تحرير الجينوم البشري الموروث ليس محتوماً

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

إن إعلان خبير الفيزياء الحيوية الصيني هي جيانكوي في نوفمبر 2018 أنه تمكن من عمل أول أطفال معدلين جينياً في العالم -وهذا يعتبر خرقاً أخلاقياً وقانونياً واضحاً نتج عنه الحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات- أدى إلى إعطاء دفعة عاجلة للمناقشات المتعلقة بتحرير الجينوم البشري الموروث، ولكن تلك المناقشات تعتبر معيبة بشكل جوهري، ونظراً لأن هناك الكثير على المحك -بالنسبة لمجتمعات اليوم والأجيال القادمة- فإن هناك حاجة عاجلة لتغيير المسار.

إن بعض العلماء والمختصين بتنبؤات المستقبل وغيرهم يؤكدون على أن تحرير الجينوم البشري الموروث هو أمر لا مفر منه، تعديل الأجنة والخلايا الناضجة أحادية الصيغة من أجل إنتاج أطفال معدلين جينياً والذين سينقلون الجينات والصفات التي تم تغييرها إلى ذريتهم.

يبدو أن أنصار مثل هذا الطرح يفترضون أنه بشكل عام سيكون أمراً جيداً طالما سوف ننتظر حتى تكون التقنية «آمنة» ويتم تطبيقها ضمن ظروف مناسبة، وعليه ركّز هؤلاء بشكل عام على إنشاء خارطة طريق مفصلة لكيفية إحراز تقدم في هذا الخصوص.

لقد أعلن منظمو القمة العالمية لتحرير الجينات البشرية، والتي عقدت بعد أيام قليلة فقط من إعلان هي جيانكوي أنه «قد حان الوقت لتحديد مسار صارم ومسؤول ويمكن ترجمته على أرض الواقع من أجل الوصول إلى» اختبارات سريرية لتحرير الجينوم الموروث «.

حيث يعكس ذلك الاستنتاجات السابقة لمجلس نافليد البريطاني للأخلاقيات الحيوية والأكاديميات الوطنية للعلوم والطب في الولايات المتحدة الأمريكية. لقد قامت الأكاديميات الوطنية الأمريكية مع الجمعية الملكية البريطانية آنذاك بتأسيس اللجنة الدولية للاستخدام السريري لتحرير جينوم الجيرملاين البشري، وذلك من أجل أداء تلك المهمة.

ولكن كما جادلنا مؤخراً -معاً بالإضافة إلى 18 من زعماء المجتمع المدني الآخرين والمختصين بالأخلاقيات الحيوية والعلماء والمحامين من 11 بلداً- ضمن بيان جنيف لتحرير الجينوم البشري الموروث إن هذه المقاربة تعكس عدداً من الافتراضات الإشكالية العميقة وقبل أن نبدأ في محاولة وضع معايير لكيف ومتى يستطيع العلماء أن يعدلوا جينياً أطفال المستقبل، يتوجب علينا أن نسأل ما إذا كان يتوجب عليهم القيام بذلك في المقام الأول.

إن هناك أسباباً جيدة لمنع تحرير الجين الموروث كلياً وكما لاحظ بيان جنيف فلقد شكّل ذلك إجماع المناقشات السابقة عن هذا الموضوع والتي تعود لتسعينات القرن الماضي. إن هذا الإجماع ينعكس في قوانين عشرات البلدان وفي المعاهدات الدولية مثل معاهدة أوفيدو وهي اتفاقية ملزمة لمجلس أوروبا.

إن الإجماع السابق مثل بيان جنيف لم يتجنب جميع أشكال تحرير الجين، فلو تم عمل التقنية بشكل آمن وفعال وبأسعار معقولة، فإن من الممكن أن تكون أداة قوية لمعالجة المرضى، ولكن النقاشات السابقة خلصت لنتيجة مفادها أن تحرير الجين يجب ألا يتم استخدامه من أجل تعديل الملف الوراثي لأطفال المستقبل وذريتهم.

إن من المؤكد أن تحرير الجينوم الموروث هو ليس تدخلاً طبياً لإنقاذ الأرواح، فهو لا يعالج أي شخص موجود حالياً، بل إنه يهدف إلى إنشاء شخص مستقبلي بدون متغير جيني ضار أو بصفة مرغوبة.

بالإضافة إلى ذلك فإن الادعاء بأن تحرير الجينوم ضروري لمنع توريث الاضطرابات الجينية هو ادعاء في غير محله، فخلال العشرين سنة الماضية فإن ما يسمى التشخيص الوراثي قبل الزرع -الذي يفحص الأجنة التي تم إنشاؤها من خلال الإخصاب في المختبر- يمكّن الآباء المعرضين للخطر أن يكونوا ذرية ذات صلة وراثياً ولا تتأثر باضطراباتهم الجينية.

إن انتشار مثل تلك المفاهيم الخاطئة هي أحد الأسباب، إن بيان جنيف يدعو لتصحيح المسار ضمن المناقشات العامة وتلك المتعلقة بالسياسات عن تحرير الجينوم الموروث. لقد كانت المناقشات في العادة تركز على الاعتبارات العلمية مع تجاهل السياق الاجتماعي والاستخفاف به، علماً أن ذلك السياق هو السياق الذي تحدث فيه الجهود لتعديل الوراثة البشرية.

إن من الخطر تجاهل أنماط منهجية للتمييز الاجتماعي والتقسيم الطبقي والقوى التجارية القوية والخبرة التاريخية. إن إرث علم تحسين النسل لوحده يجب أن يقود المرء للتفكير ملياً بالأمر ولكن أنصار تحرير الجينوم الموروث عادة ما يرفضون هذا الطرح.

إن من المؤكد أن برامج تحسين النسل التي ترعاها الدولة قد لا تظهر مجدداً، ولكن نسخة تجارية منها تحركها مطالبات تسويقية وخيارات استهلاكية فردية تعتبر مخاطرة حقيقية جداً. إذا أصبحت تقنيات كريسبر للتحرير الجيني راسخة في الطب الإنجابي فليس هناك سبب يدعو للشك في أن عيادات الإخصاب ستقدم قريباً للوالدين الذين لديهم الإمكانيات المادية خيار "الترقيات الوراثية".

إن البعد الحيوي الثالث لهذا التصحيح الضروري للمسار هو الشمولية ونظراً لأن تحرير الجينوم الموروث سيؤثر على الجميع فإن من الضروري أن يكون هناك إجماع واسع قبل اتخاذ أي خطوات ولكن حتى الآن هيمن العلماء وخبراء الأخلاقيات الحيوية على المناقشات.

ليس كل شخص سوف يتأثر بتحرير الجينوم الموروث يمكن أن يشارك في النقاشات، فنحن نتحدث عن عمل تغييرات جينية سوف يتم توريثها لأحفاد كل شخص .

وهذا يثير مشكلة "الأجيال المستقبلية" الشائكة، وهي مشكلة عانى منها الفلاسفة منذ فترة طويلة وهي أن أحفادنا ليس لهم كلمة في الخيارات التي نقوم بها نحن -مثلاً قرارنا بالاستمرار ببث ثاني أكسيد الكربون في الجو- ولكن يتوجب عليهم مواجهة العواقب.

في حالة وجود تقنية من المرجح أن يتم تسويقها للأغنياء كطريقة لإنتاج ذرية متفوقة بيولوجياً فإن العواقب قد تتضمن ترسيخ شكل جديد وأساسي من انعدام المساواة. إن الأبعاد الاجتماعية لتلك النتيجة ستكون عمقة ومخيفة.

إن رعاية مناقشات عامة فعالة تتبنى مجموعة واسعة من الأصوات -بما في ذلك نشطاء حقوق الإنسان وخبراء علم الاجتماع والباحثين في العلوم الإنسانية والفنانين والشخصيات الدينية وأولئك الذين يعانون من الحالات الجينية ومن لا يعانون من تلك الحالات- سيتطلب موارد بشرية ومالية معتبرة. إن بيان جنيف الذي يدعو لتوضيح المسألة وإعادة تأطيرها هو خطوة لتحقيق تلك الغاية.

إن استخدام تحرير الجينوم البشري ليس قراراً يتخذ بسهولة، ومؤكد أنه لا يمكن التعامل كونه اختياراً قمنا به بالفعل.

* أستاذة فخرية متخصصة بالأخلاقيات الطبية والعلوم الإنسانية في جامعة لندن.

 

* مديرة برامج للعدالة الجينية في مركز علم الوراثة والمجتمع في بيركلي كالفورنيا.

 

Email