كان الألم المزمن لغزاً طبياً وعذاباً ملازماً لملايين البشر، وغالباً ما يُوصف بأنه «خلل» في الدوائر العصبية للدماغ. لكن، وفي اكتشاف ثوري يُعيد صياغة فهمنا للألم، نجح علماء في تحديد مجموعة من الخلايا العصبية التي تعمل كـ«مفتاح تجاوز» (Override Switch)، قادرة على إلغاء إشارات الألم المستمرة عندما تكون هناك حاجة بيولوجية أكثر إلحاحاً، مثل الخوف أو الجوع.
مستقبل Y1
السر يكمن في مجموعة محددة من الخلايا العصبية تُعبّر عن مستقبل Y1 (Y1 Receptor)، تقع في جزء حيوي من جذع الدماغ يُعرف باسم النواة الجانبية للشعبية (Lateral Parabrachial Nucleus - lPBN). واكتشف الباحثون أن هذه الخلايا العصبية ذات المستقبل Y1 لا تستجيب فقط لومضات الألم الحادة، بل تظل «مُطلِقة» (Firing) بشكل ثابت ومستمر أثناء حالات الألم المزمن، وهو ما يُعرف بـ«النشاط المقوي» (Tonic Activity). هذا النشاط المستمر هو ما يُبقي إحساس المعاناة مُفعلاً باستمرار، حتى في غياب مصدر واضح للإصابة.
غريزة البقاء تُسكت المعاناة
تكمن أهمية هذه الخلايا في أنها لا تعالج الألم فقط، بل تدمج أيضاً معلومات حيوية أخرى تتعلق بـغريزة البقاء، مثل: الجوع والخوف والعطش وغيرها من الحاجات اليومية الملحة التي يتعامل معها الدماغ وعندما تأخذ إحدى هذه الغرائز الأولوية القصوى (كأن يواجه الكائن تهديداً حقيقياً أو يجوع بشدة)، يعمل الدماغ على تفعيل «نظام الأولوية» الخاص به.
عندما تكون الحاجة للبقاء ملحة، تقوم الخلايا العصبية المسؤولة عن هذه الغرائز بإطلاق جزيء إشاري أساسي يُسمى الببتيد العصبي Y (Neuropeptide Y - NPY).
يعمل هذا الـNPY مباشرة على المستقبلات Y1 الموجودة على الخلايا العصبية في النواة الشعبية الجانبية (lPBN)، ويكون تأثيره إسكاتاً فورياً للألم، وهذا الإسكات يُعد بمثابة تجاوز فوري لإشارة الألم المزمن، مما يسمح للغريزة الأهم (كالهرب من الخطر أو البحث عن الطعام) أن تتولى القيادة دون أن يُعيقها الألم الطاحن.
يُقدم هذا الاكتشاف لأول مرة دائرة عصبية مُحدّدة وقابلة للاستهداف في الدماغ، وليست مجرد مسار عام للألم.
بدلاً من الاعتماد على مسكنات الألم التي تعمل بشكل عام على الجهاز العصبي ولها آثار جانبية مدمرة (مثل الإدمان)، يمكن للعلماء تطوير علاجات موجهة بدقة (Targeted Treatments) تُركز على تطوير عقاقير تحاكي تأثير الببتيد العصبي Y (NPY) أو تُفعّل مستقبلات Y1 بشكل انتقائي في هذه المنطقة الحساسة من الدماغ.
وداعاً للمسكنات.. الدماغ يملك «مفتاح إيقاف» سرياً للألم المزمن
