«كورونا» ونموذج النشاط الاقتصادي الصيني الخلاق

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

لا شيء مثل الجائحة في الكشف عن التباينات الجهازية في ما يتصل بالصين والولايات المتحدة، اللتين كانتا منهمكتين في منافسة، حتى قبل اندلاع أزمة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد 19)، سيتبين لنا أن هذه الاختلافات صارخة. ولكن البلدين يشتركان في قاسم واحد على الأقل: عندما ينتهي كل هذا، سيكون لزاماً على كل من البلدين أن يعيد التفكير في وضعه الاجتماعي.

للحد من انتقال عدوى الفيروس، فرضت الصين والولايات المتحدة تدابير التباعد الاجتماعي، التي تسببت ــ إلى جانب البطالة التي تنتجها ــ في كسر دورة الكسب والإنفاق التي تدعم النمو العالمي. تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن الناتج المحلي الإجمالي العالمي سينكمش بنحو %3 هذا العام. في الصين، انكمش الناتج المحلي الإجمالي بنحو %6.8 في الربع الأول من هذا العام.

غير أن تدابير الصحة العامة التي طبقت في كل من البلدين ــ والنتائج المترتبة عليها ــ كانت متباينة بشكل حاد. فقد أفضت عمليات الإغلاق الصارمة في الصين إلى تراجع كبير في حالات الإصابة الجديدة، في حين سمحت الاستجابة المتأخرة المفككة في أمريكا بتصاعد حالات الإصابة بالعدوى ــ وحصيلة الموتى ــ بشكل حاد.

يُـعـزى هذا التباين غالباً إلى اختلافات سياسية حيث يسمح التخطيط المركزي في الصين بالتحرك بقدر أكبر من الحزم. ولكن هذا التفسير يتغافل عن مدى تأثير نماذج النمو في الولايات المتحدة والصين في تشكيل الاستجابات في كل من البلدين ــ والتأثيرات المالية والاقتصادية المترتبة عليها.

في الولايات المتحدة، أدت عقود من السياسات النيوليبرالية إلى الاعتماد على الاستهلاك الممول بالاستدانة. ولم يدخر الأمريكيون الكثير ولكنهم أفرطوا في الاقتراض. فبفضل «الامتياز الباهظ» المتمثل في مكانة الدولار كعملة احتياطية عالمية رائدة، تمكنت الحكومة من سلوك ذلك الاتجاه. وعلى هذا فقد تضخم العجز المالي وعجز الحساب الجاري.

مع ذلك، ظل التضخم منخفضاً، حتى عندما انتهج مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي سياسات توسعية، وهذا راجع إلى حد كبير إلى صدمات العرض الإيجابية التي نتجت عن اندماج الصين وغيرها من البلدان النامية في الاقتصاد العالمي.

ومرة أخرى يسلك بنك الاحتياطي الفيدرالي هذا الطريق أثناء الجائحة، فيخفض أسعار الفائدة بشكل حاد ويعمل على توسيع ميزانيته العمومية بأكثر من 2.4 تريليون دولار في الأسابيع الستة المنصرمة لمنع نقص السيولة الجهازي. كان من الواضح فترة طويلة أن النموذج الأمريكي بهذا الشأن، غير قابل للاستمرار على المستويات المالية والبيئية..

فجائحة كوفيد 19 أظهرت أن أي تعطل في دورة الاستهلاك والاستدانة تهدد بإحداث انهيار على الفور تقريباً.. ما يزيد من استنفاد الدخول. ولدرء الكارثة، يجب أن يتدخل بنك الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة، لتحويل مخاطر الائتمان إلى الميزانية العمومية للقطاع العام. يتجنب النموذج الصيني الكثير من هذه المزالق.

وهذه ليست نتائج التخطيط المركزي، بل ترجع إلى التجريب المستمر على الأرض والتكيف على أساس المردود المنعكس من القاعدة إلى القمة. كانت المنصات التكنولوجية، وليس مؤسسات التخطيط المركزي، هي التي عملت على تطوير شبكات شاملة عززت الإبداع والابتكار، وخلقت أسواقاً جديدة، وولَّدَت الوظائف.

أبرزت أزمة كوفيد 19 الفوائد المترتبة على هذا النهج. إذ تعمل أنظمة «التطبيقات الفائقة» البيئية في الصين على خلق نماذج عمل رقمية دائرية من «الكسب والإنفاق والدفع» تساعد على الدمج بين وظائف شركات الأعمال والمستهلكين، على قاعدة أوسع كثيراً من نظيراتها في النماذج الغربية التي لا تزال مقسمة تبعاً لضوابط تنظيمية قطاعية.

أثناء فترة الإغلاق، عملت منصات الأسواق مثل علي بابا (Alibaba)، وبندودو (Pinduoduo)، وغيرهما، كشريان حياة للعديد من أصحاب الأعمال الصغيرة ومتناهية الصِغَر، فأبقتهم على اتصال بالملايين من المستهلكين المحليين والدوليين. كما لعبت شركات اللوجستيات العاملة على الإنترنت، مثل JD.com، دوراً بالغ الأهمية، حيث ضمنت تسليم السلع الأساسية طوال فترة الإغلاق.

نجحت الصين في تطوير نظام متكيف سهل يربط بين 800 مليون هاتف ذكي محلي بطرق منتجة، فوق قمة نظام مصرفي تقليدي هرمي. ويُـعَـد هذا عنصراً حاسماً في نظام هجين دوري أعرض اتساعاً يضم المدخرات والاستهلاك والاستدانة والدخل، وهو أكثر مرونة وقدرة على الصمود من النموذج الغربي القائم على الاستهلاك الممول بالاستدانة.

الحق أن هذا يعد سبباً رئيساً وراء عدم مواجهة القطاع المالي في الصين لنقص حاد في السيولة، وهو ما استدعى استجابة حازمة من قِـبَـل البنك المركزي أثناء إغلاق الاقتصاد. مع استمرار تطور نموذج التنمية في الصين، فقد يتحول إلى نظام دائري بالكامل يعمل على تعزيز إنشاء رأس المال الاقتصادي والاجتماعي والطبيعي، بدلاً من استهلاكه ببساطة.

* أستاذ في معهد آسيا العالمي في جامعة هونغ كونغ، هو عضو المجلس الاستشاري لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة لشؤون التمويل المستدام.

** رئيس معهد هونغ كونغ للتمويل الدولي، أستاذ ومدير معهد أبحاث طريق الحرير البحري في كلية إتش إس بي سي لإدارة الأعمال في جامعة بكين.

 

Email