحدى التزوير والحسابات العابرة، لأنها لم تُبنَ على العواطف أو المواقف الآنية، بل على أسس من الثقة والاحترام والمصالح المشتركة، وهي علاقة تُثبت أن الشعوب التي تتقاسم القيم والإخلاص قادرة على تجاوز الأزمات، مهما تنوّعت التحديات أو تغيّرت الظروف.
ويؤكد الخبراء أن المستقبل يحمل آفاقاً واسعة لتعزيز هذه العلاقة، بما يخدم مصلحة الشعبين ويرسّخ التعاون العربي القائم على التنمية والنهضة لا على النزاعات والانقسامات.
فالعلاقة بين البلدين، كما يقول الخبراء، هي رصيد من الوفاء يمتد من الماضي إلى المستقبل، وتاريخ من العطاء يصعب اختزاله أو تزويره.
حملة مغرضة
من جانبه، يقول أستاذ العلوم السياسية والمتخصص في الدراسات الأفريقية د. حمدي عبدالرحمن إن العلاقات بين الإمارات والسودان ليست طارئة ولا مصلحية، بل تمثل نموذجاً تاريخياً متجذراً يقوم على الإخلاص والتكامل والتنمية المشتركة، مؤكداً أن هناك حملة مغرضة يشنها البعض ممن لا يدركون عمق وتعقيد المشهد السوداني، ولا يعرفون تاريخ هذه العلاقة الممتدة منذ تأسيس الاتحاد عام 1971.
ويشير إلى أن السودان ورث منذ استقلاله مشكلات بنيوية في بناء الدولة، وشهد حروباً أهلية متتالية في الجنوب ودارفور وكردفان وشرق السودان، ما جعل بيئته السياسية والاجتماعية معقدة، لكن رغم ذلك ظلّ السودان حاضراً في الوجدان العربي والإماراتي تحديداً.
ويقول: «إذا وصلنا إلى العلاقات الإماراتية – السودانية، نجدها نموذجاً يحتذى به في التعاون العربي الحقيقي».
ويضيف أن السودان كان من أوائل الدول التي اعترفت بالإمارات عقب إعلان الاتحاد في ديسمبر 1971، وأن الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، قام في فبراير 1972 بزيارة تاريخية إلى السودان شملت عدداً من ولاياته، لقي خلالها استقبالاً شعبياً ورسمياً واسعاً، تبعها زيارة للرئيس جعفر نميري إلى الإمارات كأول رئيس دولة يزور الاتحاد الوليد، ما يعكس المكانة الكبيرة التي أولتها القيادة الإماراتية للسودان منذ البدايات.
ويؤكد الدكتور حمدي عبد الرحمن أن العلاقات بدأت بعد ذلك تتعمق اقتصادياً وتنموياً؛ ففي عام 1975 تأسست شركة الإمارات – السودان للاستثمار كنواة لمشروعات بنية تحتية ضخمة، شملت تمويل سد مروي وطريق بورتسودان وخطوط السكك الحديدية ومطار الخرطوم، إلى جانب استثمارات كبرى في مجالات الزراعة والتعدين والطاقة.
ويشير د. حمدي عبدالرحمن إلى أن هذه الروابط الاقتصادية تراكمت على قاعدة إنسانية متينة، إذ ظلّ السودانيون شركاء في نهضة الإمارات منذ إعلان الاتحاد، حيث أسهمت كفاءاتهم وخبراتهم في تأسيس مؤسسات حيوية في الدولة.
ويذكر من بينهم المهندس السني بانقا، أول رئيس لبلدية أبوظبي، الذي أسهم في وضع اللبنات العمرانية الأولى للعاصمة، وكمال حمزة أبو المعالي الذي تولى إدارة بلدية دبي بين عامي 1961 و1985 وكان من رموزها المؤسسين، والبروفيسور علي إبراهيم شمو، أول وكيل لوزارة الإعلام الإماراتية، ممن رسخوا بأعمالهم مفهوم الشراكة الثقافية والحضارية بين الشعبين.
ويتابع أن الإمارات لم تتخلّ عن السودان في أزماته، بل تبنّت منذ حرب دارفور عام 2003 نهجاً متوازناً يقوم على المساعدات الإنسانية وبناء الجسور السياسية.
فقد أنشأت مستشفيات ميدانية في مناطق لجوء السودانيين، وقدمت دعماً مستمراً عبر الهلال الأحمر الإماراتي، كما شاركت بفعالية في المبادرات الإقليمية والدولية لوقف الحرب، وعلى رأسها إعلان جدة، إلى جانب عضويتها في اللجنة الرباعية (الإمارات، السعودية، مصر، الولايات المتحدة) التي وضعت خريطة طريق لوقف القتال وفتح الممرات الإنسانية.
صانعة للسلام
ويؤكد د. حمدي عبدالرحمن أن الإمارات كانت من أوائل الدول التي ساندت إرادة الشعب السوداني بعد سقوط نظام البشير عام 2019، ودعمت الانتقال السياسي والتقريب بين مجلس السيادة الانتقالي والحركات المسلحة في دارفور، ما أسهم في الوصول إلى اتفاق جوبا للسلام عام 2020.
ويختم د. حمدي بالتأكيد على أن الدور الإماراتي في السودان كان دوماً دور صانعٍ للسلام وداعمٍ للاستقرار، مشدداً على أن ما يجمع الشعبين أعمق من أي حملات تشويه أو ادعاءات زائفة، لأن التاريخ – كما يقول – «يتحدث بلغة الأفعال لا الادعاءات، والإمارات وقفت إلى جانب أشقائها في السودان في أوقات الشدة وكانت لهم سنداً».