شروط إنشاء مفوضية أوروبية «جيوسياسية»

مارك ليونارد

ت + ت - الحجم الطبيعي

أخيراً، تولت أورسولا فون دير لين، في الأول من ديسمبر، رئاسة المفوضية الأوروبية. لقد وعدت بقيادة لجنة ستتفادى السيناريو الذي، كما حذر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الآونة الأخيرة، قد «تختفي فيه أوروبا جيوسياسيًا»، وسط تنافس صيني أمريكي متصاعد.

ولا شك أن الاتحاد الأوروبي لديه أكبر سوق في العالم، وثاني أعلى إنفاق في مجال الدفاع (بعد الولايات المتحدة)، و 55000 دبلوماسي، وأكبر ميزانية في العالم للمساعدة الإنمائية. ولكن نقاط القوة هذه مقيدة بتجزئة القوة الأوروبية بين الدول الأعضاء ومؤسسات الاتحاد الأوروبي، وداخلها. وفي حين أن كلاً من الصين والولايات المتحدة بارعتان في دمج الجيوسياسية مع مصالحهما الاقتصادية، فإن الاتحاد الأوروبي يتصرف بعناد كما لو كانت هذه الأجندات منفصلة عن بعضها البعض.

وإذا أرادت فون دير لين النجاح في تأسيس «لجنة جيوسياسية» فعالة، فستحتاج إلى اجتياز سبعة اختبارات كبيرة. ويكمن الاختبار الأول في توحيد الصفوف وراء اتفاقها الأخضر الأوروبي المقترح، والذي جعلته إحدى أولوياتها المركزية. والسؤال لا يكمن فقط في ما إذا كانت تستطيع توجيه استجابة أوروبية فعالة لتغير المناخ، بل في ما إذا كان يمكنها الحيلولة دون أن تصبح القضية جبهة أخرى في الحرب الثقافية بين الدول الأعضاء الغربية في الاتحاد الأوروبي والجماعات في وسط وشرق أوروبا.

وتتناقض آراء الناخبين في جمهورية التشيك، وبولندا، وسلوفاكيا، بشأن ما إذا كان يجب معالجة مشكل تغير المناخ. وإذا لم تتدخل لجنة فون دير لين لتوحيد صفوف هؤلاء الناخبين، يمكن للصفقة الخضراء الأوروبية أن تعيد النظر في سياسات اليورو وأزمة اللاجئين، عندما شعرت الدوائر الانتخابية الهامشية في الاتحاد الأوروبي بالإهمال من قبل الجهات الفاعلة الأقوى في قلب الاتحاد الأوروبي (الذي بدا واضحاً أن العديد منها كانت مقتنعة بتفوقها الأخلاقي).

ثانياً، يجب أن تكون لجنة فون دير لين منفتحة أمام التدابير المضادة، التي يمكن اتخاذها ضد تسليح أمريكا للدولار. إذ بدأت إدارته تقرر فعليًا، بشأن الدول التي يمكن للأوروبيين التعامل معها تجارياً، عن طريق التهديد بعقوبات ثانوية ضد أي شركة تتعامل مع إيران. إذا، يكمن التحدي الذي يواجه اللجنة الجيوسياسية في تحديد المجالات التي تعتمد فيها الشركات الأمريكية بشكل غير متماثل على أوروبا، وحيث يمكن تطبيق العقوبات الأوروبية (أو مجرد التهديد بها)، بأقصى قدر ممكن من التأثير. ولقد أثبتت هذه الاستراتيجية فعاليتها بالفعل، في أزمة الوصول إلى اتفاق بشأن تعريفات السيارات.

ثالثاً، سيتعين على لجنة فون دير لين أن تتناول مسألة الدفاع الأوروبي. إذ هناك ثلاثة معسكرات واضحة. ويشمل المعسكر الأول الفرنسيين، الذين يريدون تحقيق الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي، وإنهاء اعتماد الاتحاد على الولايات المتحدة. ويفضل المعسكر الثاني، الذي تجسده بولندا، «العبودية الاستراتيجية»، ويريد مضاعفة العلاقة عبر المحيط الأطلسي، عن طريق شراء المزيد من المعدات الأمريكية، وإنشاء قاعدة عسكرية تحمل اسم«حصن ترامب»، لإبقاء الولايات المتحدة منخرطة في القارة. أما الثالث، الذي تمثله ألمانيا، فيدافع عن «الصبر الاستراتيجي»، أملاً في أن ترجع الأمور إلى مجراها الطبيعي، بعد رحيل ترامب في النهاية. والطريقة الوحيدة للتوفيق بين هذه الآراء، هي تعزيز مساهمات أوروبا في الناتو، حتى يُنظر إليها على أنها أفضل شريك للولايات المتحدة.

رابعاً، يجب على لجنة فون دير لين إعادة النظر في سياسة المنافسة للاتحاد الأوروبي، والتي تركز حاليًا فقط على معونات الدولة، وغيرها من الممارسات غير العادلة داخل أوروبا، بينما تتجاهل المنافسة غير العادلة من الخارج. خامساً، وفي ملاحظة ذات صلة، سيتعين على المفوضية الجديدة تطوير آلية لفحص الاستثمارات الأجنبية، تحمي القطاعات الحساسة، وتعوض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التي يُطلب منها رفض رأس المال الأجنبي. وبالإضافة إلى وضع إجراءات فحص مشتركة، يتعين على الاتحاد الأوروبي تمكين المفوضية من استخدام حق النقض ضد الاستثمارات الأجنبية لأسباب أمنية، مع احتفاظ المجلس الأوروبي بالكلمة الأخيرة (عن طريق تصويت الأغلبية المؤهلة).

سادساً، سيتعين على لجنة فون دير لين تطوير وكالة أوروبية للدفاع الإلكتروني جديرة بحمل هذا الاسم. وعلى وجه التحديد، يجب على القادة الجدد في الاتحاد الأوروبي تحويل ENISA (وكالة الاتحاد الأوروبي للأمن السيبراني)، إلى مؤسسة مزودة بالموظفين على نحو جيد، وتمتع بتمويل جيد مع وجود فرق مركزية للاستجابة للطوارئ بالكمبيوتر، وفرق الطب الشرعي السيبرانية، وممثلي التشريعات للسعي نحو بروتوكولات أمنية أقوى عبر الاتحاد.

وأخيراً، ستتكلف فون دير لين بمهمة إعادة تحديد موقع بنك الاستثمار الأوروبي، والبنك الأوروبي لإعادة البناء والتنمية، نظراً لأنهما يشكلان ثقلاً موازناً موثوقاً به في مبادرة الحزام والطريق الصينية. وحتى الآن، لم يتخذ الاتحاد الأوروبي نهجا استراتيجيا لإعادة تشكيل الهيكل المالي العالمي، وكان رده على أنشطة الاستثمار والتنمية العالمية في الصين خجولا على أفضل تقدير. إن منح بنك الاستثمار الأوروبي والبنك الأوروبي لإعادة البناء والتنمية تفويضا عالمياً، لتمويل مشاريع خارج أوروبا، من شأنه أن يساعد على تحويل مسار هذا الإخفاق نحو الاتجاه المعاكس. وفضلاً عن ذلك، سيسمح لأوروبا بإنقاذ البلدان التي تواجه أزمات مالية، في حالة كَتفت الولايات المتحدة أو الصين أيادي صندوق النقد الدولي، أو المؤسسات الأخرى.

إن كل واحد من هذه الاختبارات السبعة يقع في منطقة يمكن أن يصبح فيها الاتحاد الأوروبي عنصراً عالمياً رئيسياً، وعنصراً قادراً على الحفاظ على قوته بالقوى العظمى الأخرى. ولكن كل تحد سيتطلب وحدة حقيقية بين الأوروبيين، تتجلى في عمل مؤسسات الاتحاد الأوروبي وحكومات الدول الأعضاء معاً بسلاسة.

وبدلاً من التعامل مع هذه القضايا بطريقة مجزأة، يجب على فون دير لين أن تسعى إلى عقد صفقة كبيرة، تعطي معنى وشكلًا حقيقيين للسنوات الخمس المقبلة من صنع السياسة في الاتحاد الأوروبي. وسيتطلب ذلك، ضمن أمور أخرى، التفكير الإبداعي بشأن إطار ميزانية السنوات السبع المقبلة، والتي ينبغي استخدامها لحشد الموارد، التي تحتاجها أوروبا لتجعل من نفسها عنصراً عالمياً، ولتعزيز التدابير المبتكرة مثل السندات الخضراء، والضرائب الرقمية، وتسعير الكربون. وفقط حينها، ستكون «العمولة الجيوسياسية» نقطة تحول، وليس مقطعاً صوتياً قصيراً.

 

ـــ مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية

opinion@albayan.ae

Email