كفاءة الإدارة المالية الحكومية ركيزة النمو الاقتصادي

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

من بين آثار عمليات الإغلاق بسبب «كوفيد 19» هذا العام، هو أن العديد من الشباب عادوا إلى منازلهم مؤقتًا للبقاء مع آبائهم، وأجروا شققهم لمن هم في حاجة إليها. وبالنسبة للأشخاص الذين فقدوا وظائفهم، فإن الإيجار الذي يدفعه هؤلاء المستأجرون يوفر بلا شك شبكة أمان مرغوب فيها وضرورية. وبفضل اقتصاد العربة الحديث، يمكن لضحايا الانكماش أن يعملوا مثل الشركات، عن طريق «الضغط» على ميزانياتهم العمومية من أجل استخلاص المزيد من الدخل من أصولهم الحالية.

ونظراً إلى الحجم الهائل للإنفاق الذي تتطلبه هذه الأزمة، يجب على صانعي السياسة العامة، أيضًا، التفكير في نهج أكثر إبداعًا. فالوباء يقدم فرصة فريدة للحكومات لتوحِّد مواردها المالية، من خلال النظر، ليس فقط في الإنفاق والإيرادات، بل في الأصول والخصوم أيضا. ومن خلال اتباع نهج متكامل، كما هو الشأن بالنسبة لإعادة هيكلة الشركات، يمكن للحكومات أن تقود طريقها نحو انتعاش أقوى، دون الحاجة إلى التقشف المفرط، والصعوبات الاجتماعية التي تصاحبها.

ولا يمكن للأفكار المستوحاة من مجال الإدارة المالية للشركات أن تحسن فهم الحكومات للموازنات بين خفض الإنفاق والزيادات الضريبية. كما أنها تُظهر أيضاً أن مديونية الحكومة الإجمالية يمكن أن تقاس على أنها نسبة من الأصول المادية التي تمتلكها الحكومة. ومن وجهة النظر هذه، لا تحتاج الحكومة إلى الاعتماد فقط على الناتج المحلي الإجمالي السنوي المتوقع، عند توليد الرصيد النقدي اللازم لخدمة ديونها. وبدلاً من معالجة النفقات الرأسمالية على أنها نفقات فورية، يمكنها البدء في الاستفادة من ثروتها العامة الهائلة، من خلال محاسبة سليمة لاستثماراتها الطويلة الأجل في البنية التحتية.

وعندما يحين الوقت لزيادة الضرائب أو خفض الإنفاق، سيتعين على الحكومات أن تزن الموازنات وفقًا لمواقفها المالية. إذ في حين بلغ الإنفاق الحكومي العام في إيرلندا 25 % من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2018، أنفقت الولايات المتحدة ما يعادل 38 %، وكانت حصة الناتج المحلي الإجمالي من الإنفاق العام في فرنسا 56 % (تمثل الطرف الأعلى من الطيف)، هذا يعني أنه سيكون من الأسهل بكثير على إيرلندا استعادة الصحة المالية على المدى الطويل، عن طريق زيادة الضرائب بدلاً من خفض الإنفاق العام، بينما ربما يجب أن يكون خفض الإنفاق أولوية في فرنسا.

وعلى أي حال، من المهم أن تعتمد الحكومات القيمة الصافية للقطاع العام مقياساً مالياً رئيسياً. إذ غالباً ما تعيش الاقتصادات ذات الميزانيات العمومية القوية للقطاع العام تجربة ركود اقتصادي ضحل، وتتعافى منه بصورة أسرع، لأن لديها مساحة أكبر لسياسة مالية معاكسة للدورة الاقتصادية، ومن ثم، هناك حاجة أقل إلى تدابير خاصة تسبب عدم اليقين.

وكما هو الحال فيما يتعلق بالثروة الشخصية أو الأسرية، يجب أن يشمل تقييم الميزانية العمومية للقطاع العام ما تملكه الحكومة وما تدين به. ويمكن أن نجد نموذجاً ملائماً للأزمة الحالية في قانون المالية العامة لنيوزيلندا لعام 1989. إذ من خلال ميزانية عمومية قوية للقطاع العام، والتركيز على صافي القيمة، تمكنت تلك الدولة من إدارة العديد من الصدمات السلبية بسهولة، منذ آخر أزمة مالية عميقة لها منذ 30 عامًا. وليس هناك وقت أفضل من الآن لتدرك المزيد من الحكومات أهمية جميع عناصر الميزانية العمومية للقطاع العام، وإعادة التفكير في كيفية استثمارها، والاستفادة من الأصول القائمة من أجل تحقيق أهداف طويلة الأجل.

وبطبيعة الحال، يجب أن تحفز الأزمة الحالية أيضًا على إعادة تقييم التأثير المالي الحقيقي لضمانات الديون، الآن بعد أن قامت العديد من الحكومات بتمديدها لتشمل القطاع الخاص على نطاق واسع. والخطر الواضح والكبير هو أن بعض البنوك والشركات قد تتعرض للإفلاس، وعندها ستطلب أن تُدفع ضمانات الديون. وحقيقة أن هذه الوعود يتم التعامل معها حاليًا كما لو كانت «مجانية»، هي سبب آخر لتعتمد الحكومات محاسبة الاستحقاق السليمة التي تستخدم نموذج الخسارة الائتمانية المتوقعة.

وتماماً مثلما يمكن لمنصات مثل Airbnb (إيربينبي) وUber (أوبر) مساعدة الأفراد على استعمال أصولهم بصورة أفضل خلال الوباء، فإن اتباع نهج أفضل للمحاسبة بما يتعلق بالقطاع العام يمكن أن يساعد الحكومات على تحرير الإيرادات التي تشتد الحاجة إليها، ويمكنه في نفس الوقت أن يحمي من المخاطر التي تتعرض للتجاهل حالياً. ونظراً لأن تدفقات الإيرادات هذه ستستمر، فهي حل أفضل بكثير من التخلص من الأصول بأسعار البيع في كل مرة تحدث فيها صدمة.

والحل الأفضل هو أن الإيرادات الإضافية هذه يمكن استخدامها في خفض مستويات الديون الحالية، أو في بناء صافي ثروة الحكومة، ومن ثم توفير حاجز مالي لتحسين تصنيفها الائتماني السيادي، وخفض تكلفتها الرأسمالية. وكما هو الحال مع أي شركة أو فرد، فإن الأصول الحكومية المُدارة بدرجة أكبر من الكفاءة، من شأنها أن تساهم في النمو الاقتصادي، وأن تولد التدفقات النقدية للميزانية العامة، وتكاليف تشغيلية صافية منخفضة. حينها فقط سيستفيد المجتمع بأسره.

*كبير الاقتصاديين في سيتي غروب (Citygroup) سابقاً، ويشغل حالياً منصب أستاذ زائر في جامعة كولومبيا.

** الرئيس التنفيذي للاتحاد الدولي للمحاسبين سابقاً، ويشغل حالياً منصب أستاذ بجامعة فيكتوريا في ويلينغتون.

*** مستشار استثماري ورئيس سابق لشركة Stattum (ستاتوم)، الشركة القابضة للحكومة السويدية.

Email