الذكاء الاصطناعي ومستقبل العمالة

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

جميع القصص التي تنبئنا بأن «الروبوتات قادمة» تتبع نمطاً مجرباً ودقيقاً. فيصرخ عنوان رئيسي كلاسيكي: إن «مجموعة Shop Direct»، تعرض 2000 وظيفة في المملكة المتحدة للخطر.

ثم نقلاً عن تقارير جازمة صادرة عن معاهد ومراكز بحثية مرموقة، يثير المقال المذكور انزعاج الجماهير غالباً بتقديرات مفرطة عن «وظائف معرضة للخطر» ــ نسب مئوية لعمال باتت سبل معايشهم مهددة بفِعل الأتمتة (التشغيل الآلي) الفائقة التكنولوجيا. وعلى سبيل الاقتباس من عينة تمثيلية أخرى: «يقترح تقرير جديد أن المزاوجة بين الذكاء الاصطناعي والروبوتات من الممكن أن تحل محل عدد كبير من الوظائف حتى أن عصر التشغيل الجماعي للعمالة ربما بلغ منتهاه».

في بعض الأحيان، يساعد التمييز بين «الوظائف» و«المهام» في التخفيف من هذه النظرة القاتمة. فيقال إن الأجزاء الروتينية فقط من الوظائف سوف يجري إحلالها. في هذه التقييمات الأكثر تفاؤلاً لـ«مستقبل العمل»، يكمل البشر الآلات، ولا يتنافسون معها.

يعتمد هذا السيناريو المتفائل جزئياً على ما حدث في الماضي: فبمرور الوقت، خلقت الميكنة المزيد من الوظائف بأجور أعلى من تلك التي دمرتها. ويقوم أيضاً على تقييمات أكثر واقعية لما يمكن أن تفعله الروبوتات الآن (على الرغم من الخلاف حول ما قد تكون قادرة على القيام به في نهاية الطاف). علاوة على ذلك، يعتقد بعض المتفائلين أن الأتمتة سترفع متوسط مستوى الذكاء البشري. وسوف تحتاج المجموعات السكانية الأكثر ثراء وتقدماً في السن إلى جيوش متزايدة الحجم من مقدمي الرعاية، والممرضين، وعمال النظافة، والمدربين، والمعالجين.

لكن الأمر لا يخلو من سبب للحذر: فإذا تُرِكَت مكاسب الأتمتة للسوق فسوف يستولي عليها في الأساس من يملكون شركات التكنولوجيا و«عمال المعرفة» من ذوي التعليم العالي، فيُترَك بقية السكان عاطلين عن العمل أو في عبودية مادية أو فكرية. (وسوف تكون الحاجة إلى المحامين الخبراء، والمستشارين، والمحاسبين، والأطباء النفسيين، وخبراء العلاقات الإنسانية أعظم من أي وقت مضى).

وعلى هذا، فكما يحذر السرد السائد، يجب أن تُدار عملية الأتمتة بعناية وحرص لتجنب التكرار و/‏أو توسع فجوات الدخل. ثم تخلص التحليلات عادة إلى التأكيد الشديد على أن المزيد من الوظائف «الخلّاقة» والمنتجات الجديدة المثيرة مثل السيارات بدون سائق تنتظرنا في المستقبل القريب. وإذا تسنى لنا أن نتعلم ونحن نكسب، فإن المدينة الفاضلة من العمل الـمُرضي والرخاء سوف تجتذب الجميع.

إذا لم يحدث هذا، فسوف تتحول النبوءات المنتشية إلى احتمالات مظلمة: حيث تواجه المهن أو البلدان التي تفشل في احتضان الأتمتة الانقراض الاقتصادي والثقافي. باختصار، على الرغم من التهديد الذي تفرضه الأتمتة على العمل، فإن هذا التهديد يمكن التغلب عليه في إطار العمل المأجور الحالي.

تردد هذه الرواية بعض صدى الرأي الأقدم الذي يزعم أن الآلات تقدم لنا الفرصة للتحرر من العمل، وتفتح أفقاً من الترفيه النشط ــ وهي فكرة ترجع إلى قدماء الإغريق. فقد تصور أرسطو مستقبلاً، حيث يقوم «عبيد ميكانيكيون» بعمل العبيد الفعليين، مما يجعل المواطنين أحراراً لملاحقة أغراض وأهداف أسمى. وقد واجه جون ستيوارت مِل، وكارل ماركس، وجون ماينارد كينز قراءهم بفكرة مفادها أن الرأسمالية، من خلال توليد القدر اللازم من الدخل والثروة للقضاء على الفقر، تقضي على ذاتها في واقع الأمر، فيتحرر الجنس البشري، على حد تعبير جون ماينارد كينز، لكي يحيا «بحكمة وتناغم وفي رغد من العيش».

كان أهل الاقتصاد متناقضين دوماً. فهم من ناحية يعتبرون العمل المدفوع الأجر تكلفة للاستهلاك. فالآلات تخفض تكلفة العمل. وعندما يصبح الناس أكثر إنتاجية وبالتالي أكثر رخاء وازدهاراً، فإنهم سيعملون لعدد ساعات أقل. وبتعبير أكثر دقة، سوف يحظون بفرصة اختيار العمل لمدة أقل بنفس الدخل أو العمل بنفس القدر في مقابل المزيد من الدخل. ويشير النمط التاريخي إلى أنهم كانوا «يقايضون» الوقت والمال، ولهذا انخفض عدد ساعات العمل مع ارتفاع الدخل.

لكن مفهوم الوفرة المتنامية، الذي أوضحه جون ماينارد كينز وآخرون، جرى تجاوزه بفِعل التزام أهل الاقتصاد بالندرة المتأصلة. وهم يقولون إن رغبات الناس لا يمكن إشباعها، وعلى هذا فإنهم لن يحصلوا أبداً على ما يكفيهم. وسوف يتأخر العرض دائما عن الطلب، مما يستلزم إدخال تحسينات مستمرة على الكفاءة والتكنولوجيا. وسوف يصدق هذا حتى لو كان هناك ما يكفي لإطعام وإلباس وإسكان العالم بأسره. وفي الموازنة بين إسراف رغباتهم ونقص مواردهم، ليس أمام البشر خيار غير الاستمرار في «العمل في مقابل أجر» في أي وظيفة توفرها السوق. وعلى هذا فإن يوم الوفرة، عندما يصبح بوسعهم الاختيار بين العمل ووقت الفراغ، لن يأتي أبداً. بل يتعين عليهم أن «يسابقوا الآلات إلى الأبد».

الواقع أننا قادرون على الإفلات من هذا الفخ، ولكن فقط إذا قمنا بتمييزين حاسمين: بين الاحتياجات والرغبات، وبين الوسائل والغايات.

كان التمييز بين الاحتياجات والرغبات أمراً أساسياً في نظر المفكرين الأقدم عهداً. لكن في الاقتصاد المعاصر، يجري التعامل مع التفضيلات على أنها «ثابتة ومحددة»، وهي بالتالي لا تخضع للمزيد من التحقيق حول قيمتها أو مصدرها. كان المفكرون الأقدم يميزون بين «الاحتياجات الجسدية» و«احتياجات المخيلة»، فأكدوا على الطابع غير القابل للاختزال للأولى ومرونة الأخيرة. وإذا كان في الإمكان حثنا على الرغبة في الحصول على كل ما يضعه المعلنون أمامنا (على شبكة الإنترنت الآن)، فلن نكتفي أبداً.

كما ميز المفكرون الأقدم عهداً بين الوسائل والغايات. ومنتجات الآلات هي ما أطلق عليه عالم الاقتصاد ألفريد مارشال «المتطلبات المادية للرفاهية». رفاهة الإنسانية هي الغاية. ونحن نخترع الآلات لتحقيقها. ولكن من أجل السيطرة على هذه الاختراعات، لابد أن تكون غاياتنا أكثر إقناعا من مجرد الرغبة في المزيد والمزيد من المنتجات والخدمات. وفي غياب تعريف ذكي للرفاهة، فسوف نخلق ببساطة المزيد والمزيد من الوحوش التي تتغذى على إنسانيتنا.

* عضو مجلس اللوردات البريطاني، وأستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة واريك.

Email