سياسة صناعية من أجل وظائف جيدة

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

في مجموعة من البلدان المتقدمة والنامية في عالمنا، عملت مجموعة من القوى التكنولوجية والاقتصادية على خلق شريحة من الإنتاج المتقدم، والذي تركز في المناطق الحضرية، التي تتعايش الآن مع مجموعة من الأنشطة والمجتمعات الأقل إنتاجية نسبياً. تكمن هذه الازدواجية الإنتاجية وراء العديد من العِلل المعاصرة: اتساع فجوة التفاوت، والإقصاء، وفقدان الثقة في النخب، والدعم الانتخابي المتنامي للشعبويين المستبدين. لكن قسماً كبيراً من المناقشة السياسية الدائرة اليوم تركز على حلول تغفل عن المصدر الحقيقي للمشكلة.

على سبيل المثال، يتقبل مبدأ إعادة التوزيع من خلال الضرائب والتحويلات المالية البنية الإنتاجية في دول بارزة على حاله، ولا يفضي هذا إلا إلى تحسين الإنتاج من خلال الهِبات. على نحو مماثل، تسعى الاستثمارات في التعليم، والدخل الأساسي الشامل، وصناديق الثروة الاجتماعية إلى تعزيز المنح والهبات المقدمة لقوة العمل، دون ضمان توظيف الهبات الأفضل في استخدامات إنتاجية. من ناحية أخرى، لا تقدم الضمانات الوظيفية وإدارة الطلب على طريقة جون ماينارد كينز إلا أقل القليل في ما يتصل بتحسين مزيج الوظائف.

لا شك أننا في احتياج إلى العديد من هذه السياسات. لكنها ستعمل بشكل أفضل ــ وربما في الأمد البعيد فقط ــ من خلال مجموعة جديدة من التدابير «الإنتاجية» التي تتدخل بشكل مباشر في الاقتصاد الحقيقي، والتي تستهدف التوسع في تشغيل العمالة المنتجة.

تشمل الاستراتيجية التي نتصورها ثلاثة عناصر تعزز بعضها بعضاً: زيادة مستوى مهارات وإنتاجية الوظائف القائمة، من خلال توفير خدمات الإرشاد لتحسين الإدارة أو البرامج التعاونية لتطوير التكنولوجيا؛ زيادة عدد الوظائف الجيدة من خلال دعم توسع الشركات المحلية القائمة أو جذب الاستثمار من الخارج؛ وسياسات سوق العمل النشطة أو برامج تنمية قوة العمل لمساعدة العاملين، وخاصة من الفئات المعرضة للخطر، على إتقان المهارات اللازمة للحصول على وظائف جيدة.

ليس أي من هذه المكونات الثلاثة جديداً، ويمكن العثور على العناصر الداخلة في كل منها في برامج حكومية قائمة بالفعل. لكن جذور السياسات الحالية تمتد عادة إلى أطر تنظيمية تعمل بشكل رديء في ظل ظروف يغلب عليها عدم اليقين الشديد.

فما هي الوظيفة الجيدة؟ وكم منها يمكن إنشاؤه بشكل معقول؟ كيف تؤثر الخيارات التكنولوجية وغيرها على مستوى الشركات على عملية خلق الوظائف؟ وأي من معززات السياسة التكميلية متاح بالفعل؟ وكيف يمكن توسيع مجموعة الأدوات هذه؟

هذه بالضرورة تساؤلات ظرفية محلية، ولا يمكن الإجابة عنها وتنقيحها بشكل دوري إلا من خلال عملية تكرارية من التفاعل الاستراتيجي بين الهيئات العامة والشركات الخاصة. والموضوع المشترك الذي ينشأ عن دراسة ما يسمى السياسات القائمة على المكان، مثل إعانات دعم التوظيف المستهدفة إقليمياً والاستثمار في البنية الأساسية، هو الطبيعة المشروطة للنجاح. والواقع أن قِلة من السياسات المسبقة التجهيز قد تصادف النجاح عبر بيئات متنوعة على نحو يمكن التعويل عليه.

وتعمل المنافسة بين الدول والمحليات لاجتذاب كبار أرباب العمل من خلال الضرائب وغير ذلك من إعانات الدعم على نحو رديء بشكل خاص. وقد انتهت الصفقات الأخيرة لصالح شركة فوكسكون وشركة أمازون، في ويسكونسن ونيويورك على التوالي، إلى الفشل. فبالإضافة إلى كونها غير متوازنة، كانت تستند إلى بيئة مستقرة، وهو ما انعكس في شروط تعاقدية ثابتة ومفصلة. وعندما واجهت شركة فوكسكون تغيرات طرأت على الطلب والتكنولوجيا، وواجهت شركة أمازون تداعيات سياسية غير متوقعة، لم يعد هناك حيز كافٍ للمراجعة أو إعادة التفاوض.

يتعين على الأنظمة الحاكمة أن تدرك تمام الإدراك الطبيعة المؤقتة والتكرارية لأي إطار سياسي فعّال. ما يدعو إلى التفاؤل أن المبادئ التي يمكن بناء مثل هذه الأنظمة عليها ليس بنا حاجة لاختراعها من الصِفر. فمن الممكن اقتراضها من ترتيبات الحوكمة المبدعة التي عملت الشركات، والهيئات التنظيمية وغير ذلك من الهيئات العامة على تطويرها في مجالات أخرى بالفعل.

في دراسة بحثية حديثة، نقدم رسومات توضيحية مفصلة من مجالين: رعاية التكنولوجيات من قِبَل هيئة المشاريع البحثية الدفاعية المتقدمة وفروعها، وهيئة المشاريع البحثية المتقدمة ــ الطاقة في الولايات المتحدة، والضوابط التنظيمية البيئية في مجال مزارع الماشية لإنتاج الألبان في أيرلندا.

في ظل حالة من عدم اليقين الشديد، لا يملك أي من هذه الأطراف ــ لا الهيئات التنظيمية ولا الشركات ــ معلومات يمكن التعويل عليها حول إمكانات وتكاليف التعديل في الأمد المتوسط، وليس لديها سوى تخمينات ملتبسة في ما يتصل بالاحتمالات في المستقبل. وتتمثل الاستجابة ــ في مجالات تشجيع الإبداع، والضوابط التنظيمية البيئية، وسلامة الأغذية، والطيران المدني بين مجالات أخرى ــ في إنشاء نظام لتبادل المعلومات يربط بين المواصفات الجارية للأهداف ومواصلة الاستكشاف بحثاً عن حلول جديدة.

في الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال، تحدد الجهة التنظيمية مواصفات «المياه الجيدة» كنتيجة طموحة مفتوحة الأمد. وتلتزم الكيانات الخاضعة للتنظيم والأطراف المتأثرة ــ الشركات والمزارع، والدول الأعضاء، والحكومات المحلية، ومنظمات المجتمع المدني ــ بوضع خطط لتحقيق الأهداف والإبلاغ عن النتائج بشكل منتظم. وتفرض العقوبات بسبب الإخفاق في رفع التقارير بأمانة، أو الفشل المستمر في تحقيق نتائج ملموسة (كما يوضح آخرون في وضع مماثل). ولا تراقب هذه الطرق ذاتها.

فمثلها كمثل كل المؤسسات، قد تنزلق إلى الفساد أو تتدهور. ولكن من خلال الإشراف العام اللائق، تعمل هذه الأساليب عندما تفشل السبل التقليدية. بعيداً عن قِلة من برامج التدريب المجتمعية الجامعية الناجحة، لم تُنشَر مثل هذه الترتيبات في ملاحقة هدف الوظائف الجيدة. ولكن يمكن تكييفها لتحقيق هذه الغاية. إن مفهوم «الوظيفة الجيدة»، مثل المياه الجيدة، غير دقيق ويحتاج إلى التفعيل على النحو الذي يسمح له بالتطور والاعتماد على السياق. ويمكن تقديم استراتيجية لخلق الوظائف الجيدة في أربع خطوات.

أولاً، بموجب التشريعات أو غير ذلك من السبل، تلتزم الحكومة بالتصدي لمشكلة الوظائف الرديئة، وتعمل على إنشاء هيئة مشتركة بين الهيئات والوكالات المختلفة لمراجعة وتحسين الاستجابات التنظيمية بشكل فوري، كما توفر الأموال والسلطة اللازمة للبرامج التطوعية. ثانياً، تقوم الهيئات التنظيمية التي تتولى حالياً الإشراف على مجالات تؤثر بشكل مباشر على وفرة الوظائف وجودتها ــ التدريب المهني، والإرشاد الزراعي والصناعي، ووضع المعايير، وما إلى ذلك ــ بتقديم آليات الحوكمة الكفيلة بتحفيز الإبداع، بل وتتوقع أيضاً الحاجة إلى خدمات الدعم لمساعدة الأطراف الضعيفة على الامتثال للمتطلبات المتزايدة الصرامة. وقد تتخذ المتطلبات أشكالاً مختلفة، بما في ذلك أهداف التوظيف النوعي الكمية و/‏‏‏أو معاييره.

ثالثاً، حيثما لا تتمكن السلطات التنظيمية الحالية من الوصول، تعمل الحكومة على إنشاء برامج تطوعية مشتركة بين القطاعين العام والخاص لتعزيز حدود التكنولوجيا والتنظيم، أو ــ وربما يكون هذا أكثر أهمية ــ تقديم خدمات الدعم وربما إعانات الدعم لمساعدة الشركات المنخفضة الإنتاجية/‏‏‏المنخفضة المهارات على الانتقال إلى القطاع المتقدم. وأخيراً، بشرط نجاح الترتيبات الطوعية، يمكن جعل نطاق هذه الممارسات على نحو تدريجي إلزامياً للشركات غير المشاركة، بدءاً من إلزامها بتقديم خطط معقولة لتحسين جودة وكم الوظائف.

من السمات الجاذبة لاستراتيجية الوظائف الجيدة التي نقترحها أن مؤسسات الحكم التفاعلي نفسها التي تعمل على تمكين الأطراف من تحديد وحل المشكلات التي تواجهها في ظل عدم اليقين تعمل أيضاً على تمكينها من بناء ما تحتاج إليه من الثقة والاعتماد المتبادل لتعميق وتوسيع جهودها.

* أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي بكلية كينيدي في جامعة هارفارد، وهو مؤلف كتاب «حديث صريح حول التجارة: أفكار من أجل اقتصاد عالمي عاقل».

Email