نحو نماذج اقتصادية «بنيوية» يدعمها الذكاء الاصطناعي

توماس جي سيرجينت

ت + ت - الحجم الطبيعي

حتى وقت قريب، كان عائقان كبيران يحدان مما يمكن أن يتعلمه الباحثون الاقتصاديون عن العالَم من خلال الأساليب القوية التي طورها علماء الرياضيات والإحصاء بداية من أوائل القرن التاسع عشر للتعرف على ــ وتفسير ــ الأنماط في البيانات المتنافرة المشوشة: كانت مجموعات البيانات صغيرة ومكلفة، وكانت أجهزة الكمبيوتر بطيئة ومكلفة. لذا فمن الطبيعي أن يسارع الاقتصاديون إلى استخدام البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي، حيث عملت المكاسب في القوة الحاسوبية على تذليل هذه العقبات بشكل كبير، لمساعدتهم على رصد الأنماط في مختلف أشكال الأنشطة والنتائج.

يُعَد ملخص البيانات والتعرف على الأنماط من الأجزاء الكبيرة في العلوم الفيزيائية أيضاً. ذات يوم، شَـبَّه الباحث الفيزيائي ريتشارد فاينمان العالَم الطبيعي بمباراة بين آلهة: «أنت لا تعرف قواعد اللعبة، ولكن من المسموح لك أن تنظر إلى الرقعة من وقت لآخر، ربما من زاوية صغيرة. ومن هذه الملاحظات، يمكنك أن تحاول التعرف على القواعد».

الواقع أن استعارة فاينمان تمثل وصفاً حرفياً لما يفعله العديد من الاقتصاديين. فمثلنا كمثل علماء الفيزياء الفلكية، نحصل عادة على بيانات غير تجريبية جرى توليدها بواسطة عمليات نريد أن نفهمها. وقد عَـرَّف الباحث الرياضي جون فون نيومان اللعبة على أنها (1) قائمة باللاعبين: (2) قائمة بالتحركات المتاحة لكل لاعب؛ (3) قائمة بالكيفيات التي تعتمد بها المكافآت التي يحصل عليها كل لاعب على تصرفات جميع اللاعبين؛ (4) بروتوكول توقيت ينبئنا بمن يختار ماذا ومتى. يتضمن هذا التعريف الأنيق ما نعنيه عندما نقول «دستور» أو «نظام اقتصادي»: فهم اجتماعي حول من يختار ماذا ومتى.

مثل فيزياء فاينمان المستعارة، تتمثل مهمتنا في استخلاص «لعبة» ــ التي تمثل بالنسبة للاقتصاديين بنية السوق أو شبكة من الأسواق ــ من البيانات المرصودة. ولكن بعد ذلك نريد أن نفعل شيئاً لا يفعله الفيزيائيون: التفكير في الكيفية التي قد تسفر بها «الألعاب» المختلفة عن نتائج محسنة. بمعنى أننا نريد إجراء عدة تجارب لدراسة الكيفية التي قد يؤثر بها أي تغير افتراضي في قواعد اللعبة أو في نمط السلوك المرصود من قِبَل بعض «اللاعبين» (ولنقل الهيئات التنظيمية الحكومية أو البنك المركزي) على أنماط السلوك التي يظهرها بقية اللاعبين.

وعلى هذا فإن «بناة النموذج البنيوي» في الاقتصاد يسعون إلى استخلاص ــ من أنماط السلوك التاريخية ــ مجموعة من المعايير الثابتة للمواقف الافتراضية (غير المسبوقة تاريخياً عادة)، حيث تتبع الحكومة أو الهيئة التنظيمية مجموعة جديدة من القواعد. تتبنى الحكومة استراتيجيات، ويتبنى الناس استراتيجيات مضادة، وفقاً لمثل صيني. تبحث «النماذج البنيوية» عن مثل هذه المعايير الثابتة من أجل مساعدة القائمين على التنظيم ومصممي السوق على فهم البيانات الضخمة والتنبؤ بها في ظل مواقف غير مسبوقة تاريخياً.

ستستفيد المهمة الصعبة المتمثلة في بناء النماذج البنيوية من أفرع الذكاء الاصطناعي السريعة التطور والتي لا تنطوي إلا على التعرف على الأنماط. ويُـعَد AlphaGo من الأمثلة الرائعة هنا. فقد عمل فريق علماء الكمبيوتر الذي ابتكر الخوارزمية المستخدمة في اللعبة الصينية Go بكل براعة على تجميع مجموعة من الأدوات التي جرى تطويرها من قِبَل متخصصين في الإحصاء، والمحاكاة، ونظرية القرار، ونظرية الألعاب. والعديد من الأدوات المستخدمة بالنسب الصحيحة لصنع لاعب Go اصطناعي متميز هي أيضاً أدوات ضرورية للاقتصاديين لبناء نماذج بنيوية لدراسة الاقتصاد الكلي والتنظيم الصناعي.

بطبيعة الحال، يختلف الاقتصاد عن الفيزياء من جانب بالغ الأهمية. في حين كان بيير سيمون لابلاس يرى «الحالة الراهنة للكون باعتبارها التأثير المتخلف عن ماضيه وسبب مستقبله»، فإن العكس هو الصحيح في الاقتصاد: فما نتوقع أن يفعله الآخرون لاحقاً يشكل سبباً لما نفعله الآن. ونحن نستخدم عادة نظريات شخصية حول ما يريده الآخرون للتنبؤ بما سيفعلون. وعندما تكون نظرياتنا جيدة حول الآخرين، فإن ما قد يفعلونه في الأرجح يحدد ماذا نتوقع منهم أن يفعلوا. ويعكس هذا الخط من التفكير، الذي يطلق عليه أحياناً وصف «التوقعات المنطقية» إحساساً حيث «يكون المستقبل سبباً للحاضر» في الأنظمة الاقتصادية. ووضع هذه الاعتبارات في الحسبان يشكل جوهر بناء النماذج الاقتصادية «البنيوية».

على سبيل المثال، سأسارع إلى الانضمام إلى التكالب على بنك ما لاستعادة الودائع إذا توقعت أن يفعل ذلك آخرون. في غياب التأمين على الودائع، يصبح لدى العملاء الحافز لتجنب البنوك المعرضة لمثل هذا الخطر. ومع التأمين على الودائع، لا يهتم العملاء ولن يتكالبوا على البنك. من ناحية أخرى، إذا أمنت الحكومات على الودائع، فسيرغب مالكو البنوك في أن تكون أصولهم كبيرة ومحفوفة بالمخاطر قدر الإمكان، في حين لن يبالي المودعون. ولا يخلو الأمر من مقايضات مماثلة مع التأمين ضد البطالة والعجز ــ ذلك أن تأمين الناس ضد سوء الحظ ربما يضعف حافزهم لإعالة أنفسهم ــ وعمليات الإنقاذ الرسمية للحكومات والشركات.

في عموم الأمر، سمعتي هي ما يتوقع مني الآخرون أن أفعله. وأنا أواجه اختيارات حول ما إذا كان من الواجب عليّ أن أؤكد هذه التوقعات أو أحبطها. وستؤثر هذه الاختيارات على سلوك الآخرين في المستقبل. وكثيراً ما يفكر القائمون على البنوك المركزية في هذا الأمر.

نحن أهل الاقتصاد، مثلنا كمثل الفيزيائيين، نتعلم من النماذج والبيانات. ونحن لا نتعلم أموراً جديدة قبل أن ندرك إدراكاً كاملاً أن نماذجنا القديمة من غير الممكن أن تشرح البيانات الجديدة. ثم نعكف على بناء نماذج جديدة في ضوء ما علمناه من كيفية فشل النماذج السابقة. ويفسر هذا كيف تعلمنا من فترات الكساد والأزمات المالية السابقة. وبالاستعانة بالبيانات الضخمة، وأجهزة الكمبيوتر الأسرع، والخوارزميات الأفضل، ربما يتسنى لنا أن نرى أنماطاً حيث لم نرَ من قبل سوى تنافر وشَواش.

 

ـــ  أستاذ علوم الاقتصاد في جامعة نيويورك، وكبير زملاء معهد هوفر.

opinion@albayan.ae

Email