الشرق الأوسط والمعاملات المالية الإلكترونية

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تتبنى الدول حول العالم، وبوتيرة متسارعة، أشكالاً جديدة من حلول الدفع الإلكتروني؛ فإلى جانب أنظمة البطاقات الائتمانية وبطاقات الخصم المباشر المعتمدة حالياً، يجتمع انتشار طرق الدفع الإلكتروني عبر الهاتف الذكي حالياً مع غيره من الخدمات الحاسوبية لرسم ملامح ما يسمى «مجتمع بلا أموال نقدية». ولكن هل يستطيع العالم العربي بثقافته التي تُعتبر الأسواق والبازارات جزءاً أصيلاً منها أن يتبنى أنظمة الدفع الإلكترونية بالكامل؟

عندما يذهب الناس للتسوق في السويد، فإنهم يستخدمون عملة الكرونا السويدية للحصول على مشترياتهم. إلا أنهم لم يعودوا ينفقونها بالشكل الذي اعتادوا عليه! حيث تحتل السويد مرتبة متقدمة ضمن الدول التي تستخدم وسائل الدفع الإلكترونية، وقد صرّح البنك المركزي السويدي «ريكسبانك» بأن التعاملات بالأموال النقدية تشكل أقل من نصف المعاملات المالية اليومية.

وبحسب الأرقام التي قدمتها شركة ماستر كارد والبنك الدولي ضمن تقرير عنوانه «قياس التقدم نحو مجتمع بلا أموال نقدية»، يتبين لنا أن سنغافورة وهولندا وفرنسا وكندا تحتل هي الأخرى مراتب متقدمة في قائمة الدول التي تتبنى المعاملات غير النقدية.

ولكن، هل يمكن تطبيق النموذج نفسه في الشرق الأوسط؟ رغم الانتشار واسع النطاق للهواتف الذكية في المنطقة بأكملها، لا يزال الاتجاه إلى تبني التسهيلات البنكية متفاوتاً في بعض الأحيان وغير متسق جغرافياً في أغلبها، وهو ما يعني أن وسائل التجارة القديمة لا تزال تعتمد على الأموال النقدية. فما زال كثيرون يفضلون الدفع المسبق بعملة من الفضة أو حتى النحاس أو النيكل، أو أوراق القبض التي يعتمدها البنك.

التحدي أمام وسائل الدفع الإلكترونية في العالم العربي

من الحقائق الواقعة في الشرق الأوسط أن بعض الناس ليس لديهم حتى الآن أرصدة بنكية أو لا يحصلون على خدمات بنكية كافية، وخصوصاً في المناطق الريفية والأقاليم النامية والمناطق الاقتصادية الأفقر، حيث لا يمتلك الجميع حسابات بنكية أو لا تتوفر لديهم الوسيلة أو الفرصة لفتح حساب بنكي، وهذا الواقع يجعل المعاملات غير النقدية خياراً غير عملي في هذه المناطق. فالمزارعون في صعيد مصر أو رعاة الأغنام في صحراء الربع الخالي السعودية أو صيادو السمك في المغرب أو موريتانيا نادراً ما يكون لديهم بطاقات للصراف الآلي.

إلا أن هناك مبادرات لمنح من لا يملكون حساباً بنكياً نوعاً من القدرة البنكية. فقد عملت بطاقات الائتمان المدفوعة مسبقاً وقسائم المشتريات وما يسمى بأنظمة «الوحدة النقدية البديلة Alternative Monetary Unit» على توفير تسهيل ائتماني للمجتمعات التي لا تمتلك حسابات بنكية في عدة دول حول العالم. ولكن حتى في المناطق المتقدمة في الشرق الأوسط، لا تزال الأسواق تعتمد بشكل أساسي على الدفعات النقدية. والهدف النهائي في أي مقايضة تقليدية تجري في العالم العربي هو الحصول على المال وليس تمرير البطاقة الائتمانية.

يثير المجتمع الخالي بالكامل من الأموال النقدية عدة تساؤلات ومخاوف: كيف نعطي المال للمشردين أو المحتاجين مباشرة، فهم أحياناً يحتاجون إليه في أيديهم؟ علينا أن نتوقف لبرهة لنفكر ونسأل أنفسنا: هل علينا تقديم جميع صور المنح النقدية تحت مظلة الأنظمة التي توفرها البنوك وتجار التجزئة والحكومات؟

وبعد إثارة كل هذه الأسئلة والهواجس، دائماً ما تبرز مسألة الخصوصية! إذا تم تسجيل أي معاملة تجارية نجريها في سجل رقمي أو بيان إلكتروني بالرصيد، ألا يحد ذلك من حريتنا الشخصية؟

يقول الصحافي روس كلارك، صاحب كتاب «الحرب على النقد War Against Cash»: «من المحتوم أن يتحول المستهلكون في الشرق الأوسط وبقية أنحاء العالم نحو أنظمة الدفع غير النقدية التي يجدونها أيسر لهم، ويسعدون بدرجة الأمان التي توفرها. ولا ضير في ذلك. ولكن عندما يتحوّل المجتمع بالكامل إلى المعاملات الإلكترونية ويتخلى عن خيار الدفع نقداً، فإنه سيعتمد اعتماداً تاماً على الأنظمة الإلكترونية التي يمكن أن تتعطل، وهذا ما يحدث في الواقع. كما أن ذلك سيؤدي إلى ظلم للتجار الصغار، في الأسواق المفتوحة على سبيل المثال، الذين سيتكبدون تكاليف غير متكافئة عند معالجة هذه المعاملات». ويتابع روس: «سأطرح سؤالاً على أي شخص يقول إن الهاتف النقال سيحل محل محفظة النقود في يوم من الأيام: متى كانت آخر مرة وجدت نفسك دون تغطية الشبكة للإرسال أو وجدت أن بطارية هاتفك قد نفدت؟ في مستقبل خالٍ من الأموال النقدية ستكون غير قادر على إجراء أي معاملة مالية».

لقد جاءت كلمات كلارك في الوقت المناسب؛ فمع استمرار توغلنا في دروب العصر الرقمي العميقة، ربما ينبغي لنا أن نتوقف ونفكر بالعواقب التي تترتب على المجتمع الخالي من الأموال النقدية. إن استخدمنا الآلات في كل مرة نجري أية دفعة مالية، ألن تعرف المؤسسات التجارية والبنوك وحتى الحكومات التي توفّر وتشرف على السلع والخدمات التي نستهلكها بتوقيت ومكان (ويمكن أسباب) وماهية الأشياء التي نختار شراءها؟

مع تحقق هذا التحوُّل المحتوم، لا شك أن علينا مسؤوليات ولدينا مخاوف يجب التعامل معها. ومع استمرار الدول في الاستثمار بكثافة في البنى التحتية لنشر وسائل الدفع الإلكترونية، هل فكروا بحال البسطاء؟ إن الشرق الأوسط أشبه بعائلة من الدول المعروفة بالتجارة والمقايضات من يد ليد على مر أجيال كثيرة.

يمكننا بالتأكيد أن نرى أن الأعمال الرقمية ستحوّل الطريقة التي نحيا بها. ففي منطقتنا توجد الشركات الكبيرة القائمة جنباً إلى جنب مع الأشخاص التقليديين من جميع المجالات.

سيصبح الشرق الأوسط في النهاية مجتمعاً خالياً من الأموال النقدية في جميع مناطق الدول العربية، إلا أن الاعتبارات التي تجعل من هذه المنطقة أرضاً للتجارة والتجّار قد تجعلها أيضاً متمسكة بالطريقة القديمة في إجراء المعاملات لفترة من الزمن. فكثيراً ما يدور الحوار كالآتي: هل تريد سعراً خاصاً لهذه السلعة، يا عزيزي؟ لا مشكلة، تفضل بزيارتي في متجري!

* باحث اجتماعي

Email