ألعاب إعادة التوزيع

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

توشك مباراة الركض لمسافة 100 متر النهائية الأوليمبية أن تبدأ. وتزأر الحشود عند سماع صوت الطلقة التي تشير إلى بدء السباق. ولكن بعد ثلاثين متراً، يتباطأ المتسابقون الذين كانوا في المقدمة، كما لو أنهم يتضامنون مع المتأخرين. الواقع أنهم لم يختاروا ذلك، لكن قواعد جديدة تفرض قيوداً صارمة على المسافة القصوى التي تفصل بين الفائز وصاحب المركز الأخير.

هذا النوع من القياس هو الذي يتخيله المعارضون المحافظون لإعادة توزيع الدخل والثروة عندما يندبون «سياسة الحسد». فهم يتصورون الأثرياء على أنهم عدّاؤون يريد المثاليون السذج إبطاء حركتهم. لكن الحياة ليست ألعاباً أوليمبية.

في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، ربما كان من الممكن الاعتماد على العمل الجاد والعقل المبدع لانتشال الناس من براثن الفقر. لكن هذا كان ممكنا فقط لأن المجتمع كان يفرض قيوداً فعالة. ومنذ أزيلت هذه القيود، مع انهيار نظام بريتون وودز، لم يعد العمل الشاق لساعات طويلة وإظهار قدر هائل من الموهبة والبراعة يجدي نفعاً.

المشكلة التي تواجه معظم الناس، وخاصة الشباب، تكمن في تكبيلهم بفعل ركود الاستثمار والأجور، بسبب حقيقة بسيطة مفادها أن الأثرياء يزدادون ثراءً حتى أثناء نومهم، لأسباب لا علاقة لها بالجهد أو ريادة الأعمال أو التقتير.

وحتى المبدعون العظماء يمثلون جزءاً من المشكلة. كان جيف بيزوس يتمتع ببصيرة ثاقبة، فأحدث ثورة في تجارة التجزئة، وصنع ثروة. ولكن أي جزء من 200 مليار دولار يمثل المكافأة له على تفكيره الذكي وريادته؟ وأي جزء من ثروته الحالية يُـعَـد ببساطة راجعاً إلى ثروته السابقة؟

على الرغم من استحالة الإجابة عن مثل هذا السؤال بدقة، فإن القسم الأعظم من ثروة العالم لا يجد طريقه إلى المبدعين. ومع تراكم الثروة في أيدي قِـلة من الناس، يتحول باقي الاقتصاد تدريجياً إلى صحراء.

ولكن ماذا ينبغي لنا أن نفعل إزاء الثروة شديدة التركيز؟ وكيف نعيد توزيعها بشكل عادل وفعّـال؟

تشهد ضريبة الثروة رواجاً كبيراً اليوم. لكن أي ضريبة ثروة ملائمة من الناحية القانونية والسياسية لا تكفي لتقليص المستويات الحالية من التفاوت الساحق بشكل كبير. وهذا من شأنه أن يمكّن المحافظين من التشكيك في إعادة توزيع الثروة، عبر طرح تساؤلات مشروعة من قبيل: هل ينبغي للدولة طرد الوريث الفقير من منزل ضخم، إذا لم يكن قادراً على دفع ضريبة الثروة؟

لحسن الحظ، هناك طرق مجربة لإعادة توزيع الثروة دون انتهاك حقوق أي شخص. في عام 1906، قام تيودور روزفلت بتفكيك ستاندرد أويل واتحادات احتكارية أخرى. وفي أعقاب انهيار وول ستريت في عام 1929، واجه فرانكلين ديلانو روزفلت الجوقة ذاتها عندما حبس الجني المالي في القمقم. بهاتين الخطوتين أجرى الرئيسان عملية إعادة توزيع الثروة والسلطة على نحو ما كان ليتحقق دون ثورة.

بطبيعة الحال، يجد الأقوياء دائماً السبل للتخلص من هذه الأغلال. بعد انهيار نظام بريتون وودز في عام 1971، بدأت مؤسسات وول ستريت والاتحادات الاحتكارية تهيمن من جديد. واليوم، تمتلك ثلاث شركات عملاقة: بلاك روك، وفانجارد، وستيت ستريت، ما لا يقل عن 40 % من كل الشركات العامة الأمريكية وما يقرب من 90 % من تلك المسجلة في بورصة نيويورك.

ويتفشى التواطؤ الضمني لأن كل رئيس تنفيذي يعلم أن الشركة الأم الكبرى من المرجح أن تتفاهم مع الرؤساء التنفيذيين للشركات المنافسة التي تمتلكها أيضاً. والنتيجة أسعار أعلى، وإبداع أقل، واستثمار أدنى، وبطبيعة الحال أجور راكدة.

تركزت الثروة بشكل أكبر بعد انهيار وول ستريت في عام 2008 وبدأت البنوك المركزية تضخ أنهاراً من الأموال إلى شرايين النظام المالي. ومن خلال استغلال أموال البنك المركزي، استخدمت الاتحادات الاحتكارية العملاقة هذه السيولة لاختراع أشكال جديدة من الديون المعقدة ولإعادة شراء أسهمها، مما أرسل أسعار الأسهم (والمكافآت بطبيعة الحال) إلى عنان السماء في حين حُـرِم العالم من الاستثمار في الوظائف الجيدة والبنية الأساسية الخضراء.

كما انغمست الشركات الكبرى في هواية مفضلة أخرى: اغتصاب الأسواق، وشراء الساسة، وأسر الهيئات التنظيمية ــ باختصار، تسميم الحياة الديمقراطية الليبرالية. وبحلول الوقت حيث تسببت جائحة فيروس كورونا (كوفيد 19) في دفع الاقتصاد الحقيقي إلى أعماق جديدة من الكساد، كان عالم التمويل انفصل تماماً عن الاقتصاد الحقيقي، الأمر الذي حوّل الرأسمالية إلى نوع من الإقطاع التكنولوجي.

لإنهاء هذا النظام، يتعين علينا أن نعمل على تحديث تدخلات الرئيسين روزفلت. وبدلاً من إهدار الطاقة على ضريبة الثروة غير الفعّـالة، ينبغي للتقدميين أن يركزوا على استراتيجية ثلاثية المحاور.

أولاً، يجب توجيه أموال البنك المركزي لدعم الاستثمار العام في التحول الأخضر وغير ذلك من المنافع العامة. ويجب تفكيك الشركات التي تحتكر أسواقاً ضخمة من صنعها ــ كما تفعل أمازون وفيسبوك. وأخيراً، يجب إيداع نسبة من أسهم الشركات الضخمة (ربما 10 %) في صندوق للأسهم الاجتماعية لتمويل عائد أساسي شامل.

*وزير مالية اليونان الأسبق، وهو زعيم حزب MeRA25 وأستاذ علوم الاقتصاد في جامعة أثينا.

Email