الاقتصاد الثنائي واستثمار عوائده الاجتماعية

أندريس فيلاسكو

ت + ت - الحجم الطبيعي

كيف يمكننا معرفة ما إذا كانت السياسة الاقتصادية ستحقق هدفها المُحدد؟ حسناً، يمكننا إنشاء مجموعتين متشابهتين، وتخصيص «العلاج» عشوائياً لإحداهما فقط وقياس النتائج. من خلال مقارنة المجموعتين، سوف نحصل على تقدير موثوق لمدى فعالية السياسة.

هذه التقنية، والمعروفة أيضاً بالتجارب العشوائية المنضبطة (RCTs)، استخدمت منذ فترة طويلة في الطب والسياسة الاجتماعية. من خلال تطبيقها على اقتصاديات التنمية، أحدثت استير دوفلو وأبهيجيت بانيرجي ومايكل كريمر ثورة في عدد الاقتصاديين الذين عملوا - وفازوا بجائزة نوبل الشهر الماضي.

لقد كان الإنجاز فكرياً وتنظيمياً على حد سواء: لقد ظهر مجتمع عالمي من مؤيدي هذه التقنية، وهم ملتزمون استخدام التجارب العشوائية المنضبطة لتغيير العالم. من شأن الأدلة الجديدة أن تتسبب في تجاهل حكومات البلدان النامية للسياسات السيئة وتبني سياسات جيدة.

جادلت الفيلسوفة نانسي كارترايت، الحاصلة على جائزة نوبل أنجوس ديتون وجيمس هيكمان، ولانت بريتشيت من جامعة أكسفورد منذ فترة طويلة، بأن الأدلة الناتجة عن التجارب العشوائية المنضبطة ليست المعيار الذهبي للموثوقية كما يدعي مؤيدوها. لكن حتى لو كانت الأدلة قوية، فهل سيجدها الناخبون والحكومات مُقنعة؟ هل ستتحسن السياسة بما يكفي لإحداث تغيير في حياة الناس؟

إذا كانت هناك لحظة يفشل فيها الدليل الموثوق في تحريك السياسيين، فهذه اللحظة نعيشها الآن. أعلن دونالد ترامب في عام 2016 أن «الخبراء سيئون للغاية!». وقال وزير المحافظين مايكل جوف عندما واجه حقيقة أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيكون سيئاً للاقتصاد البريطاني «لقد تعبت بريطانيا بما يكفي من الخبراء!». والحال تلك تنطبق على الدول المتقدمة الأخرى.

لا يُعد النهج التجريبي نظرياً، حيث يرى البعض أنه ميزة: دع البيانات تتحدث. لكن مؤيدي التجارب العشوائية المنضبطة لديهم نموذج ضمني لصنع السياسات، وهو بسيط للغاية: «إذا قمت ببنائه، سيأتون». قد يقدم السياسيون على القيام بالشيء الصحيح إذا واجهوا أدلة قوية. ومع ذلك، تساعد البحوث الاقتصادية الأخرى، التي يتم إنتاجها غالباً من قبل الحائزين جوائز نوبل، على فهم السبب وراء كون هذا النموذج غير مرضٍ.

يجب أن نبدأ بصنع القرار. حصل عالم النفس دانييل كانيمان والخبير الاقتصادي ريتشارد ثالر على جائزة نوبل لعملهما الرائد في علم الاقتصاد السلوكي، وهو فرع من الأبحاث يُظهر أن نماذج الاقتصاديين العقلانيين لم تكن على صواب: البشر هم عرضة للثقة المفرطة والتحيزات والاعتماد على القواعد الأساسية الخاطئة عند اتخاذ الخيارات.

عندما يقوم الأشخاص باتخاذ خيارات جماعية، تزداد حدة المشكلات. عندما تكون الخيارات التي يجب أن يتخذها البشر جماعية، فإن المشكلات تنمو باطراد. حقيقة أن ما هو منطقي جماعي لا يحتاج إلى أن يكون جذاباً بشكل فردي، وهذا أمر أساسي في الاقتصاد العام الحديث. إذا استفادت مجموعة واحدة من عنصر معين من الإنفاق العام (على سبيل المثال، عيادة محلية) والتي يمكن تمويلها عن طريق الاقتراض - حتى يتمكن دافعو الضرائب الآخرون، الحاليون والمستقبليون، من المساعدة على دفع ثمنها - عندئذ لن تمنع أي محادثات حول الفوائد المثبتة تجريبياً والمتمثلة في الحيطة المالية الجيران من المطالبة ببناء العيادة. بصفتي وزيراً للمالية في تشيلي مدة أربع سنوات، شاركتُ في مناقشات عديدة حول الإنفاق العام. لا أتذكر أن مقالة أكاديمية غنية بالأدلة ساعدت على نجاحي.

نُواجه أيضاً قضية التوزيع الشائكة. هناك بعض التغييرات السياسية المُربحة بالنسبة للبعض من دون خسارة الآخرين (يطلق عليها الاقتصاديون «تحسينات باريتو»). في مثل هذه الحالات، من شأن الأدلة التجريبية المُقنعة التي يتم نشرها بمهارة أن تغير آراء الناس. لكن معظم خيارات السياسة تتسبب في خسارة شخص ما لشيء ما. حينها يقوم الخاسرون المُحتملون بمحاربة التغيير بينما يظل الفائزون المحتملون غير مدركين أو غير مهتمين أو كليهما، الشيء الذي ينتج عنه شلل سياسي. لن تتمكن نتائج التجارب العشوائية المنضبطة من تغيير هذا الوضع.

علاوة على ذلك، يهتم البشر بما يقوله الآخرون عنهم. وكما قال راشيل كرانتون والحائز جائزة نوبل جورج أكيرلوف، نحن على استعداد لتحمل التكاليف الاقتصادية من أجل تأكيد هوياتنا. قد يختار مهاجر جديد عدم تعلم اللغة السائدة في بلده الجديد من أجل الاندماج في حي يسكنه مهاجرون حديثون آخرون. أو قد يستمر الناخبون في دعم زعيم شعبوي حتى لو كانت سياساته المضللة تفسد البلاد. السياسة هي في كثير من الأحيان سياسة الهوية، لا تتأثر بالأدلة.

تتعلق المسألة الأخيرة بالنطاق والطموح. تُعد تقنية التجارب العشوائية المنضبطة الأنسب لقضايا السياسة المحددة بدقة. إذا كنت تريد أن ينام الناس تحت الأسِرة المضادة للملاريا، فهل ستقوم ببيع تلك الأسِرة أو التخلص منها؟ هل تساعد التحويلات النقدية المشروطة للأمهات الفقيرات على تسجيل أطفالهن في المدرسة؟ والسؤال الأهم: هل تعمل حصص الانتخابات أو «الكوتا» على تحسين التمثيل السياسي للمرأة في الهند؟ (الجواب هو نعم).

لا يمكن للمواهب البحثية تصميم تجربة عشوائية لاختبار ما إذا كانت هناك حاجة لمزيد من العولمة، أو إلى أي مدى يجب أن تكون الحكومة كبيرة، أو ما الذي يدفع النمو الاقتصادي. نتيجةً لذلك، لا يمكن لمؤيدي التجارب العشوائية التحدث عن القضايا المُهمة التي تُلهب المشاعر ويتم خلق قصص كبيرة حولها. وهذه الروايات، كما أوضح روبرت جيه. شيلر (حائز آخر جائزة نوبل) هي التي تنظم تفكيرنا بشأن الاقتصاد. إذا لم يتم دمجها في سرد واسع للتغيير، فإن الأدلة التجريبية يمكن أن يكون لها تأثير سياسي محدود في أحسن الأحوال.

يدرك دوفلو وبانرجي كل هذه الأمور. وقد ذكرا في كتابهما الجديد «الاقتصاد الجيد في الأوقات الصعبة»: «بينما نفقد قدرتنا على الاستماع إلى بعضنا البعض، تصبح الديمقراطية أقل جدوى وأقرب إلى تعداد مختلف القبائل، حيث يعتمد كل صوت على الولاءات القبلية أكثر منه على التوازن الحكيم للأولويات». لكن من غير الواضح كيف تتناسب هذه الملاحظة مع نظرية التغيير الاجتماعي الخاصة بهم.

إن «الحل الوحيد لتجنب الأفكار السيئة، هو أن نكون يقظين وأن نقاوم إغراء ما هو واضح، وأن نحذر من المعجزات المُقترحة، وأن نتحرى عن الأدلة، وأن نتحلى بالصبر مع التعقيد ونكون صادقين بشأن ما نعرفه و ما يمكن أن نعرفه». هذا بليغ وصحيح في آن واحد، لكن يبدو كأنه تعبير عن الأمل أكثر من الدعوة إلى العمل.

لا تتمثل النقطة الأساسية في مناقشة أهمية المزيد من الأدلة حول «ما الذي ينجح» في التعليم أو الفقر أو الصحة. لكن الاقتصاد يعلمنا أنه يجب علينا تخصيص الدولار حيث يحقق عائداً اجتماعياً أكبر. ونظراً لانتشار تقنية التجارب المُنضبطة العشوائية في السنوات الأخيرة، ربما ينبغي للأكاديميين والمانحين تخصيص المزيد من الوقت والموارد للقضايا الكبيرة التي لا يمكن دراستها من خلال الأساليب التجريبية - ومعرفة المزيد عن الطلب على أدلة تجريبية جديدة والعقبات التي تحول دون استخدام صناع السياسات لها. وينطبق الشيء نفسه على المناهج الدراسية: تُخاطر العديد من البرامج الأكاديمية بتدريس الطلاب سلبيات الاقتصاد في حين تضفي القليل من الحكمة على كيفية الاستفادة من هذه المعرفة في العالم الحقيقي. بصفتي عميد كلية السياسة العامة، فإن هذا يُشعرني بقلق كبير.

من دون إحداث أي تغيير، سيستمر عرض تقييمات السياسات الكمية في الارتفاع كما سيتراجع الطلب عليه من قبل صناع السياسة. وسيخبرك أي طالب اقتصادي في السنة الأولى أن السعر النسبي لخدمات الاقتصاديين قد ينخفض. هذه أخبار سيئة للاقتصاديين وللعالم.

 

ـــ مرشح رئاسي سابق ووزير مالية شيلي، وعميد كلية السياسة العامة بجامعة لندن للعلوم الاقتصادية والسياسية

opinion@albayan.ae

Email