الاستثمار في الأبحاث.. المنافع تبرّر التكاليف

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

لا شك أن عملنا لا يحتاج مصادم جزيئات جديداً على الإطلاق، فنحن بغنى عن دفع كلفاته المادية الكبيرة لمثل هذه المشروعات، والتي لم تحقق الطموحات الكبيرة المأمولة.

إذ يعد مصادم الهيدرونات الكبير، الذي بنته المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية، أكبر مصادم للجسيمات على الإطلاق، وكان مصدر آمال كبيرة عندما بني في عام 2008. وتنبأ البعض أنه سيجد الجسيمات التي تتكون من «مادة مظلمة»، يعتقد علماء الفلك أنها تشكل 85% من جميع المواد في العالم.

وتوقع آخرون أن يقدم دليلاً للتناسقيات الطبيعية الجديدة، أو أبعاداً إضافية للفضاء، أو تفسيراً للطاقة المظلمة. (التي من المفترض أنها هي السبب وراء التوسع الملاحظ للعالم).. ولكن المؤسف أن النتائج المحققة لا تشجع، فالميزانيات المصروفة عليه تشكل هدراً كبيراً، وبينما لا يؤتي الثمار المطلوبة.

بين بحيرة جنيفا وسويس جورا، يوجد على عمق 100 متر تحت الأرض (328 قدماً)، نفق دائري، تصل مسافته الخطية من حول حد منحنى مغلق إلى 27 كيلومتراً (17 ميلاً). ويحوي النفق مغناطيساً فائق التوصيل، ويسرع هذا المغناطيس البروتون بسرعة الضوء تقريباً.

ويصطدم البروتون في أربعة مواقع في النفق. ويدرس فيزيائيو الجسيمات هذا التصادم، سعياً منهم لمعرفة المواد التي يتكون منها وما الذي يجعله متماسكاً.

مَكَّن مصادم الهيدرونات من اكتشاف جسيم أولي جديد، بوزون هيغر - آخر جسيم مفقود تنبأ به العلماء (في الستينيات من القرن الماضي) في نظرية النموذج العياري في فيزياء الجسيمات. لكن هذا كان في عام 2012، ولم يكتشف أي نوع جديد من الجسيمات منذ ذلك الوقت. هل سيغير بناء مصادم آخر أكثر حجماً هذه الحقيقة؟

إن مكونات مصادم جديد تبين أن قياس مصادم أكبر قد يقيس بدقة أكبر ميزات الجسيمات المعروفة؛ ولأنه قد يصل إلى طاقات تصادم أكبر من طاقات مصادم الهيدرونات بقليل، فإنه قد يؤدي إلى المزيد من الاكتشافات. لكن ليس لدى الفيزيائيين حالياً أي سبب يجعلهم يصدقون أن مصادماً أكبر سيقدم دليلاً ليس في نظرية النموذج العياري بعد.

ضف على هذا، الثمن الباهظ للعملية، حيث ستكلف المصادمات (الدائرية والخطية على حد السواء) التي قدم من أجلها الفيزيائيون في الصين وفي اليابان مقترحات تحتاج من 10 إلى 30 سنة من البناء. بينما قد تخفض بعض وسائل التكنولوجيا التكاليف، ولم يحدث هذا بعد.

وبطبيعة الحال، قد تُبرر التكاليف إذا كانت هناك فرصة أن يحقق هذا الاستثمار منافع كبيرة للمجتمع. ولا شك أن الأبحاث التي أجريت في أساسيات الفيزياء في الماضي، حققت منافع هائلة للبشر.

إذ في القرن الماضي، مكن التقدم الحاصل في الأبحاث من تطوير جميع الوسائل الإلكترونية الصمام الإلكتروني، الليزر، الكاميرات الرقمية، ومصادر الصمام الثنائي الباعث للضوء، وربما قريباً الحواسيب الكمومية وأساليب التخيل الطبي، الأشعة السينية، والموجات فوق الصوتية، والمطيافية، والصدى المغناطيسي، والتصوير المقطعي، ومجاهر النفق الإلكترونية.

ولكن ليس هناك سبب يدعو إلى اعتقاد أن مصادماً أكبر سيحقق مكاسب. والمشكل لا يكمن في أن الفيزيائيين ليس لديهم المزيد من العمل ليقوموا به. إذ ما زالت أقوى نظرياتهم تواجه مشكلات لم تحل، وقد يؤدي المزيد من التقدم إلى تحسن جديد، خاصة في النظرية الكمومية (أساس تكنولوجيا الحاسوب الجديدة)، بل يكمن المشكل في أسلوبهم.

لقد تغيرت الفيزياء، لكن أساليب فيزيائيي الجسيمات لم تتغير: ما زالت تعتمد على الاكتشافات التي تحدث بالصدفة. وينجح هذا الأسلوب عندما تكون التجارب الاستكشافية متنوعة ومتعددة.

لكن عندما تكلف التجارب الجديدة مليارات الدولارات، وتحتاج إلى عقود من الزمن حتى تنجز، كما هو الحال الآن، ينبغي أن نكون أكثر تدقيقاً في استثماراتنا. وإلا، قد تستنزف الميزانيات بسرعة بسبب الأبحاث المكلفة التي لا تحقق أي نتيجة، مثل الاكتشافات التي تفند الفرضيات القائمة، بدل دعم الفرضيات الجديدة.

وهذا ما وقع بالضبط خلال الـ40 سنة الأخيرة. وأكد مصادم الهيدرونات تنبؤاً يعوّل عليه: هيغر بوزون. وهذا كل ما في الأمر. وعندما يتعلق الأمر بالآثار التي لا يتنبأ بها النموذج العياري، فمصادم الهيدرونات هو الأحدث في سلسلة طويلة من تجارب فيزياء الجسيمات.. وبعيداً عن تقديم أدلة للقوى المتحدة، أو تناسقات، أو جسيمات جديدة، عَلَّمت هذه المحاولات الفيزيائيين ابتكار جسيمات قياسها أكثر صعوبة.

أجل، عدم تحقيق أي نتيجة هي نتيجة أيضاً، إذ يمكنها رفض الفرضيات. لكن إذا أَرَدت طرح فرضية جديدة، فتلك النتيجة ليست مفيدة. إذ عدم الوصول إلى نتيجة هي نهاية ميتة قد يوجد الكثير منها. ومن أجل تحقيق تقدم في إدراك أساسيات الفيزياء، نحتاج إلى نتيجة ترشدنا إلى الخطوة التالية. ويستبعد أن يوفي مصادم أكبر بهذا الغرض

وهناك مجالات للبحث يرجح حالياً أنها ستصل إلى النتائج الحالية بتكلفة أقل، مثل دراسات علم الفلك للمادة المظلمة، والتجارب المتعلقة بأبحاث الجاذبية الكمية. وهذه هي المجالات التي ينبغي على الفيزيائيين التركيز عليها الآن.

وإذا كان التقدم التكنولوجي يخفض تكلفة المصادمات، أو إذا كانت التجارب الأخرى تقدم أسباباً تجعلنا نفكر أن مصادماً أكبر حجماً سيظهر للفيزيائيين جسيمات جديدة، فقد يستحق الأمر بناء مصادم جديد. لكن هذا سيحصل بعد 20 أو 50 أو 100 سنة ابتداءً من الآن. وإلى ذلك الحين، ينبغي علينا الاستثمار في أبحاث واعدة أكثر.

صابرين هوسنفيلدر  - زميلة أبحاث لدى معهد فرانكفورت للدراسات المتقدمة. وهي مؤلفة كتاب «تائه في الرياضيات: كيف يخرج الجمال الفيزيائيين عن الطريق السليم؟»

 

Email