خلال أسبوع واحد فقط، تراجع الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن أربعة مواقف بارزة أثارت اهتماماً واسعاً في الأوساط السياسية والدبلوماسية، ما يعكس مزيجاً من المناورة السياسية والحذر في التعامل مع ملفات شديدة التعقيد. فقد بدأ ترامب الأسبوع بإبداء استعداد واضح لتزويد أوكرانيا بصواريخ «توماهوك» طويلة المدى في إطار الضغط على روسيا ودفعها إلى التفاوض، وهي خطوة وُصفت في واشنطن بأنها تصعيد نوعي قد يغيّر ميزان القوة في الحرب الأوكرانية. غير أن نبرة التصعيد هذه بدأت بالتراجع تدريجياً عقب مكالمة وُصفت بأنها «بنّاءة» مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إذ أعلن ترامب بعد الاتصال أنه لا ينوي استنزاف مخزون بلاده من هذه الصواريخ، ملمّحاً إلى أن الخطوة ليست وشيكة وأن واشنطن لا تزال تقيّم التوقيت والظروف.
هذا التراجع لم يكن تقنياً بقدر ما كان سياسياً، إذ ترافق مع تغيّر أوسع في لهجة ترامب تجاه روسيا. فبعدما كان يلوّح بخيارات تصعيدية ويؤكد أن «موسكو لن تفلت من الضغط»، عاد ليصف محادثته مع بوتين بأنها «جيدة وبنّاءة»، وأشار إلى احتمال عقد لقاء مباشر في بودابست لبحث سبل إنهاء الحرب. هذه الإشارة إلى المسار الدبلوماسي بدل المواجهة تعكس إدراك ترامب لحساسية الدخول في صدام مباشر مع روسيا في ظل تعدد الجبهات الدولية التي تواجهها الولايات المتحدة. فهو، وإن لوّح بالتصعيد، يفضل في العمق استثمار الورقة العسكرية كورقة تفاوض لا كخيار ميداني مفتوح.
وفي موازاة هذا التحوّل في الملف الروسي، أظهر ترامب مرونة مماثلة في الملف الفلسطيني – الإسرائيلي. فبعد الهدنة الأخيرة في غزة، بدا في البداية متفهماً لإجراءات حركة حماس الأمنية، وذهب حد القول إن الحركة «مُنحت تفويضاً مؤقتاً» لممارسة مهام الأمن الداخلي، في سياق مساعيه لتثبيت الهدنة وإظهار نفسه وسيطاً قوياً في الشرق الأوسط. غير أن نشر مقاطع لإعدامات علنية نفذتها الحركة في القطاع قلب المشهد رأساً على عقب، إذ تراجع البيت الأبيض سريعاً عن نبرة التفهم، وأصدر ترامب تحذيرات صارمة من أن استمرار هذه الممارسات سيقوّض أي تفاهمات لاحقة، ملمحاً إلى أن واشنطن قد تتدخل في حال فشل حماس في ضبط سلوكها الأمني.
في الملف الصيني، عاد ترامب ليتحدّث بنبرة تصالحية تجاه الصين بعد عدة أيام فقط من انتقادات حادّة وجّهها لبكين، حيث صرّح لـ "فوكس بيزنس" قائلاً إنّ "الصين خصم قوي جدًّا لا يحترم إلا القوة، وقد ألحق ضرراً كبيراً ببلدنا وأخذ الأموال إلى الخارج"، لكنه في الوقت نفسه "يعتقد أن الأمور ستكون جيدة مع الصين"، معلناً عزمه لقاء الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال أسبوعين، بعد أن كان نفى الحاجة للقائه.
في المحصلة، تكشف هذه التراجعات الثلاثة المتزامنة عن أسلوب إدارة ترامب للملفات الكبرى: يبدأ بمواقف متشددة وصاخبة تثير الانتباه السياسي والإعلامي، ثم يعود إلى الوسط بعد أن يختبر ردود الفعل الميدانية والدبلوماسية. إنها سياسة تقوم على رفع السقف للحصول على مكاسب تفاوضية من دون الانزلاق إلى التزامات ميدانية مكلفة، وهي المقاربة التي قد تطبع سياسته الخارجية في المرحلة المقبلة، سواء في الحرب الأوكرانية أو في التوازنات الحساسة للشرق الأوسط.
