الاقتصادات المتقدمة وبرامج عمل ما بعد الجائحة

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

هناك احتمالية متزايدة بأن تشكل أزمة جائحة «كورونا» (كوفيد 19) نهاية نموذج النمو الذي نشأ قبل أربعة عقود مع ثورة ريغان - تاتشر، وتبني الصين الرأسمالية، وزوال الاتحاد السوفييتي. فقد فضحت الجائحة مدى ضعف المجتمعات البشرية. كذلك أدت الأزمة الحالية إلى تقوية قبضة الحكومات، وتآكل المساندة المهزوزة بالفعل للعولمة. وفجأة أصبح نموذج الحكومة محدود المسؤوليات والسوق الحرة يبدو بشكل مفزع وكأنه شيء من الماضي.

يشير التاريخ إلى أن الانتقالات بين مراحل التطور الرأسمالي قد تكون صعبة وغامضة. ولا يكمن التحدي في الغموض فحسب، لأن ظهور توافق جديد يتطلب عادة تنحي شيء أو طرف معين (لصالح آخر). ففي أواخر أربعينيات القرن الماضي، انسحب الساعون لاقتصاد الريع أمام قوى التحديث. وفي الثمانينيات، تنحّت العمالة المنظَّمة جانباً أمام الرأسمالية. وسيتكرر الأمر عينه هذه المرة.

لنبدأ بتغير المناخ. رغم أن الانتقال إلى الحياد الكربوني قد يكون السبيل الأوحد للحفاظ على رفاهيتنا، فمن شأنه حتماً أن يحدث اضطراباً في نمط حياة الأسر التي اعتادت قيادة السيارات رباعية الدفع، أو الاعتماد على نظم التدفئة التقليدية القديمة.

لقد قدمت انتفاضة حركة السترات الصفراء الفرنسية مؤخراً تذكيراً قوياً بالعواقب الاجتماعية لضرائب الكربون. فمع ما يستتبعه الانتقال الأخضر من إبدال رأس المال «البني» برأس مال «أخضر»، سيتطلب ذلك استثمارات إضافية ــ تقدر على الأحوط بنسبة 1 % من الناتج المحلي الإجمالي السنوي على مدار العقود القادمة ــ في المزيد من النظم الصناعية والمباني والسيارات ذات الكفاءة. وسيُتَرجم الحفاظ على ثبات مستوى كل من الاستهلاك العام وصافي الصادرات إلى انخفاض في الاستهلاك الخاص بنسبة 1 % من الناتج المحلي الإجمالي ــ أو انخفاض بنسبة 2 % تقريباً في المستوى.

ثم يأتي بعد ذلك تناقص الاعتماد على الأسواق العالمية في ما تصل بالإمدادات واللوازم الأساسية. فقد استفاد المستهلكون بشكل هائل من مشاركة الصين في الاقتصاد العالمي. وكما أوضح روبرت فينسترا، الأستاذ في جامعة كاليفورنيا بديفيس، ومجموعة من زملائه، أسهم دخول الصين في منظمة التجارة العالمية عام 2001 في خفض أسعار التصنيع الأمريكية بنسبة 1 % في العام ــ أي ما يوازي 0,3 % من قوة الشراء.

وباستخدام منهجية مختلفة، انتهى كل من ليونيل فونتين وتشارلوت إملنجيه بمركز الدراسات المستقبلية والمعلومات الدولية (باريس) إلى أن الواردات من البلدان ذات الأجور المنخفضة أسهمت حتى عام 2010 في جعل الأسرة الفرنسية المتوسطة أغنى بمقدار 8 %، وربما ارتفعت النسبة الآن إلى %10 بين المستهلكين في أوروبا والولايات المتحدة بفضل تلك الواردات.

السؤال الآن: كم تبلغ التكلفة المتوقعة لزيادة الاستقلالية الاقتصادية؟ لو افترضنا أن هذا يعني التخلي عن ربع المكسب الناتج عن العولمة ومقداره 8 %، فإنه سيفضي إلى انخفاض في الاستهلاك الحقيقي بنسبة 2 % أخرى.

لكن هناك ما هو أكثر من ذلك: تشير التوقعات الصادرة عن صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أنه بحلول عام 2021، سيرتفع نصيب الناتج المحلي الإجمالي من الدين العام في الاقتصادات المتقدمة بعشرين نقطة مئوية على الأقل. وقد تتحمل معظم الدول ذلك في بيئة تهيمن عليها أسعار الفائدة الصفرية.

لكن بعد انتهاء الجائحة، ستضطر الحكومات إلى الشروع في تخفيض نسب ديونها من أجل خلق الحيز المالي اللازم لمواجهة التكرار المحتمل للصدمات المُعطِّلة. لنفترض مثلاً، على أحوط تقدير مرة أخرى، أن الحكومات تمكنت من عكس وتعويض نصف الزيادة (في الديون) بعد عشر سنوات من خلال فرض ضرائب على الأسر، فإن هذا قد يعني خفضاً آخر بنسبة 1 % من الناتج المحلي الإجمالي في الدخل، وهبوطاً آخر بنسبة 2 % في الاستهلاك، بطريق الموازنة والربط بين الأشياء. بشكل إجمالي، قد يفضي ذلك لتقليص نمو الاستهلاك السنوي في العقد بنسبة 0,6 %.

غير أنه لا يُتوقع زيادة الدخل الحقيقي بقدر كبير. وحسبما أكدت دراسة حديثة شاملة للبنك الدولي، لا تزال المكاسب السنوية للإنتاجية، التي تمثل محرك النمو الاقتصادي، تراوح مكانها منذ عام 2008، مع تدني الزيادات السنوية عن مستوى 1 % في الاقتصادات المتقدمة. وفي حال استمرار ركود الإنتاجية، ومع تزايد أعمار السكان، فلن يكون هناك مجال لزيادة الاستهلاك الفردي للأسر على مدار عشر سنوات.

لكن أزمة الصحة العامة قد فجرت وعياً متجدداً بأهمية المهام الحياتية المعتادة التي يؤديها كثير من العمال. ففي غالبية المجتمعات المتقدمة، أضحى هناك اعتقاد سائد بضرورة أن تعكس دخول هؤلاء العمال بصورة أفضل مدى مساهمتهم في خدمة الصالح العام. وسيكون من المستهجن إخبارهم بأن أفضل ما يمكن أن يأملوه في العقد القادم الإبقاء على دخولهم ثابتة.

إذاً، فمن سيرضخ؟ وأي أشياء ستتنحى لصالح أخرى؟ على الأرجح سيهيمن ذلك الجدال على نقاشات السياسات في السنوات المقبلة. ولا شك أن أمثال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سيزعمون أن السيادة ونمو الاستهلاك لهما الأولوية على قضيتي الحفاظ على المناخ والدين. أما من يفكرون بشكل مختلف فسيتحتم عليهم البحث عن سبيل للخروج مما يبدو وكأنه مجموعة متنافرة من الأهداف.

لإدراك تلك الغاية، لا بد من إعطاء الأولوية العليا للكفاءة. وهذا يعني تشجيع الإنتاجية، وتأكيد تبني نهج اقتصادي في تحقيق الانتقال الأخضر بدلاً من إهدار الموارد في استثمارات سقيمة لإزالة الكربون، ووضع تعريف محدد ودقيق لمتطلبات الأمن الاقتصادي بدلاً من السعي لإعادة عمليات التصنيع والإنتاج إلى دول المنشأ، وهو الأمر الذي لا تملك الدول المتقدمة حياله أي ميزات تنافسية.

لكن الكفاءة وحدها لن تكفي للتغلب على التحديات التي ظهرت بالفعل، إذ ينبغي أن تحظى الأهداف الجديدة ــ وهي الحفاظ على المنافع العامة، وتحقيق الأمن الاقتصادي، والشمولية ــ بمركز الصدارة، مع ترحيل قيمة حقوق المساهمين إلى المرتبة الثانية. وبدلاً من اعتبار النمو الحل الأخير للتفاوت وعدم المساواة، سيتوجب على الاقتصادات المتقدمة معالجة القضايا التوزيعية بشكل مباشر وصريح.

 

 

Email