الرعاية الصحية في عالمنا وعِبر «كورونا»

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

لا بد لدول عالمنا ومؤسساته الرسمية المعنية، من المبادرة إلى اتخاذ التدابير والاحتياطات اللازمة في ظل انتشار وباء كورونا، وفي ضوء الأرقام الخطرة التي تبين حجم غياب الرعاية الصحية في الكثير من بقاع عالمنا، إذ يفتقر نحو 40 % من سكان العالم لأي نوع من التأمين الصحي أو أي سبيل للحصول على الخدمات الصحية الوطنية.

وينفق حوالي 800 مليون شخص 10 % على الأقل من ميزانية أسرهم على الرعاية الصحية كل عام، فيما يقع 100 مليون شخص تحت طائلة الفقر بسبب النفقات الطبية، ما يعني افتقار كثيرين إلى وسائل لالتماس العلاج حينما يمرضون ــ بما في ذلك عند تعرضهم لأمراض شديدة العدوى مثل كوفيد-19. إن 55 % من سكان العالم ــ أي نحو أربعة مليارات شخص ــ لا يستفيدون من أي شكل من أشكال الحماية الاجتماعية مطلقاً، في ظل اعتماد بلدان كثيرة على الحلول القائمة على السوق (التي لا يقدر عليها إلا القليل) لسد الفجوات.

لكن هذا، كما يُظهر وباء كوفيد-19 بصورة صارخة، لا يضر فقط الدول الأشد فقراً والأكثر ضعفاً، بل يهدد رفاهية مجتمعات بأكملها ورفاهية المجتمع العالمي بأسره.

ومما يفاقم المشكلة افتقار غالبية ساحقة من العمال إلى الأمن الاقتصادي الذين يمكنهم من الحصول على إجازة مرضية أو التكيف مع شدة مفاجئة. ولو نظرنا للدول التي تطبق نظاماً للتأمين الاجتماعي و/‏‏‏أو للإعانة الاجتماعية يقدم مزايا واستحقاقات للمرضى، لوجدنا أن نسبتها تقل عن الثلثين، ومن ثم يضطر كثير من المرضى للاختيار بين تعريض صحتهم الشخصية والصحة العامة للخطر أو دفع فواتيرهم.

ولا يخفى على أحد أن نظم الحماية من البطالة هي الأخرى قاصرة بصورة حادة، رغم دورها الحيوي في دعم دخول الأسر وتثبيت الطلب الكلي. وبالفعل وجدنا المشروعات التي تعتمد على الموردين في المناطق المتأثرة بتفشي الوباء، أو التي تواجه تناقصاً في الطلب بسبب عزل بعض المناطق وفرض تدابير أخرى لاحتواء المرض، قد تعرضت لضغط هائل.

وباتت مئات الآلاف من الوظائف الآن في مهب الريح، ناهيك عن أن نسبة من يستطيعون الاعتماد على إعانات البطالة لا تتجاوز واحداً من بين كل خمسة عاطلين في العالم.

بعد الكارثة العالمية الأخيرة ــ وأعني بها الأزمة المالية التي وقعت عام 2008 ــ تبنى المجتمع الدولي بالإجماع توصية منظمة العمل الدولية الخاصة بالحدود الدنيا للحماية الاجتماعية (رقم 202)، متعهداً بوضع مستويات دنيا من الحماية تشكل الأساس لنظم ضمان اجتماعي شاملة.

إن العالم لم يشهد ثراء كالذي يشهده اليوم. وسواء حدث ركود بسبب الوباء أم لم يحدث، نستطيع حشد الموارد اللازمة. ولإدراك تلك الغاية، ينبغي للدول تنفيذ إصلاحات ضرائب الشركات التي تهدف إلى ضمان مساهمة الشركات متعددة الجنسيات بنصيب عادل في الخزانة العامة.

ومن الأمور التي قد تفيد هنا أيضا تطبيق الدخل التصاعدي والضرائب على الثروات، ووضع سياسات للحد من التدفقات المالية غير المشروعة.

لكن هذه الإجراءات قد تستغرق وقتاً حتى تؤتي ثمارها، وفي ظل ما سببه الوباء بالفعل من تعطيل للنشاط الاقتصادي وتقليص هائل في الدخول والطلب، بات عامل السرعة ضرورياً وحيوياً، إذ تحتاج كل من الدول المتقدمة والنامية في القريب العاجل إلى مزيد من المرونة لتمويل العجز والحصول على قروض دولية ميسرة لدعم الاستثمارات في نظم الحماية الاجتماعية.

وفي عام 2015، اتخذ قادة العالم خطوة أخرى واعدة للأمام عندما اتفقوا على جدول أعمال 2030 للتنمية المستدامة، حيث ترمي كثير من أهداف التنمية المستدامة إلى تحقيق تقدم على مسار واجب الحماية الاجتماعية.

على سبيل المثال، يرمي الهدف 3-8 إلى «تحقيق تغطية صحية شاملة، بما في ذلك الحماية من المخاطر المالية، وإتاحة الحصول على خدمات الرعاية الصحية الأساسية الجيدة، وحصول الجميع على الأدوية واللقاحات الآمنة والفعالة والميسورة التكلفة».

كذلك يدعو الهدف 4-10 الدول إلى «تبني سياسات، لا سيما السياسات المالية وسياسات الأجور والحماية الاجتماعية، وتحقيق قدر أكبر من المساواة تدريجياً».

لكن التقدم المحرز في هذا الصدد، كما توضح أزمة وباء كوفيد-19، لا يكاد يكفي. وإن كان هناك من جانب إيجابي للوباء، فإنه الأمل في أن يحفز الحكومات لتوسيع مدى إتاحة الخدمات الصحية والإعانات المرضية والحماية من البطالة.

وعلى أية حال، تبين الدلائل أن لمثل هذا الإنفاق أثراً مضاعفاً على الاقتصاد مقارنة بأية تدابير أخرى (كتخفيضات الضرائب المفروضة على أصحاب الدخول الأعلى، وتقديم الائتمان لمن يشترون منازل لأول مرة، وبعض البنود الخاصة بضرائب الشركات) وأن من شأنه تعزيز الاستقرار الاجتماعي والسياسي. وبالطبع يظل التساؤل بشأن كيفية توفير التمويل لمثل هذا الإنفاق.

بالفعل هناك حكومات كثيرة تقوم بزيادة الإنفاق حاليا من أجل ضمان توفير الخدمات الضرورية خلال أزمة فيروس كوفيد-19، بما في ذلك إدراج إجراءات الوقاية والتحاليل والعلاج في برامج المزايا والاستحقاقات. فعلى سبيل المثال، تجري كوريا الجنوبية كل يوم آلاف التحاليل الخاصة بفيروس كوفيد-19 في مراكز تحليل تمولها الحكومة لفحص المواطنين داخل السيارات.

فضلاً عن ذلك، زادت بعض الحكومات من دعمها الاقتصادي للأسر والشركات. فقد مدت فرنسا وأيرلندا وبريطانيا مظلة الإعانات المرضية لتشمل العمال في الحجر الصحي أو من عزلوا أنفسهم ذاتياً. كما تقدم ألمانيا وهولندا إعانات بطالة جزئية للعمال الذين قُلصت ساعات عملهم بسبب تدني الطلب.

بالمثل قامت الصين وفرنسا والبرتغال وسويسرا بتوسيع أهلية الاستحقاق لإعانات البطالة لتشمل العاملين بالشركات التي أُجبرت على الإغلاق المؤقت، بينما مدت أستراليا والصين والبرتغال مظلة الإعانات الاجتماعية لتغطي الفئات السكانية المعرضة للتأثر بالأزمة. كذلك أجلت دول كثيرة ــ مثل الصين وفرنسا وتايلند ــ مواعيد الاستحقاق المقررة لسداد أقساط التأمين الاجتماعي والضرائب.

غير أن تلك التدابير ليست إلا خطوة أولى، وعلى الحكومات أن تستغل الزخم الذي خلقته الأزمة الحالية لإحراز تقدم سريع نحو وضع أنظمة عامة للحماية الاجتماعية تقوم على التمويل الجماعي والشمولية. عندئذ فقط ستستطيع مجتمعاتنا واقتصاداتنا التكيف مع وباء كوفيد-19 وأي أزمات أخرى قد تطرأ.

إن وباء كوفيد-19 (مرض فيروس كورونا 2019)، ينطوي على دلالات خطرة يجب على عالمنا ان يستوعب أبعادها، إذ إننا ورغم كل التقدم في المجال الصحي، نبقى معرضين لخطر الأوبئة في كثير من الدول، بسهولة، بفعل النواقص في أنظمة الرعاية الصحية.

فمثلا إن الدول التي لا توفر مستشفيات واماكن توفر للمصاين الان قدرة عزل أنفسهم أو الحصول على العلاج، تعرض حياتهم وحياة الآخرين للخطر، وإن لم تقدر أية دولة على احتواء الفيروس، سيكون مصير الدول الأخرى الإصابة بالعدوى حتماً، أو حتى عودة العدوى إلى الانتشار بها مرة أخرى، ناهيك عن ما تُظهره أنظمة الحماية الاجتماعية في أنحاء العالم من فشل ذريع في حماية حياة الفئات المعرضة للإصابة وأسباب معيشتهم.

* مديرة إدارة الحماية الاجتماعية في منظمة العمل الدولية.

Email