فخ التعقيد المالي والهروب الذكي

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

لقد نصبت الحضارة الحديثة فخاً لنفسها، بسبب الاستخدام المتسارع للتكنولوجيات الأكثر تعقيداً. إذ في كل ثانية، تتفاعل مليارات الأجهزة، والبروتوكولات، والأفكار، والتقاليد، والأشخاص حول العالم. وتشكل الزيادة الناتجة في التعقيد تحدياً هائلاً، وربما لا يمكن السيطرة عليه.

ويفهم الخبراء أجزاءً من النظام، لكن يصعب فهمه بالكامل من قبل أي عالم، أو مواطن، أو زعيم سياسي. ولمواجهة التحديات العالمية الكبيرة في العقد المقبل، نحتاج إلى نقلة نوعية في النظم التنظيمية المجتمعية، لإخراجنا من فخ التعقيد.

ورغم أن الإنسان وصل إلى هذه النقطة تدريجياً، كانت هناك صدمات في المراحل الأولى من التطور التكنولوجي. إذ على مدى مئات السنين الماضية، ساهم العلم والتكنولوجيا، مسترشدين بالعقل، والمعرفة، في تحسين الحياة اليومية لمعظم البشرية. ولكن التقدم ليس مطرداً. إذ ينتج كل تقدم نوعاً من الاضطراب، والآثار الجانبية التي يكافح المجتمع لمعالجتها.

وعلى سبيل المثال، أدت عملية «هابر بوش» للتثبيت الصناعي للنيتروجين إلى زيادة الغلة الزراعية، ولكنها أدت إلى تلوث المجاري المائية بالجريان في جميع أنحاء العالم، نتيجة الاستخدام المفرط لبعض الأسمدة.

وتسببت مركبات الكربون الكلورية فلورية، التي تستخدم لتؤدي دور مبردات، في ثقب الأوزون، لكن الجهود المبذولة لاستبدالها أدت إلى ظهور مركبات الكربون الهيدروفلورية، التي تعتبر غازات دفيئة خطيرة.

وعلى الرغم من أن المضادات الحيوية أنقذت مئات الملايين من الأرواح، إلا أنها تستخدم الآن على نطاق واسع، إلى درجة أصبحت السلالات المقاومة للعقاقير تشكل خطراً جديداً على صحة الإنسان. وهناك العديد من الأمثلة الأخرى في جميع مجالات العلوم والتكنولوجيا.

وتنشأ مثل هذه المشكلات بسبب التأثيرات على مستوى النظام، التي لا تكون واضحة عند تقديم التقنيات الجديدة، ونشرها لأول مرة. ويمكن أن تحدث عواقب غير متوقعة على أي مستوى تقريباً – سواء على المستوى الكيميائي، أم البيولوجي، أم الحسابي، أم الاقتصادي/‏المالي، أم الاجتماعي/‏السياسي.

ولكن التعقيد الناشئ (الذي يتجاوز أي احتمال للفهم الإنساني المباشر) أصبح مشكلة تتزايد خطورتها مع ظهور أجهزة الكمبيوتر، حيث أصبحت المكونات الفردية للنظام أذكى، وأسرع في التفاعل، فضلاً عن أنها تتصل على نطاق عالمي.

وتتشابك كل هذه التحديات مع قضايا أوسع، تتعلق بالعلوم والمجتمع. وبصفتي عالماً، فقد درست بنية البروتينات الملزمة للحمض النووي، وتصميمها، لكنني تركت منصب عضو دائم في هيئة التدريس في قسم البيولوجيا، في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، من أجل النظر في التحديات الأكبر للفكر الإنساني، ومستقبل البشرية.

ودرست المالية، وعلم الأعصاب الإدراكي، والحوكمة، وتغير المناخ، ومخاطر التدهور البيئي، والمخاطر الناجمة عن صعود الذكاء الاصطناعي. وأصبح شيء واحد واضحاً، وهو أن حدود القدرة المعرفية البشرية تجعلنا نكافح لفهم تعقيد المشكلات التي تواجه الكوكب الآن.

إذاً، ماذا علينا أن نفعل؟ ليس من المعقول مطالبة العلماء، أو غيرهم من الخبراء بتوقع الآثار الكاملة لعملهم. وبدلاً من ذلك، يجب أن نبدأ نهجاً جديداً لمعالجة التعقيد الناشئ، بالاعتراف بأن هذا التعقيد يولِّد نوعين من التكاليف الخارجية (أو «العوامل الخارجية»)، التي يدفعها المجتمع ككل.

ويتضمن بعضها أضراراً مباشرة، مثل استخدام فيسبوك للتحريض على الكراهية، وتعطيل الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016. وبعض الأضرار الأخرى مباشرة بقدر أقل، مثل الوقت والاهتمام اللازمين لحل المشكلات الجديدة، ووضع خطط فعّالة لمعالجتها.

وكما هو الحال بالنسبة للعوامل الخارجية الأخرى - مثل تلك المرتبطة بالوقود الأحفوري - يواجه المجتمع تحدياً أساسياً في توزيع تكاليف التعقيد وفوائده بطريقة عادلة، ومنظمة جيداً، تضمن أن أولئك الذين يطورون تقنيات جديدة، ويبيعونها، يدفعون مجدداً للمجتمع مقابل التكاليف الخارجية. أولاً، نحتاج إلى أساليب أفضل لتقييم المشكلات المحتملة.

ويجب على الشركات التي تطور تقنيات جديدة، على سبيل المثال، تقييم المخاطر، وتخفيفها عند النقاط الرئيسية في عمليات البحث، والتطوير، والتنفيذ. ويجب أن تهدف هذه التقييمات إلى توقع مجموعة من النتائج المحتملة، وتحديد تكاليفها، وفوائدها على المجتمع.

ولا تحل افتراضات العمل الأولية هذه مشكلة التعقيد، ولكنها تؤطرها بما يكفي لتكون دعوة للحصول على المشورة، والتعليق. ويمكن تمويل المناقشات المفتوحة من قبل الحكومات، أو شركات التكنولوجيا، أو من قبل المحسنين الذين يرغبون في الحفاظ على الديمقراطية، وضمان مستقبل بشري صالح للعيش.

وقد أدت الديمقراطية والرأسمالية، إلى جانب العلم الحديث، إلى ازدهار ملحوظ في الفكر، والإبداع، والتعبير، والاختراع، الأمر الذي أدى إلى ترسيخ الافتراض الطويل الأمد، المتمثل في أن المعرفة - واحتمالات سيطرة الإنسان على مصيرنا - ستزداد باطراد. ولكننا دخلنا الآن مرحلة يخلق فيها التعقيد المتزايد عالماً لا يفهمه أحد بالتفصيل.

وسيتطلب الهروب من هذا الفخ أكثر من إصلاح فني يتضمن برنامجاً، أو جهازاً ذكياً جديداً، أو زرعاً للدماغ. أعتقد أن المناقشة يجب أن تبدأ بآليات البوابات، وأنواع جديدة من المخططات التنظيمية، التي يمكن أن تكون بمثابة أدوات وقائية، عند إدخال التكنولوجيا لأول مرة.

ورغم ذلك، سنحتاج، في النهاية، إلى ترقية أساليب تفكيرنا بحد ذاتها. وهذه دعوة لخطة عمل عالمية، تستحق أذكى عقولنا.

 

 

Email