بايدن وترامب وأسطورة إدارة الاقتصاد

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

حافظ جو بايدن بانتظام على تقدم كبير في استطلاعات الرأي على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قبل انتخابات نوفمبر. لكن على الرغم من استجابة ترامب لجائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد 19) ـ الفشل الذي تسبب في جعل الاقتصاد أضعف كثيراً مما كان ينبغي له ـ فقد حافظ على ميزة هامشية تتعلق بمسألة أي من المرشحين أفضل للاقتصاد الأمريكي؟.

بفضل ترامب، يمثل البلد الذي لا يتجاوز عدد سكانه 4 % فقط من سكان العالم الآن أكثر من 20% من إجمالي الوفيات الناجمة عن «كوفيد 19»، وهي نتيجة مخزية بكل ما في الكلمة من معنى، نظراً لنظام الرعاية الصحية المتقدم (وإن كان مكلفاً) في أمريكا.

الواقع أن الافتراض بأن الجمهوريين أفضل من الديمقراطيين في الإدارة الاقتصادية راجع إلى أسطورة قديمة يجب فضح زيفها. في كتابنا الصادر في عام 1997 بعنوان «الدورات السياسية والاقتصاد الكلي»، أظهرنا أنا والراحل (العظيم) ألبرتو أليسينا أن الإدارات الديمقراطية تميل إلى قيادة نمو أسرع، وبطالة أدنى، وأسواق أسهم أقوى مقارنة بالإدارات الجمهورية.

الواقع أن فترات الركود في الولايات المتحدة تأتي دائماً تقريباً في ظل إدارات جمهورية ــ وهو النمط الذي استمر منذ ظهور كتابنا. جاء الركود في عام 1970، وفي الفترة 1982-1980، وفي عام 1990، وفي عام 2001، وفي الفترة 2009-2008، والآن في عام 2020، عندما كان أحد الجمهوريين في البيت الأبيض (باستثناء الركود المزدوج في الفترة 1980-1982، الذي بدأ في عهد جيمي كارتر لكنه استمر تحت حكم رونالد ريغان).

على نحو مماثل، اندلعت أزمة الركود الأعظم في الفترة 2009-2008 بفعل الأزمة المالية التي امتدت طوال الفترة 2008-2007، والتي حدثت أيضاً تحت إشراف الحزب الجمهوري.

هذا الميل ليس عشوائياً: ذلك أن السياسات التنظيمية المتساهلة تُـفضي إلى الأزمات المالية والركود. وما يزيد الأمور تعقيداً أن الجمهوريين ينتهجون على نحو منتظم سياسات مالية متهورة، وينفقون قدر ما ينفق الديمقراطيون، لكنهم يرفضون زيادة الضرائب للتعويض عن عجز الموازنة الناتج عن ذلك.

بسبب سوء الإدارة على هذا النحو أثناء رئاسة جورج دبليو بوش، ورث الرئيس باراك أوباما ونائب الرئيس بايدن أسوأ ركود منذ الكساد الأعظم. ففي أوائل 2009، تجاوز معدل البطالة في الولايات المتحدة 10 %، وكان النمو في حالة سقوط حر، وكان عجز الموازنة تجاوز بالفعل 1.2 تريليون دولار، وكانت سوق البورصة منخفضة بنحو 60 %. ولكن بحلول نهاية ولاية أوباما الثانية في أوائل عام 2017، تحسنت كل هذه المؤشرات بدرجة هائلة.

في الواقع، حتى قبل الركود نتيجة لأزمة «كوفيد 19»، كان تشغيل العمالة ونمو الناتج المحلي الإجمالي، فضلاً عن أداء سوق الأسهم في الولايات المتحدة، أفضل في عهد أوباما مقارنة بعهد ترامب. ومثلما ورث ترامب الملايين من والده، ليبدّدها على إخفاقات أعماله، كذلك ورث اقتصاداً قوياً من سلفه، ليدمره في غضون فترة ولاية واحدة.

تزامن ارتفاع أسعار الأسهم في أغسطس المنصرم مع ترسخ تقدم بايدن في استطلاعات الرأي، مما يشير إلى أن الأسواق لا تشعر بأي توتر إزاء رئاسة بايدن المحتملة، أو بشأن احتمالات اكتساح الديمقراطيين للكونجرس. السبب بسيط: فإدارة بايدن من غير المحتمل أن تلاحق سياسات اقتصادية راديكالية.

فربما يكون بايدن محاطاً بمستشارين تقدميين، لكنهم جميعاً ينتمون بالكامل إلى التيار السياسي السائد. علاوة على ذلك، يُـعَـد اختياره لمنصب نائب الرئيس، السناتور كامالا هاريس من كاليفورنيا، معتدلاً إلى حد كبير، وأغلب أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين الذين سيحتلون مقاعد الكونجرس الجديد أكثر وسطية من جناح اليسار في حزبهم.

صحيح أن إدارة بايدن قد ترفع معدلات الضرائب الهامشية على الشركات وأعلى 1% من الأسر دخلاً، والتي خفضها ترامب والجمهوريون في الكونجرس لمجرد إعطاء المانحين الأثرياء والشركات حَـسَـنة قيمتها 1.5 تريليون دولار.

لكن معدل الضريبة الأعلى لن يؤدي إلا إلى إلحاق ضرر متواضع بأرباح الشركات. وأي تكاليف يتحملها الاقتصاد سَـيُـعَـوَّض عنها من خلال إغلاق الثغرات التي تسمح بالتهرب الضريبي وتحويل الأرباح والإنتاج إلى الخارج، وسياسات بايدن المقترحة التي تحمل شعار «صنع في أمريكا» لجلب المزيد من الوظائف والأرباح، وإعادة الإنتاج إلى الداخل.

علاوة على ذلك، في حين أن ترامب ورفاقه الجمهوريين لم يكلفوا أنفسهم حتى عناء صياغة برنامج سياسي لهذه الانتخابات، فقد اقترح بايدن مجموعة من السياسات المالية المصممة لتعزيز النمو الاقتصادي.

إذا تولى الديمقراطيون السيطرة على مجلسي الكونجرس والبيت الأبيض، فإن إدارة بايدن ستسعى إلى تقديم حافز مالي أكبر موجه إلى الأسر، والعمال، والشركات الصغيرة التي تحتاج إليه، فضلاً عن الإنفاق على مشاريع البنية الأساسية التي تخلق الوظائف، والاستثمار في الاقتصاد الأخضر.

لن تستثمر إدارة بايدن في التخفيضات الضريبية لصالح أصحاب المليارات، بل في التعليم وإعادة تدريب العمال، والسياسات الصناعية والإبداعية لضمان القدرة التنافسية في المستقبل. ولن تتعرض الأعمال الخاصة للإرهاب من خلال نوبات غضب الرئيس على موقع تويتر.

يدعو الديمقراطيون أيضاً إلى رفع الحد الأدنى للأجور لتعزيز دخل العمال واستهلاكهم، إلى جانب ضوابط تنظيمية للحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. وسوف يدفعون باتجاه سياسات قادرة على إعادة بعض القدرة التفاوضية للعمال، وحماية المدخرين من المؤسسات المالية النهابة.

وسوف يتبعون نهجاً أكثر عقلانية في التعامل مع التجارة، والهجرة، والسياسة الخارجية، وإصلاح التحالفات والشراكات الأمريكية وملاحقة سياسة «التعاون» بدلاً من تدابير الاحتواء تجاه الصين، والتي تضمن الخسارة للجميع. وكل هذه التدابير مفيدة للوظائف، والنمو، والأسواق.

على الرغم من ترشح ترامب باعتباره شعبوياً، فإنه أقرب إلى فئة الحكام الأثرياء النافذين ــ شعبوي ثري ــ وهكذا حَـكَـم. كانت سياساته الاقتصادية بمثابة كارثة حلت على العمال الأمريكيين والقدرة التنافسية الاقتصادية في الأمد البعيد. أما سياسات التجارة والهجرة التي جرى الترويج لها على أنها تدابير لاستعادة الوظائف الأمريكية فقد خلفت التأثير العكسي.

ولم تنخفض في عهد ترامب حالات «الموت يأساً» التي تؤثر بشكل غير متناسب على العمال من ذوي البشرة البيضاء والمنتمين إلى طبقة البريكاريا (الذين يعيشون في ظل أوضاع اقتصادية اجتماعية هشة يحيطها عدم اليقين)؛ ومع أكثر 70 ألف وفاة نتيجة لجرعة مخدرات زائدة في عام 2019، تستمر هذه المذبحة الأمريكية. إذا كان للولايات المتحدة أن تشغل الوظائف العالية القيمة في المستقبل، فسوف تحتاج إلى تدريب قوة العمل لديها، والامتناع عن تبني نزعات الحماية وكراهية الأجانب المدمرة للذات.

الحق أن اختيار الناخبين الأمريكيين المهتمين بالآفاق الاقتصادية في أمريكا من غير الممكن أن يكون أشد وضوحاً. ذلك أن بايدن، الذي كان لفترة طويلة على اتصال بمخاوف العمال الكادحين، هو المرشح الرئاسي الوحيد في التاريخ الحديث الذي لا ينتمي إلى رابطة جامعات آيفي المرموقة.

 

ومن الواضح أن فرصته أفضل من أي شخص آخر لإعادة بناء التحالف الديمقراطي واستعادة دعم الناخبين الساخطين المنتمين إلى الطبقة العاملة. لكل الأمريكيين الذين يهتمون بمستقبلهم ومستقبل أبنائهم، من غير الممكن أن يكون الاختيار الصحيح في نوفمبر أشد وضوحاً.

 

 

Email